فبراير 11, 2025

براكسيس رمادي

حيث الفكرة الحرة تقود التغيير

العتبة مفهوم إنساني.. بحث حول أنطولوجيا العتبة

* نشر البحث في العدد التاسع من مجلة ثقافة – يوليو 2024، وزارة الثقافة والرياضة والشباب، سلطنة عمان

مقدمة

تقع العتبة كمفردة أو كمصطلح داخل حقول تفكير كثيرة، إذ لا يكاد يخلو حقل علمي من استعمال للكلمة لوصف حالة معينة داخل الظواهر التي يعالجها هذا الحقل أو ذاك. ولكنها غالبا ما ترد كمفهوم مفروغ منه وبات مسلّم به ليستعمل كلازمة إضافية لوصف ظاهرة ما في العلم، كعتبة الألم أو عتبة الصوت أو عتبة المعرفة أو تأثير العتبة أو أي عتبات أخرى؛ مكانية أو زمانية، كمّية أو نوعية. تماما كما تستعمل ثقافيا كحالة واضحة ومنتهية داخل موضوعة ثقافية محلّ الاشتغال؛ كعتبة الشاعر أو عتبة الصوفي أو العتبة في المعمار أو عتبة النسيان، وقلّما يجري تناولها هي نفسها كمادة للتفكير والتأمّل، وهذا ما تهدف إليه هذه المقالة البحثية؛ تقديم تصوّر عام لما يمكن أن يكون عليه التفكير في العتبة؛ علميا وفلسفيا.

العتبة في جوهرها تكشف عن حالة اضطراب محددة داخل نظام ما؛ انكسار في النظام ما يزال غامضا. التعامل مع العتبات يكاد يكون يوميا في سياقات الحياة المعيشة المختلفة. عتبات في الصحة، والاقتصاد، والفيزياء، والطقس، وكذلك عتبات في النفس، والمجتمع، والمعمار، والفنون. منها ما أصبح معلوما ومنتهيا، وربما منسيّا من الناحية العلمية، ومنها ما يزال غامضا ومستفزّا للعقول والقرائح. عقلنة هذه العتبات هي الشغل الشاغل للعلم؛ لتحويلها إلى أرقام وكمّيّات أو علامات. التعامل مع هذه العتبات المجهولة، والتفكير فيها بشكل منهجي؛ يتطلّب قدرا من الإعداد والاستعداد، والحساسية الذوقية، وقدرا من التفكير العلمي السببي.

ثمّة إمكانيّات داخل الكلمة يمكن استثمارها في تنشيط التفكير في قضايا معرفية ووجودية مختلفة، وخصوصا تلك التي ما تزال تقع خارج الاهتمام العلمي، أو ما تزال محصورة ضمن دائرة العلم الزائف، أو المشكلات البينية المشتركة بين عدٌة حقول، أو المسائل الواقعة عند حدود الفكر واللغة، وحدود العلم الموصوف، ومن أمثلة ذلك التحوّلات الاجتماعية، وقضايا تغيير الأديان، ومسائل الانتماء والاغتراب، والعزلة، وقضايا الاندماج، ونمذجة العلاقات البينية. اكتشاف هذه الإمكانيات يستدعي التفكير بطريقة علمية في العتبات، ولكن هذا الأمر ليس بالأمر اليسير؛ بالنظر إلى التحديّات الكثيرة التي تحيط بالعتبة كما ستحاول هذه المقالة التركيز أن تثبته، وهذا يستدعي الالتفات إلى خطوة أسبق على التفكير العلمي، وهو التأمّل الأنطولوجي في مفهوم العتبة؛ لتجهيزه للتعامل الأبستمولوجي العلمي.

ستبدأ المقالة بالتركيز على الاستعمالات اللغوية والثقافية لكلمة العتبة قبل أن تغوص عميقا في تجربة العتبة كعبور وتجاوز لحالة وجودية معينة، لمعرفة أين تقع العتبة داخل خبرة النفس البشرية. وهذا يساعد في إدراك أهمية التفكير العلمي في العتبة. دراسة هذه الاستعمالات السياقية للعتبة؛ لغويا وثقافيا ونفسيا وعلميا؛ يبدو وثيق الصلة بالتحديد الأنطولوجي للعتبة بحسب بعض الدراسات التي تبحث في علاقة الأنطولوجيا بالتداوليّات (Lohse, 2017) (Mitchell, 2018) (Robus, 2018) (Antoniou, 2021)، وأكثر ما تكون مفيدة عندما لا يكون الموضوع قيد البحث واضحا ومتمايزا، واللغة ما تزال عاجزة عن الإحاطة بالموضوع (أوبلوش، 2019)؛ كما هو الحال مع العتبة. فتحديد الاستعمالات السياقية سيكشف عن الاعتبارات الأنطولوجية، وما يجب التركيز عليه في التأمّل الفلسفي في العتبات كحالة وجودية في النفس وفي الطبيعة. بل ويجعل هذه الأنطولوجيا أكثر قابلية للتوظيف في البحوث العلمية اللاحقة.

 

العتبة في اللغة وفي الثقافة

ارتبطت كلمة العتبة والعَتب والعِتاب لغويا بمعاني الشدّة ومواطن الكراهة والانتقال المتقطّع الصعب، ففي العربية؛ العتبة أسكفة الباب التي توطأ، “وإنمّا سمّيت بذلك لارتفاعها عن المكان المطمئن السهل” (ابن فارس، 1979، ج4، ص 225)، والعَتَب الدرج، والعتْب العرج في المشي، والعَتوب من الإبل العرجاء في المشي، وعَتَب الأقطع عتْبا إذا مشى على خشبة، والعِتاب والمعاتبة ملاومة، والعُتبى والإعتاب الاسترضاء بعد السخط ورجوع المُستعتِب إلى محبّة صاحبه، وأعتَب العظم أي أفسد جَبره في أوّل بُرئه، وعتَب السيف التواؤه، والعتَب في الشيء العيب والنقص والفساد فيه. ويحمل الشيء على عتبة من الشدّة، وعتَب الأرض المرتفع الغليظ منها، والعتب بين الجبلين المسافة بينهما، واعتَتَب الطريق إذا ترك سهله وقصد المشي في وعرِه، وعتّب الشيء إذا عابه ورماه بالنقص، وعتّب البيت أي صنع له درجات ونحوه، والعتيب المتروك الذي لا يلتفت إليه. الاسم عُتْبة تعني منعطف الوادي كما تعني الرضا (ابن منظور، 2003، ص 22).

