أبريل 19, 2024

براكسيس رمادي

حيث الفكرة الحرة تقود التغيير

قراءة في كتاب تفسير الإبداع البشري

*محمد العجمي

قدمتُ هذه الورقة في جلسة قراءة للكتاب بمقهى هوملاند منتصف مايو، حيث شاركتُ آخرين في نقاش هذا الكتاب المهمّ الذي أصدره د. بدر المعمري هذا العام 2023 عن دار نثر للنشر بمسقط. وقد أجريت عليها بعض التعديلات في ضوء النقاشات التي جرت في الأمسية.

ينتمي كتاب “تفسير الابداع البشري.. كيف تمكنّا من صياغة عالمنا المادي المبهر؟” إلى حقل الثقافة العلمية، ويأتي ليغطّي نقصا ملحوظا على المستوى العربي في الكتابات العلمية المنشورة الموجّهة للجهور العام ضمن مجال الإبداع البشري وعلاقاته المعقّدة مع الدماغ والحواسّ والعالم المادّي المحيط والنظم الثقافية والاقتصادية التي ابتكرها الانسان عبر تاريخه القديم والوسيط والحديث.

هناك سؤال طرحته على نفسي وأنا أبحر داخل الكتاب، ومثّل في الوقت نفسه، صفحة ذهنية أسجّل فيها العلاقات والروابط بين مباحث ومفاهيم الكتاب، وهو: ما الفرق بين قصيدة تكتب في سنة وسنتين أو ثلاث، وبين قصيدة تكتب في جلسة واحدة وبنفَس واحد؟ الأمر يمكن قياسه على أي عمل إبداعي، والسؤال في الحقيقة هو إعادة صياغة لسؤال أوضح: من أين يأتي الإبداع؟ الكتاب يحاول أن يجيب على هذا السؤال بشكل أساسي ربما.

يتناول الكتاب رحلة الابداع البشري من عصور ما قبل التاريخ؛ عبر سبر قصّة أشباه البشر وصولا إلى الإنسان العاقل قبل 80 ألف سنة وإلى عصر الزراعة ونشوء الحضارات وصولا إلى عصر الكتابة والتدوين مع بداية الألف الثاني قبل الميلاد. “تفسير الابداع البشري”؛ كتاب علمي بنفَس أدبي يروي قصّة الابداع البشري من أقدم جذوره إلى عصرنا؛ عصر الشبكات الاجتماعية والذكاء الاصطناعي. فهو لا يتمركّز حول قضية جدليّة أو نقديّة بقدر ما يمثّل حقيبة معرفية تقدّم للقارئ موجزا عن أهمّ ما كُتب حول الابداع البشري. والقارئ هنا يرفع لياقته المعرفية حول موضوع معقّد كالإبداع؛ ملتقى لعدد كبير من الاختصاصات والحقول المعرفية.

ربما أفضل تقديم للكتاب هو عبر قراءته وتقديمه في حلقات تروي قصّة الابداع نفسها التي تحدث وفصّل فيها الكاتب في كتابه الذي عمل عليه لأربع سنوات من الجهد المتواصل؛ نفّذ خلالها زيارات علمية وبحوث على أكثر من موضوع ومادة، فجاء الكتاب كبير الحجم (545) صفحة موزّعة على خمسة فصول مثّلت مداخل مختلفة للموضوع، وهي: التفسير البيولوجي، والتفسير الأنثروبولوجي، والتفسير المادي، والتفسير الأبستمولوجي، والتفسير الاقتصادي. والكتاب مدرسي في بعد من أبعاده؛ يهمّ كثيرا طلّاب الفنون التشكيلية، والمشتغلين بالإبداع والفنّ والجماليّات البصرية، والجمهور العام بطبيعة الحال.

هناك مداخل عديدة يمكن عبرها تناول ظاهرة معقدة كالإبداع البشري، ولعلّ هذا واضح من خلال كثرة الكتابات التي تحاول أن تفهم وتشرح الابداع والدماغ؛ وخصوصا في العقود الأربعة الأخيرة. فهناك المدخل التاريخي حيث يتم التركيز على تطوّر الظاهرة عند الانسان، وهناك المدخل الفني حيث يتم الانطلاق من عمل فنّي أو من مدرسة فنيّة، وهناك المدخل السيكولوجي حيث يبدأ الباحث من الأبعاد النفسية للظاهرة، وهناك المدخل التربوي الذي يهتم بتنمية الابداع وإكسابه للمتعلمين. بعض العلماء ينطلق من مدخل غيبي ما ورائي، ويكون التركيز على التفسيرات الروحية والمعنوية للإبداع. وهكذا. ولكن المؤلف هنا؛ أستطيع أن أقول إنه استعمل المداخل هذه كلها. بحيث يكاد كل فصل من الفصول الخمسة يكون كتاب مستقل بذاته يتناول أحد مداخل الموضوع أو ربما يمزج بينها. وربما هذا يصنع طابع بانورامي للكتاب؛ كونه معني بتقديم الموضوع للقارئ من جميع الزوايا الممكنة.