وفي القرآن الكريم؛ ورد الجذر “عتب” في خمسة مواطن؛ جميعها كخطاب بلطف للمقصّر لتذكيره بما لا يُستحسن منه. وبحسب معجم الدوحة التاريخي؛ فأقدم ذكر لكلمة “عَتَبة” جاء في أحاديث نبوية شريفة لتشير إلى خشبة الباب؛ ومنها حديث عائشة في حق أسامة بن زيد: “عِندَما عَثُر أسامةُ بعَتبةِ البابِ فسقَطَ حتى جُرِحَ في رأسِه”، فقام إليه النبي (ص) يمصّه، وكذلك حديث عائشة عن اعتكاف النبي: “كان رسول الله (ص) إذا كان معتكفا في المسجد لا يدخل البيت إلا لحاجة. قالت: فغسلت رأسه وإن بيني وبينه العتبة” (معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، 2024). وكذلك في حديث ابن عباس بصحيح البخاري عن قصّة نبي الله إبراهيم (ع) مع ابنه إسماعيل (ع)؛ عندما دعاه ليغيّر عتبة بابه، أي أن يبدّل زوجته (ابن كثير، 2003، ج1، ص 357). وإلى المعنى المكاني هذا نفسه؛ ترد العتبة ‏في الإنجيل الشريف؛ فالعتبة دائما هي عتبة مكانية؛ باب من الخشب لعتبة منزل. قد يكون منزل الرب، أو منازل العبرانيين وهم يرشّون الدماء على أعتاب أبوابهم ليلة الفصح قبيل خروجهم من مصر (قاموس الكتاب المقدّس، 2024).

في اللاتينية تشير الكلمة limen إلى المعنى نفسه المشار إليه عن الخشبة أو قطعة المعدن أو الحجر التي توضع حوالي الباب لتدعمه حتى لا يسقط. ولكنها تعني أيضا المدخل، أو الشروع والبدء، كما تعني الإنهاء والتوقف، ومنها أيضا الكلمة limit التي تعني الحدّ والنهاية، والكلمة eliminate التي تعني الحذف والاستبعاد، والكلمة liminal التي تعني الحدّي أو البقاء عند الحد بين منطقتين، والكلمة līmus التي تعني الميلان والانحراف والتشكك (Wiktionary, 2023). الكلمة sublime التي تشير إلى الشيء الجليل والسامي والفخم؛ تعود إلى نفس الأصل اللاتيني الذي يعني الصعود والترقي إلى الحدّ والنهاية.

في الانجليزية؛ تستعمل الكلمة threshold لتعني المدخل والحد والنهاية والخشبة أو الحجر تحت أو أسفل الباب، كما تستعمل لتعني حافّة الشيء أو المكان. في الإنجليزية القديمة؛ استعمل الجزء الأوّل thresh ليشير إلى النسف والسفّ وضرب القشّ ودوسه لنخله، كما استعملت للدلالة على عملية فصل البذور وقت الحصاد بالضرب الذي يصدر صوتا، وكذلك لتدل على الحد بين منطقتين (Merriam-Webster, n.d.). أما اللاحقة -hold (وأحيانا -old، و-wolde، و-cold) فأصلها يبدو غامضا، غير أن الجذور الجرمانية للكلمة (threskana، وthreskjǫldr) تجعل هذه اللاحقة تحتمل معنى الأداة المستعملة في ضرب القش، أو المكان عند حافة الحقل أو الغابة أو الحدّ من مكان السكن حيث يتم نسف الحصاد (Liberman, 2015).

يمكن أن نلاحظ أن العتبة من المفردات القديمة في جميع الثقافات تقريبا، بل ومن المفردات المؤسسة للفلسفة عند الإغريق، وللأنثروبولوجيا بالقرنين الثامن عشر والتاسع عشر (Szakolczai, 2018)، وغالبا ما يكون لكلمة العتبة جذور في كلمات تحمل دلالات الانتقال المُجهد من مكان إلى مكان، أو من حالة نفسية وروحية إلى أخرى. الملاحظة المهمة هنا أن الانتقال والتحوّل يكون صعودا وليس نزولا. يمكن أن نلاحظ ذلك ليس فقط في التتبع اللغوي للمفردة، بل وأيضا في الكثير من الأساطير والتقاليد لدى شعوب العالم. بل إن تتطوّر الكلمة وانتقالاتها الزمنية ارتبط أصلا بالممارسات الفولكلورية. وتكاد تكون هذه الممارسات متقاربة بين الشعوب؛ كالطقوس المرتبطة باجتياز عتبة الباب، أو تلك المتصلّة بالأضاحي والعبادة للوصول إلى والدخول على عتبات الربّ، أو العادات المتصلة بالزواج والولادة والوفاة.

في الثقافة العربية، كانت القبائل في الجاهلية تعزف عن المرور تحت عتبات البيوت لأنها مسكن الجن أو مكان الشؤم، فاخترعوا أبوابا من الخلف، ولهذا يشير القرآن الكريم في الآية: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا) (عبد الحكيم، 2017). ومن هنا جاءت الأضحية أو القربان الذي يجب أن يُقدّم لوجه الربّ قبل اجتياز الباب؛ لرفع النحس وطرد الشيطان وتجاوز الخطيئة الكامنة في لحظة عبور العتبة. ويمكن هنا أن نلاحظ بعض التقاليد عند الشعوب المختلفة، فعند الإغريق والرومان؛ يوضع الطفل حديث الولادة على عتبة الباب، وإذا مرض فإنه يغسّل من عين الشيطان عند العتبة، وإذا مات فيدفن تحت العتبة. وفي الثقافة اليابانية؛ اجتياز العتبة يتم وفق طقوس خاصة لأن الإله يقف عند العتبة أو لأن رأس المعلّم مدفون تحتها لحماية الدار من المغفّلين والمذنبين.

في روسيا وأوروبا الشرقية؛ فإنه ليس من التهذيب أن يتم الترحيب بالضيف وتحيّته أو توديعه وهو ما يزال عند العتبة، وعند الأوروبيين؛ على الزوج أن يحمل زوجته وهو يدخل عتبة منزلهما الجديد؛ حتى يرفع عنها مشقّة عبور العتبة الجديدة في حياتها. الليتوانيّون كانوا يدفنون صليبا تحت العتبة عندما يبنون بيتا جديدا، وعند الفرس في الفترة الصفوية فإنه لا يجوز الوقوف على العتبات إلى القصور والأضرحة والأماكن المقدّسة. في الفارسية؛ الكلمة آستانه تشير إلى المعنى نفسه للمنطقة الفاصلة بين ساحتين متمايزتين، ومنها اشتقّت “الأستانة”؛ أحد أسماء القسطنطينية بعد سقوطها بيد العثمانيين. ربما لتكون العتبة بين آسيا وأوروبا. في شمال إفريقية؛ الوقوف عند العتبة بغير موجب أمر مذموم، وإبقاء الزّائر أو السّائل ينتظر دون عبورها ينطوي على قلّة كياسة، وتحمل محمل الإهانة. أمّا التعثّر في العتبة، فيؤوّل على أنّه نذير شؤم يحذر من مغبّة دخول الفضاء واتّخاذه سكنا (صولة، 2005).

إن ما يجمع كل هذه الطقوس والتقاليد ارتباط العتبة بالغموض الذي يستدعي التهيّب والتوتّر عند اجتياز العتبة، وهذا ما يشير إليه المعنى اللغوي للكلمة بحسب العرض الذي قدمناه آنفا. هذا الغموض الذي يصنع حدودا بين منطقتين؛ إحداهما آمنة وواضحة، وأخرى مجهولة تثير التوتّر. وهكذا فيجب التعامل بحذر مع العتبة، إذ لا يمكن اجتيازها إلا بمشقّة وتعب. يقسّم بعض علماء الأنثروبولوجيا شعائر العتبة إلى ثلاثة مراحل: شعائر الانفصال، ثم شعائر الانتقال، ثم شعائر الاندماج (Szakolczai, 2018). هذه المراحل الثلاث تصنع الاحتفائية التي يمكن ملاحظتها في طقوس العتبة، وتعطي للمفردة قدسيّتها وخطورتها. فبعد التدرّب والتهيئة على مغادرة المكان القديم، والنجاح الذي تحقق خلال مرحلة العبور؛ يستدعي الاحتفال الذي يمهّد للاندماج في المكان الجديد. المرحلة الثانية هي الأخطر؛ لأن العتبة هناك، حيث يتم تعليق الحكم والنظام والبنية للفرد أو للجماعة.

هذا التصوّر الأنثروبولوجي لمفهوم العتبة لا يعني بالضرورة أن هذه المراحل ستكون واضحة دائما للشخص وهو يجتاز العتبة. إذ أن العتبة هنا تحمل دلالة زمانية؛ تماما كما تحمل دلالتها المكانية. ويمكن هنا أن نضرب أمثلة كثيرة في عتبات المعرفة كما شرحها توماس كون في مفهوم “تحوّل البارادايم” بكتابه بنية الثورات العلمية (كون، 2007). فمرحلة الانفصال تبدأ عندما يواجه العلماء مشاكل لا يمكن حلّها بحسب النموذج العلمي السائد، ومن ثمّ تبدأ المرحلة الانتقالية بتقديم اقتراحات وحلول خارج النمط القائم. نجاح هذه الاقتراحات في تقديم حلول وأجوبة صحيحة أو مقنعة هو ما سيصنع النموذج العلمي الجديد الذي سيحتاج إلى دعم بأدلّة أخرى كثيرة ستمثّل مرحلة الاندماج مع النموذج الجديد.

 

خبرة العتبة

ترتبط العتبات بالتعب والنصب والتحدّي والتحوّلات الوعرة. بالانتقال الحرج من طور إلى طور. بالدخول أو الخروج من وإلى مرحلة جديدة. بالتغلب على الخوف للعبور. بتوطين النفس على الغموض لبعض الوقت. بالانفتاح على الإمكانات القادمة. لهذا هي لحظة لاعقلانية، لأنها تتطلّب جرأة على الإقدام، وتأتي بعد تعطيل؛ يزيد أو ينقص؛ للتفكير المنطقي الخطّي المستمر، من أجل إحداث التفاف على العقل المتردد؛ لتحقيق الانتقال. أكثر من ذلك؛ الوعي نفسه ما هو سوى رحلة مستمرة بين العتبات، فأن تعي هو أن ترى ما هو أبعد من الذات (Wheelwright, 1953, p. 57)، وهكذا كلما كانت العتبة صعبة ومجهدة؛ كلما كان الوعي عميقا، ويكون الإنسان إنسانا بقدر العتبات التي اجتازها. عبور العتبة والتفكير فيها يستدعي ملَكة الخيال، فهي لحظة شاعرية؛ تفيض بمشاعرٍ متفجّرة تزيد من توغّل العبور في النفس. تكثيف شديد لزمن طويل في حيّز صغير من الوجود. الأمثلة هنا كثيرة، كتجارب الحب القاسية، أو الفقدان للأقارب والأصدقاء، أو التحولات الدينية والمذهبية، أو حالات الانهيار النفسي، أو الهجرة القسرية، أو تجارب الإدمان، أو تجربة السجن.