الكتاب يحاول أن يبتعد ما أمكن عن الكتابة التقريرية ما أمكن، ويقترب من الكتابة الأدبية؛ حتى على الرغم من كونه كتابا علميا. ما يجعله مشوّقا ومشجّعا لمواصلة القراءة، ويمكن لأي قارئ أن يستمتع معه بغض النظر عن ثقافته. لهذا الكتاب ينتصر للجمهور العام من القرّاء، وربما هذا سيجعله في خصومة مع المتخصصين. وخصوصا مع غياب العناوين الداخلية، ومع الاقتصاد الملحوظ في الهوامش والإحالات، والفهارس بنهاية الكتاب. استعان المؤلّف في ثنايا كتابه بلوحات وصور محلّ التناول والنقاش في العمل؛ ما أضفى على الكتاب بعدا بصريا؛ مع عدم التركيز على التقسيمات والتبويبات المنطقية التي ترتب البناء وهيكل الكتاب؛ على عادة الكتب الأكاديمية.

شدّني في العنوان كلمة “تفسير”. التفسير ينطوي على ثقة تدلّ على اكتمال النموذج العلمي (البارادايم) لدى الباحث؛ بحيث بات من الثقة فيه بحيث يحقّ له أن يعتبره مفسّرا للظاهرة. ولكن الكلمة يمكن أن تدلّ أيضا على ما أشرت إليه آنفا عن الهمّ البيداغوجي للمؤلّف كونه أستاذا جامعيا. فهو لا يطرح موضوعا نقديا جدليّا؛ يمكن بالتالي أن يكون موضوع اصطفاف ينتصر فيه المؤلّف لأحد التيّارات. ما يجعل العنوان “تفسير الابداع البشري” هنا معادلا لشيء مثل “قصّة الإبداع البشري”، أو “رحلة الإبداع البشري”، فالكتاب يعرض رحلة طويلة يأمل من خلالها أن تقدما تفسيرا للإبداع البشري.

كلمة البشري في العنوان؛ أيضا مما يلفت الانتباه. لماذا لا يكون عن الإبداع الإنساني؛ بما لكلمة الإنسان من حمولة إلهية؟ أو الإبداع فقط بدون تحديد إضافي؟ الكتاب أيضا يركّز على الفنون البصرية؛ فلماذا لا يكون “الإبداع البصري”؟ وبغض النظر عن كل ذلك؛ فالعنوان مما يعطي انطباعا بأن هناك إبداعا غير بشري لا يريد المؤلف أن يتطرّق إليه. ولعلّي هنا أفترض بأن المؤلّف يريد أن ينتصر في الكتاب إلى المقاربات المادّية للإبداع، وبالتالي فيمكن أن نفترض منذ البداية أن الكتاب يريد أن يتحاشى المقاربات الفلسفية أو الميتافيزيقية. على اعتبار أن حقل الابداع غير البشري ما يزال مجالا للنظر الفلسفي. وهنا أقصد تحديد ما تنتجه الآلات والذكاء الاصطناعي، أو بعض الظواهر في الطبيعة الدالّة على ذكاء النبات والحيوان. وهي مجالات خصبة في فلسفات ما بعد الحداثة. الكاتب يريد أن يبتعد ليركّز على الدراسات ذات الطابع المادّي العلمي الواضح، وربما العنوان الفرعي للكتاب يدلّ على ذك: “كيف تمكنّا من صياغة عالمنا المادي المبهر؟”.

يمكن أيضا أن نتلمّس مرحلة متقدمة من metacognition داخل الكتاب، أو التفكير في التفكير نفسه. يعني محاول لتنظيم التفكير في الظاهرة الابداعية عبر مراقبة وتحليل وفهم هذه الظاهرة؛ وصولا إلى ممارستها. أن تمارس الإبداع وأنت على وعي بماهية هذا الإبداع. هناك نوع من التشجيع على إلقاء نظرة من داخل الظاهرة نفسها، بلملمة شتات التفكير في الابداع، وبالتالي تحقيق وعي نقدي أكبر بها، بحيث يفهم المبدع نفسه وهو يشتغل على عمله؛ أين هو مكانه داخل عملية التخليق والابداع؟ ربما الفصل الثالث عن قوانين الابداع هو الأكثر وضوحا هنا. النظريات والمدارس والمفاهيم تتحوّل هنا إلى أدوات تساعد على الإبداع. ومن هنا أجد الكتاب مهما لكلّ من يشتغل في حقول الإبداع، أو يريد أن يفهم أين هو الإبداع، وخصوصا مع الأمثلة الكثيرة التي يستعرضها المؤلف للكثير من الأعمال والأشكال الإبداعية.