العتبة تشبه العدمية من نواح عدّة. فالعدمية سلب للوجود، والعتبة سلب للحضور والاتصال. العدمية تكون حين يعدم العقل طريقا للفعل والظهور، وهذا هو الحال عند العتبة. الزمن يتوقّف في اللحظتين؛ يفرغهما من أي محتوى. الأحكام الأخلاقية والجمالية تتعطّل في اللحظتين. كلاهما تشبهان حالة الحرب. أو حالة الثورة وانهيار النظام. وكلاهما يجب أن تكونا وضعا مؤقتا. ولكنه يتكرر. والذات في الحالتين؛ العدمية والعتبة؛ تتوقف عن كونها ذاتا؛ لأنها تذوب داخل موضوعها الذي لن يكون سوى لحظة العبور نفسها. تصهر العتبةُ الذات والموضوع في كينونة هلامية غير متشخّصة ([1]). الأمر يشبه الولادة الجديدة. الذات والموضوع هو هذه الولادة نفسها. والفاصلة لم تتحقق بعد؛ لأن الذات بالكاد تصطدم بالحياة وتتعلمها. كل ولادة لا بدّ وأن يأتي معها ألم. وهذا يعيدنا إلى التحديد اللغوي لكلمة العتبة؛ يوجد أصلا قدر من السلب كما مرّ؛ عبر ارتباط المعنى في العتبة بالشدة والصعوبة والتوثّب والقلق.

وربما لهذا السبب يلاحظ والتر بنجامين في كتابه “مشروع الأروقة” أننا أصبحنا أقل عيشا لخبرة العتبات مقارنة بالسابق (Benjamin, 1999, p. 494). لم نعد اليوم؛ بحسب بنجامين؛ نعيش خبرة العتبات كما كان يعيشها الأسلاف، فقد ارتبطت لديهم بمناسبات واحتفالات كثيرة؛ دينية واجتماعية وموسمية، ومعظم هذه المناسبات إما أنها أصبحت طي النسيان أو أُفرغت من محتواها. بنجامين يلاحظ شيئا مهما آخر أيضا في العتبة، وهو إمكانية العودة (Benjamin, 1999, p. 86). وبالرغم من أن العتبة توحي بشكل ما أن التراجع ما عاد ممكنا، لأن التحوّل الذي يتحقق بعد نجاح العبور دائما ما يكون في اتجاه واحد، غير أن ما يلاحظه بنجامين هنا هو أن العتبة تطرح نفسها كمفصل داخل نظام يستدعي تكرار التوقّف عند هذه العتبة. موقع يكون موضع تردد للناس للتزوّد؛ سوق أو بئر أو ساحة للاحتفال أو مجلس عام للتجمّع، فالأسواق كانت قبل ذلك عتبات (Teyssot, 2005). العتبة ستكتسب هنا أهمية تجارية ودينية وسياسية. بسبب الحاجة إلى العودة إليها.

العتبة أيضا ترتبط بالصوت بحسب والتر بنجامين (Benjamin, 1999, p. 87). صوت ما يصدر عند العتبة يدل عليها وترتبط به كلازمة. في الغالب الصوت هو صوت تنبيهي؛ كصوت جرس المنزل، أو الناقوس في الكنائس، أو الأبواق في المواسم، أو إطلاق المدافع والبنادق في المناسبات أو في الجنائز العسكرية. يمكن أن نضمّ هنا الأذان وصوت الطبول في شهر رمضان وفي الأعياد بالبلاد الإسلامية. الصوت هنا يجب أن يدل على الرهبة. فهو ليس صوتا ناعما، بل صادما، وربما مزعجا بحسب والتر بنجامين. هذا الصوت الذي يكون مجلجلا هو من قبيل الإعداد أو الاستعداد للدخول. ليس أي استعداد، فهو مقترن بإعداد العدّة لأن القادم ليس عاديّا.

القادم مع العتبات فعلا ليس عاديا، فالعتبات دائما حبلى بالمفاجآت، والمفاجآت منبت الإمكانات. وكل إمكان هو وجود بالقوة. العتبة بشكل من الأشكال طريق الانتقال إلى الوجود بالفعل. الشعور المصاحب لتجربة العتبة يكون غامرا. النفس لحظتها واقعة تحت سيطرة كيان افتراضي؛ يمكن أن يكون أنا إلهية. ذات متعالية اختبارها لاذع وربما حارق. العتبة قد تقع بين شخصين. بين لحنين. بين وجودين. بين حدثين. ومع ذلك؛ لا تنتمي لأي منهما. انكسار في المكان والزمان يصنع طرفين متباينين، وفي الوقت نفسه متعالقين بشكل لازم؛ كوجهي ورقة. في هذا الانكسار يولد الشعر والفن، ويولد الألم، وتولد المعجزة، ويكون الابتكار. الولادة تتم داخل العتبة، والوفاة أيضا تتم داخل العتبة. وثمّة عتبة ما تفصل النوم عن اليقظة، بل العتبة تقع دائما بين عالم الحلم وعالم الواقع (Teyssot, 2005, p. 90). إما أن المرء كان في حلم ويعبر العتبة ليصل إلى الواقع، أو العكس. بعض الدراسات التي اشتغلت على لحظات العبور هذه في تجارب التأمّل؛ أكّدت على ذلك التلاشي والحضور الجديد في قالب روحاني شفاف، يتوقّف فيه المبحوث عن التفكير الذي يصبح شكلا من النكوص والتراجع عن النورانية المكتسبة بعد مجاهدة طويلة، كالتأمّل في شاشة لأكثر من (12) ساعة يوميا ولعدّة أشهر، أو في مشهد بصري يدمج بين المرايا وصورة معيّنة (Forte, Brown, & Dysart,, 1984-85).

العتبة ستكون لحظة لحبس الأنفاس، أو ربما لالتقاط الأنفاس. قرارات مهمة وحاسمة يجب أن تتخذ عند العتبة. العبور الذي يستدعي ظهورا مختلفا؛ شخصية جديدة أو عنوانا غير مسبوق. لحظة قد تضطرّ بالمرء لأن يترك شيئا ما منه بالخارج قبل الدخول؛ حذاء أو سلاحا أو فكرة. أو ربما بالعكس؛ سيكون عليه أن يتّخذ وِردا أو طلسمة للعبور، أو يرتدي زيّا خاصّا وهو يدخل. استقبال العتبة هي لحظة لايقين، واستدبارها لحظة يقين، والعبور من اللايقين إلى اليقين؛ بقدر ما هو شعور فخم وامتلاء عظيم، هو في الوقت نفسه شعور بالمسؤولية تجاه الحياة ورغبة شديدة في التمسّك بكل لحظة والعناية بكل التفاصيل التالية. كالعائد من تجربة موت رهيبة. ومن هنا تكتسب تجارب العتبة أهميّتها البحثية.

يتصل عبور العتبة بالوحدة والعزلة؛ بالتفرّد. لأنها لحظة مجازفة لا يخوضها الجميع. إنها تجربة منفردة؛ يتّكل فيها الإنسان تماما على قدراته وملكاته وذكاءه، ويتحمّل وحده مسؤولية قراراته، إذ يخبو صوت الجماعة في إرادته ووعيه. من هنا يأتي التردد في عبور العتبة، فالدخول إليها ليس كالخروج منها (Barazon, 2010). لحظة انتقال وتحوّل وتغيّر؛ في المكان والزمان؛ في الفكر والمعتقدات؛ في المشاعر والأحاسيس، وأحيانا في الشكل والمظاهر المادية.

 

التفكير العلمي في العتبة

المحاولات العلمية لعقلنة العتبة لا تتوقّف، بل ربما العلم ما هو إلا عمليات متواصلة من عقلنة العتبات؛ لأهميّة ذلك في اكتشاف شيء جديد يقع على حدود المعرفة البشرية بالعالم الخارجي. والهدف من ذلك هو وصف هذه العتبات وصفا علميا تجريبيا يمكّن من تحويلها إلى مؤشرات كمية أو نوعية واضحة المعالم. كالمؤشرات الصحية التي تمايز بين الحالات الطبيعية والحالات التي دخلت مرحلة الخطر لأنها اجتازت العتبة نقصانا أو زيادة عن الحد الطبيعي. توجد كذلك الكثير من العتبات الكمية في الاقتصاد والفيزياء وعلوم الحاسوب ودراسات الطقس. العتبات الكمّية في العلوم الإنسانية والاجتماعية أقل، وإن كانت الأبحاث المتصلة باستكشاف العتبات على قدم وساق؛ في علم النفس والتربية والعلوم الإدراكية والمعمار والقانون. هناك حيث تكون العتبات ما تزال غامضة وأكثر ذاتية، أو أكثر إسرافا في اللاعقلانية. عتبة غير قابلة للقياس، أو غير واضحة تماما بعد. عتبة تعبر عن وعي ما يزال خالصا، ولم يمتزج بعد بأي معالجات أو إضافات سببية أو زمنية.

الدخول إلى هذا النوع من العتبات النوعية أو المعنوية الروحية لاستكشافها؛ يتطلب ثغرة في الوجود؛ نوع من التفكير العلمي ذي التسلسل السببي الطبيعي، لتقليل المتغيرات التي تؤثر على دراسة العتبة. هذه الثغرة ستكون بالضرورة نفي للعتبة، وسلب لها من أجل سبر أغوارها. سوف لن تكون عتبة، وإنما علاقة بين مساحتين مثلا؛ أو مفهومين؛ أو حدثين. إذ تظل العتبة بلا معنى حتى يتم اكتشاف علاقة ما بين مكوّنين أو طرفين هما في الأصل لا علاقة لهما بالعتبة. نحن هنا نطلب من العقل بأدواته المختلفة ليعمل على عقلنة لحظة لاعقلانية أصلا. فالعتبة من جهة هي ثورة، ومن جهة أخرى هي نفي للثورة. المرء يعبر العتبة بذات تنفي نفسها، وجسد يشتّت مركزه، ويتفكر في العتبة كموضوع يستبطن نقيضه. المطابقة المطلوبة لتحقيق الفهم، ستكون مجرد تأويل آخر للوجود عند الحوافّ وداخل الذروات.

التفكير العلمي في العتبة أمر ليس بالسهل، إذ أن العتبة دائما ما تقاوم عمليّة تعريفها، وهذا يأخذنا للحديث عن مبدأين مترابطين في التفكير العلمي، هما السببية والاختزال. فالسببية الطبيعية تتعطّل داخل العتبة، وهو ما يجعل دراسة العتبة مربكا وطويلا، ولعلّه مستحيلا في بعض الأحيان. نحن في الغالب لا نعرف العتبة، وإنما نميّزها بمعرفة ما قبلها وما بعدها. السببية تنتهي أو تبدأ على جانبي العتبة. أما العتبة نفسها فثقب أسود لا تعمل فيه قوانين الفيزياء والمنطق. وهكذا فتعريف العتبة سيحيل بالضرورة إلى طبيعة العلاقة التي تنشأ أو تتفكك فيما بين حدثين، أو مفهومين، أو مكانين، أو متغيرين. العلاقة ستعتمد بطبيعة الحال على البيانات التي يجري التقاطها ومعالجتها لاكتشاف الاتصال والانقطاع داخلها (Thaliath, 2008).