هناك مسألة أربكتني قليلا في رحلتي مع الكتاب، وهي علمي بأن الاختلافات في الآراء هائلة في موضوع فهم من أين يأتي الإبداع عند البشر. هذه التضاربات الكثيرة في الآراء؛ وبالرغم أن المؤلّف كان حريصا على توضيحها، والإشارة إلى العلماء المختلفين، ولكنه بدا لي وكأنه يريد أن يحمي قراءه من الدخول في معمعتها؛ ربما لئلا تشوّش عليهم الصورة العامة التي يريد أن يساعد القارئ على رسمها عن الإبداع البشري. كان بودّي أن أرى إحالات تساعدني أكثر على استيعاب هذه الاختلافات في وجهات النظر. يمكن مثلا أن أذكر هنا: مسألة اللقيات وأدوات الصيد التي وجدت في الكهوف وتعود إلى عدّة عشرات الألوف من السنين. أيضا مسألة العلاقة بين قابليّة التحليل وعلاقتها بتنظيم نواقل عصبية كالدوبامين، وكذلك التفاعل والروابط التي أقامها الانسان المنتصب مع باقي أشكال الحياة، ودور ذلك في مسألة بنية الدماغ وكثرة نقاط التشابك بين الاعصاب، والذي بدوره يفسر الابداع. أريد أن أعود إلى جذور إلى هذه الاختلافات.

في التفسير المادي أربكني قليلا المقصود بكلمة المادي، إذ لم يهتم المؤلّف كثيرا بتوضيح مراده منها، وإن كان المعنى يتجلّى أكثر مع التقدّم في الكتاب؛ ليشير إلى العلاقات المادية داخل ظاهرة الإبداع؛ مع الطبيعة والواقع الخارجي للإنسان، وهذا يشمل العلاقة مع الخامات والمواد والقياسات والملاحظة. ولكن أيضا المادية قد تعني الاستهلاك والتملّك، وهنا سنسأل عن علاقة الابداع بالاستهلاك، كما أن المادي قد تشير إلى تركيبة الدماغ وسوائله ومادّية التفاعلات التي سنسميها الابداع، وهي هنا في مقابل دور الحدس والإلهام والوحي في الابداع. وماذا عن التراث غير المادي، أو تأثير الجوانب الثقافية في الإبداع. هذا يجعلني أسأل عن حدود هذه المادّية.

وربما أربط هذا التركيز على التفسير المادّي للإبداع بسيطرة الخلفيّات المعرفية للعلوم الغربية على أدوات الكاتب. وبالتالي تأثير الماورائي في الإبداع سيكون بالضرورة ضعيفا، وهو عموما نزوع له ما يبرره، على اعتبار أن إقحام الماورائي في مشهد الإبداع بالكاد سنستطيع أن نعتبره تفسيرا، وإن كنت أظنّ أنه يمكن أن يكون أحد مباني الكتاب لو قبل المؤلّف قليلا الفلسفة داخل كتابه. وخصوصا أن ما يعرف اليوم بالماديّة الجديدة؛ تمزج ما هو مادي بما هو غير مادّي. وهناك تأويلات واعدة تقدّم إطارا ربما يكون أكثر شمولا لفهم الظاهرة الإبداعية.

وأخيرا وبطبيعة الحال؛ أجد من نافلة القول الحديث عن موضوعية المؤلّف. فهو باحث أكاديمي؛ يحاول أن يخلص لبحثه بعيدا عن أيّة عوامل ثقافية أو اجتماعية. وهو واضح في مقابلته بين أنصار التصميم الذكي وأنصار نظرية التطور. فكان يذكر تأثير الفكرتين في فهمنا للإبداع، وهو وإن كان يرجي مسألة الحكم على مصدرية الإبداع البشري؛ والذي ظلّ مصدرا غير مادي؛ ربما حتى حدود صياغة داروين لنظريته عن النشوء والارتقاء منتصف القرن التاسع عشر. ولكن ما بعد ذلك كان جديرا بالانتباه مع اجتياح الطريقة العلمية لمعظم حقول التفكير. وهذا يقودني للنتيجة بأن الأمر واضح بالميول التجريبية لدى الكاتب على حساب التأويلات الصوفية أو العقلانية الديكارتية التي يرى أنها لم تعدّ حاضرة بقوّة في عالم اليوم. وإن كانت اللسانيّات وفلسفات ما بعد الحداثة باتت تستلف اليوم الكثير من ديكارت.

وربما كنقطة أخيرة أراها جديرة بالذكر هنا، وهي أنه بودّي أن أرى هذا الكتاب على شكل حلقات مرئيّة، إذ يليق به كثيرا أن يتحوّل إلى وسيط آخر غير الكتاب، وهذه دعوة للمهتمين للاستفادة من موسوعيّة المؤلّف في هذا العمل الاستثنائي عمانيا؛ للحوار حول موضوعات الابداع البشري الذي يزداد الطرق عليه مؤخرا؛ مع ارتفاع وتيرة الحديث عن الذكاء الاصطناعي، وحدود الابداع البشري مستقبلا.

  

Visits: 21