الاتصال يصنع سببيّات، والانقطاع يصنع عتبات. تسلسل السببية وشجريّتها يعتمد بشكل كبير على العتبات. هذا لا يعني أننا قادرون على تعريف العتبة ووصفها وصفا دقيقا، فهذا ليس بالأمر السهل، ويتطلب أدوات وطرائق بحث غير مألوفة ربما، ولكن الحد الأدنى لاكتشاف موقع العتبة مكانيا أو زمانيا، يأتي من تتبع التسلسل السببي. أيضا هذا لا يعني أن اكتشاف السببية هو الآخر سهل ومتاح في كل وقت، فهناك أطر نظرية عديدة لاكتشاف العلاقات السببية، وبالكاد ينجح أي منها في بناء تصوّر جامع مانع للسببية؛ خصوصا في مجال العلوم الإنسانية.

الاختزال العلمي هو التقنية الرئيسية لدراسة السببية في أي سياق أو ظاهرة. العتبة دائما تسبح داخل سياق ما. السياق بيت المعنى لفهم العتبة، والمساحة الخلفية الباهتة أو الصوت والموسيقى الخلفية الهادئة. العتبة حدث أو ضجيج أو فوضى تظهر بشكل فاضح داخل السياق فتكسر رتابته وتخرّب انسجامه. العتبة تمزق السياق وتشوّهه. تبتلع الانسجام من حولها كثقب أسود. وتجعل للسياق داخل وخارج، قبل وبعد، أمام وخلف. دراسة العتبة من دراسة السياق الذي تقع فيه. الانكسارات السياقية عتبات تخبر عن ضعف في السياق يجعله عاجزا عن احتواء الاختلافات التي تنبثق في ظروف معينة. دراسة العتبة داخل السياق تعني البحث عن اللاتناغم داخل التناغم، عن اللاإتساق داخل الاتساق، وعن الفوضى داخل النظام. ثمّة ضجيج يقع على أطراف البيانات التي يتم جمعها عن السياق أو الظاهرة، وهذا الضجيج يتجلّى في انكسار وشذوذ الحالة الخطّية، والذي متى ما استفحل؛ انهارت العلاقة وأصبح الانقسام حتميا. الضجيج هنا هو العتبة.

الضجيج بالنسبة للعلم يعني ثمّة مجاهيل لم تؤخذ في الاعتبار، وهي التي تصنع شذوذ القراءات. العتبة تعني أن هناك مركّبا داخل السياق لم يتم تفكيكه وعزله، وبالتالي يجب تجزئة الظاهرة إلى وحدات أصغر، وهذا هو الاختزال. دراسة العتبة يتطلب قدرا من الاختزال وتجريد الظاهرة من بعض الظروف والعوامل التي تؤثّر عليها وليست من جوهرها على الأرجح. العتبة تعني أننا ما نزال بعيدين عن فهم الظاهرة أو السياق فهما كاملا ودقيقا. وأنّ ما نسمّيه بالعتبة في الواقع هي مجهول داخل النظام يشوّش على الفهم، وبالتالي يجب بذل المزيد بعد لاقتحام هذا المجهول، والاختزال العلمي يمثّل فرصة مهمّة لاكتشاف هذا المجهول أو لتقليل غموضه. بطبيعة الحال الاختزال لن يكون سهلا في العتبة، وخصوصا مع ارتباك السببية في العتبة. وربما هذا جزء من مشكلة الاختزال في العلوم الإنسانية. لهذا يلزم الحذر قليلا عند ممارسة الاختزال الذي يصنع صورا جزئية منتزعة من سياقاتها. في الغالب ما سيأتي بعد دراسة العتبة هو انقسام وانفصال الفهوم بين الباحثين. المصطلح سيصبح مصطلحين، والنظرية ستنقسم إلى نظريتين، والنموذج إلى نموذجين. وهكذا يتقدّم العلم بطبيعة الحال.

التحدّي الكامن للتفكير العلمي في العتبة يعود بشكل أساسي إلى أن العتبة ما تزال غير جاهزة أنطولوجيا ليتم التعامل معها أبستمولوجيا. بمعنى آخر أن العتبة بحاجة إلى من يكشف عن وجودها، يثبّت وجودها. قدر من التشخيص لوجود هذا الثقب أو الثغرة الضبابية التي تجتهد لطرد أي تفكير سببي اختزالي يقع على حدودها. وهنا تأتي الأنطولوجيا كمبحث يسعى إلى الكشف عن كينونة الكائن أو الموضوع؛ أيّا كان هذا الكائن أو الموضوع الذي قد يكون فيزيقيا أو لا مادي؛ كنظام أو نظرية أو مفهوم أو متغيّر. الأنطولوجيا تقوم هنا بمهمة تشخيصية للظاهرة أو المشكلة موضوع البحث، فهي تفيد في تصميم البحوث والتجارب، وتحديد نوعية البيانات التي يمكن جمعها، وطريقة التعامل معها تحليلا وتصنيفا، وتصميم المراحل التالية من البحث للتعامل مع الحالات المختلفة. وهكذا فالتحليل الأنطولوجي هو شكل من أشكال هندسة المعرفة التي يمكن الاشتغال عليها وإنتاجها في الحقل العلمي أو حول مفهوم ما. وخصوصا عندما لا تكون نقطة البداية واضحة للانطلاق في البحث (Alexander, Freiling, Shulman, Rehfuss, & Messick, 1987).

 

في أنطولوجيا العتبة.. ما المهم؟

ترتبط العتبة؛ كما مرّ سابقا؛ بالطارئ والمفتوح، فالوصف الأنطولوجي يهدف إلى منح عنونة وهوية للعتبة، وبالتالي فك الغموض والطارئ عنها، وتحويلها إلى ظاهرة يمكن التعامل معها علميا، وبالتالي تحويلها إلى رقم مثلا أو علامة زمانية ومكانية بارزة. وبسبب تفاوت مستويات التعقيد للعتبة، فإن الأنطولوجيا يمكن أن تتراكم على شكل طبقات تكوّن في مجملها التعدد في النظر إلى حالة التفرّد في العتبة (Gullì, 2020, p. 1). بمعنى تفكيك التفرّد وتحويله إلى تعدد وبالتالي ينتهي الغموض وحالة الانفتاح على الاحتمالات الكثيرة. جمالية العتبة في كليّتها وغموضها، والبحث الأنطولوجي سينتهي إلى تعريتها وقتلها، لتفقد بذلك سر قوّتها الأبدي؛ الغموض. نستطيع الآن أن نلاحظ جملة من الاعتبارات الأنطولوجية التي يمكن التفكير فيها في دراسات العتبة، وسنكتفي بالإشارة إلى خمس ملاحظات ستفي بالغرض لتوضيح ما نقصده بالتفكير الأنطولوجي في العتبة، وإلّا فهناك زوايا أخرى للنظر لن أحتاج إلى عرضها هنا.

أول ملاحظة يمكن الإشارة إليها أن العتبات تعبّر عن ظاهرة لاخطّيّة. هناك مجموعة من الاستجابات أو الردود (قد تكون حواجز أو معيقات) خارجة عن التوقعات تكسر حالة الاتصال داخل النظام، وتصنع ما نسميه بالعتبة. العتبة تفضي إلى انقلاب في النظام لا يمكن التراجع عنه، وهي في الوقت نفسه تخلق وضعا حرجا بضرورة العودة إلى نقطة الاتزان؛ إلى الحالة المتصلة. المنطق الخطّي المتصل يعبر عن وجود مركزية داخل النظام تتمثل في معادلة أو مجموعة معادلات ناظمة لعقد النظام، فتأتي العتبة لتكسر هذه المركزية وتشتّتها عبر صنع بدائل تقلل من هيمنة المركز، وتحفّز التفاوت والتعدّد والاختلاف.

بشكل من الأشكال؛ العتبة تعرّي المركز وتفضحه، وتصنع بؤر نشطة للفعل. الانفصال يبدأ عند العتبة. انفصال الابن عن الأب، والتلميذ عن المعلّم، والتابع عن المتبوع. انقسام المفهوم الكبير إلى مفهومين جديدين. والجماعة الكبيرة إلى جماعتين أصغر. وهكذا فالبحث داخل العتبة يجب أن يلتفت إلى غير المألوف. إلى الشذوذ في القراءات والنتائج. إلى الظروف غير المتوقعة. وأحيانا إلى العلاقات غير المتوازنة داخل النظام. نمذجة العتبة رياضيا سيكون متعذّرا ضمن الجبر الخطّي، والوصول إلى وصف رياضي لها سيتطلب منطقا ضبابيا، وربما متقطّعا. نظرية الاحتمالات أو طيف الشواش أو رياضيات التعقيد؛ هي الأكثر قابلية للتعامل مع العتبات، والتي لا تتبع منطق الصفر والواحد، أو الصح والخطأ، ولا يمكن اختزالها في منطق السبب والأثر.

الاعتبار الثاني أنه على الرغم من التقارب الدلالي بين كلمتي العتبة والحدّ، غير أن الأخيرة لا تعطي الدلالة نفسها التي لدى العتبة. الحدّ خطّ وفاصل دقيق لا يعبّر عن التجربة والحدث كما هو الشأن مع العتبة. والتر بنجامين يلاحظ ذلك وهو يشرّح بصريات الأروقة الباريسية بكتابه غير المكتمل “مشروع الأروقة” (Benjamin, 1999, p. 494). العتبة منطقة وحيّز، وبالتالي هي مسار وممشى؛ رحلة بمعنى آخر. بل الدلالة اللغوية في المفردة اللاتينية liminal تشير إلى إزالة النهاية وتجاوز الحد (Szakolczai, 2018). العتبة تفضي إلى ما بعدها وتوحي بإمكانية اجتيازها، أما الحد هو النهاية. ما بعد الحد لا يمكن الوصول إليه.

لهذا فالتفكير في العتبات ليس كالتفكير في الحدود. العتبات تكشف عن محطّات يمكن الانتقال إليها واحدة بعد أخرى، كما يمكن البقاء فيها لبعض الوقت. وهي مكان للالتقاء بآخرين؛ العتبة كحقل وميدان وساحة. هذا يستدعي دخول وخروج من الجانبين. وإمكانية التفاوض داخل العتبة. الحدود نهايات. ما هو خارج ليس ما هو داخل، ويتطلب الأمر خلق عتبة حتى يمكن التفاعل بين جانبي الحدود. عتبة على شكل مطار أو ميناء أو منفذ حدودي. هذا يجعل مسألة ترسيم الحدود على أطراف العتبة مهمّة شاقّة على الأرجح. لأن الهوية الجديدة التي تتحقق بعبور العتبة لن تُكتسب هكذا في ضربة واحدة. وبالتالي ما هو قبل وبعد؛ وداخل وخارج؛ مهما بلغا من التناقض؛ ستكون بينهما مساحة تدرّج تسمح للباحث أن يناور قليلا في وصف وتعريف العتبة. هناك فرصة للخلق والابتكار والإبداع الفنّي داخل العتبة. ما بعد الحدّ هو النهاية، وما بعد العتبة هو التأقلم والهوية الجديدة.

الملاحظة الثالثة التي يمكن الحديث عنها ستكون عن الطريقة الفينومينولوجية التي نظنّ أنها الأنسب لدراسة العتبات ([2]). بل تكاد تكون مفاهيم العتبة فينومينولوجية بامتياز. لأنها ما تزال غير متعيّنة، وتقع على أطراف العلم الموصوف والمعرفة اليقينية. الفينومينولوجيا طريقة في البحث دشّنها للمرة الأولى إدموند هوسرل في بدايات القرن العشرين، ولكن ظهرت منها نسخا كثيرة مع الفلاسفة المتحمّسين للفينومينولوجيا من تلاميذ هوسرل وأتباعه. الفكرة الجوهرية في الفينومينولوجيا هو أن الطريقة العلمية السائدة لفهم العالم الخارجي الفيزيائي؛ لا تفلح كثيرا في فهم العالم الداخلي للإنسان؛ عالم الخبرة الذاتية للوعي البشري بالأشياء. ومن هنا تأتي الطريقة الفينومينولوجية لرتق الصدع الذي أحدثه العلم الطبيعي في العلوم الإنسانية والذي أسهم في تخلّفها في وقت كان يفترض بها أن تلتحق بالعلوم الفيزيائية إذا ما طبقت المنهج العلمي التجريبي. الفينومينولوجيا منهج دراسة خبرة الوعي الخالص بالخارج؛ قبل التبريرات النظرية والتأويلات السببية، والتي جميعها عرضة لقصور العقل وانحيازاته الأيديولوجية. فكما أسس ديكارت المنهج العلمي على فصل وصف الظاهرة الطبيعية عن تفسيرها، كذلك أسس هوسرل المنهج الفينومينولوجيا على فصل وصف ظواهر الوعي عن تفسيراتها ([3]).

المنهج الفينومينولوجي يتعامل مع النصوص أكثر من الأرقام، ولهذا فدراسات العتبة في الغالب دراسات نوعية؛ تتعامل مع اللغة ومفرداتها. وهي بذلك تتّصل من أوجه كثيرة بالتأويلية كطريقة داخل الفينومينولوجيا لتفسير البيانات الكثيرة التي يتم جمعها خلال الدراسة، وهذه هي الملاحظة أو الاعتبار الأنطولوجي الرابع. فالبحث عن المعنى التأويلي هو المركز في دراسات العتبة، وحيث أن اللغة ليست محايدة؛ كما هو الحال مع الموسيقى، أو مع العلم إلى حدّ ما؛ فالوصول إلى المعنى يتطلب إطارا نظريا يجب تبنّيه من البداية لتصنيف وتفسير البيانات المتعلقة بالعتبة، وخصوصا أن البحوث النوعية دائما ما تُعيّر بضعف المصداقية (Morgan, 2021)، مع الوضع في الاعتبار أن العتبات مواطن لتعدد التأويلات، وهذا التعدّد بقدر ما يشتت الجهد البحثي لوصف العتبة، هو في الوقت نفسه يثري تجربة العتبة التي ستظل لحظة شعرية مفتوحة؛ تمتص كل القراءات والتفسيرات. وبالتالي عوضا عن التركيز على صواب المعنى ودقّته؛ سيجري التركيز على الجديد الذي يقدمه البحث عن المعنى.

الأمر الخامس والأخير يركّز على طريقة المقارنة التي تمثّل أداة جيدة لاستكشاف العتبة؛ المقارنة بين طرفي العتبة. المقارنة تفترض تلقائيا وجود أفق مشترك فوق طرفي العتبة، واكتشاف العتبة بدون وجود هذا الكون الأكبر يكاد يكون مستحيلا. لا يمكن للمقارنة أن تصدر من جانب واحد بدون وضع الاعتبار لوجود طرف مقابل؛ نقيض ولكن مرتبط. المقارنة من الناحية الأنطولوجية هي رسم وبناء لهذا المشترك الأعلى؛ مفهوم أو معيار أو مقياس يتم عن طريقه اكتشاف الفروق أو الخصائص الأنطولوجية للطرفين اللذين يتم مقارنتهما. بدون ذلك، فأن التحيّز سوف يفضي إلى نوع من المركزية التي ستعيق اكتشاف العتبة. المشترك الأعلى قد يكون معرفة مشتركة أو مفهوم أكبر أو كينونة أقدم أو حزم بيانات أشمل، واكتشاف العتبة يتم بإجراء نوع من التنظيف والتجريد وعزل الزوائد التي لا علاقة لها بالتناقضات والاختلافات داخل المشترك الأعلى، حيث يسمح ذلك باكتشاف الثنائيات المتقابلة، وبالتالي رسم المنطقة الفاصلة التي ستكون العتبة وهي تبتلع عدم الاتساق والانفصال بين مجموعتين متباينتين داخل المشترك الأعلى.

([1]) يطرح دولوز وغوتاري فكرة الجسد بدون الأعضاء في حالات الفصام وإدمان المخدرات والوسواس. هذه أجساد فوضوية مكثفة مليئة بالتناقضات والعتبات والأقطاب. حالة بلازما جسدية تحطّم نفسها لكي تكون أكثر حرية من منطق التفاعلات العضوية (Kerslake, 2007, p. 172).

([2]) فرص نجاح المنهج الفينومينولوجي في وصف العتبات تزيد في العلوم الإنسانية، ولكنها تتضاءل في العلوم التجريبية، وإن كانت هناك نزعة ظهرت مؤخرا في الأكاديميا للمصالحة بين الفينومينولوجيا والعلوم الطبيعية. هناك أيضا مناهج مستمدة أو متأثّرة بالفينومينولوجيا ستكون مفيدة أيضا للباحث في استكشاف العتبات، ومنها الطرائق الجينالوجية كما استعملها ميشيل فوكو وآخرون.

([3]) للمزيد حول الفينومينولوجيا يمكن الرجوع إلى دراستنا “الفينومينولوجيا.. مشروع المفاهيم المؤجّلة” على موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود، على الرابط:

https://www.mominoun.com/articles/الفينومينولوجيا-مشروع-المفاهيم-المؤجلة-8728

Views: 15