ما ستقوله الفلسفة.. حوارات من أجل الشرط الحضاري
(حوارات مع: د. عبد السلام بن عبد العالي، د. الزواوي بغورة، د. محمد المصباحي، د. عبد الله السيّد ولدبّاه، د. محمد شوقي الزين)
نشر الملف بمجلة الفلق في يوليو 2023
مكونات الملف
- المقدمة: ما ستقوله الفلسفة
- استطلاع فلسفي موجز جدا
- مبررات التفلسف: هل هو حاجة أم زيادة عن الحاجة؟
- محمد المصباحي.. البحث عن “ما بعد حداثة عربية”
- تأمّلات الفيلسوف؛ من أين يبدأ التفلسف؟
- السيد ولدبّاه.. يد في أوروبا وقدم على الأرض العربية
- الزواوي بغورة.. فيلسوف الاتّصال الحضاري والتاريخي
- ما يتركه الفيلسوف؛ في الأسئلة المنسيّة
- محمد شوقي الزين.. فيلسوف اللامفكر فيه
- عبد السلام بنعبد العالي.. الفلسفة بدون أبراج
- الخاتمة: إعلان عماني افتراضي للفلسفة
المقدمة
ما ستقوله الفلسفة
الفلسفة عند أفلاطون هي الجدل، وعند أبيقور طلب السعادة، وعند الكندي صناعة وفن الحق، وعند أخوان الصفاء هي طب الأصحاء بينما الشريعة طب المرضى. عند ديكارت هي شجرة جذورها الميتافيزيقا وجذعها الفيزياء وبقية العلوم هي الأغصان، وعند باسكال حتى عندما تسخر من الفلسفة فهناك فلسفة، وعند هيغل؛ موضوع الفلسفة والفن والدين هو واحد، والاختلاف في الصورة فقط، وعند ماركس؛ الفلسفة لا تفعل سوى أنها تأوّل العالم. وعند برغسون هي الوحدة، وعند هوسرل؛ تبدأ الفلسفة بالذهاب إلى الأشياء نفسها. إن رحلة فكرية حرّة داخل تاريخ الفلسفة؛ منذ العناصر الأربعة عند اليونان إلى العصر الحاضر وهي تلامس خوارزميات الذكاء الاصطناعي؛ ستنتهي إلى أن الفلسفة هي كل ذلك.
د. زكريا إبراهيم يرى أن الفيلسوف هو موحّد الأفكار، ومن هنا ربما يثيره ظنّ البعض بأنها باتت بضاعة غير مرغوبة بعدما أزالها العلم من عرشها. تفنيد هذا الظن ليس بالعملية السهلة وليست متاحة للجميع، إذ أن مشكلات الفلسفة لا تنتهي، والفيلسوف بالتالي هو إنسان “سالك” ولن يصبح يوما “واصل”، وهو بالتالي رجل الإنكار والانفصال والمعارضة. لا ينفي زكريا إبراهيم أن الفيلسوف يضحّي بالكثير من أجل التفلسف، والسؤال المهم الذي يطرحه: هل تستحق الفلسفة ذلك؟ إنها تستحق لأنها “تلك الرسالة الإنسانية الكبرى التي تفرضها علينا طبيعتنا العقلية نفسها”. (زكريا إبراهيم، مشكلة الفلسفة، مكتبة مصر 1971، ص17)
دفاع د. زكريا عن الفلسفة أمام المنتقصين منها؛ يماثله كذلك دفاع مواطنه د. عبد الرحمن بدوي الذي يربط الفلسفة بتحقيق معنى الانسان وإدراك مدلول الحياة وسرّ الوجود، ولعمري إنها مرتبة عظيمة للفلسفة عند بدوي. هذه المرتبة لا تتحقق بحسب بدوي بدون أن يشتغل الناس فعلا بها، والتفكير فيما تثيره من مشكلات وتساؤلات. فهي الغاية من كل الجهود التي يظن بدوي أن الفلاسفة يبذلونها على مرّ التاريخ؛ لكي يعيشها الناس كممارسة ونشاط. لهذا بدوي في جزء من نظرته للفلسفة؛ يشترك مع الفيلسوف الكندي بأنها فنّ للعيش. ومن هنا هي إشكالية في نفس الوقت. لأنها تستوعب داخلها كل المتضادّات، وتريد أن تنفذ إلى بواطن الأشياء. (عبد الرحمن بدوي، مدخل جديد إلى الفلسفة، وكالة المطبوعات 1975، ص48)
د. طه عبد الرحمن لا يبتعد كثيرا عن ذلك عندما يعتبر الفلسفة نفسها جوابا على السؤال: “ما الفلسفة؟”، فأنت في اللحظة التي تحاول أن تعرف الفلسفة؛ أنت تتفلسف. صحيح أن ذلك لا يجعل من السائل بعد تحصيل الجواب فيلسوفا على حد تعبيره، ولكنه يلفتنا إلى نقطة مهمة، وهي اندماج ما هو فلسفي فيما هو ليس فلسفي داخل السؤال عن ماهية الفلسفة. وهكذا لا تصبح الحدود واضحة تماما بين الفلسفة ونقيضها، ومن هنا تأتي المحاولة الطاهوية للنظر العلمي في الفلسفة؛ تمييزا عن النظر الفلسفي الذي يصلح لموضوعات الفلسفة وليس للفلسفة نفسها. (طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة، المركز الثقافي العربي 1995، ص14)
بهذه التصوّرات الثلاثة؛ نطوف بك عزيزنا القارئ في عوالم هذا الملفّ الفلسفي. بالفلسفة كرحلة مستمرة لا تنتهي، وبالفلسفة كطريقة وأسلوب للعيش، وبالفلسفة وهي تحتضن داخلها كل تناقضاتها. إنها صبغة عامة تكاد تجدها عند جميع المتفلسفة؛ ومنهم ضيوفنا في هذا الملفّ الذي اخترنا معهم أن يكون الحوار مفتوحا، وفي نفس الوقت لا يغادر ثيمة عامة حول الشرط الحضاري ورهان الفلسفة عربيا، مدفوعين بالإنتاج الخصب والتنوع الكثيف لإنتاج هؤلاء الفلاسفة الذين دانت لهم شجرة الفلسفة من شرقها وغربها، فأتحفوا ساحة الفكر العربي بأسئلة وأفكار وأعمال ما تزال تشحذ العقول وتستقطب قرّاء ومفكّرين يتجادلون معها على أكثر من مستوى.
إن طبيعة الإنتاج الفكري لفلاسفتنا في حوارات هذا الملف فرضت علينا الاشتغال بالسؤال الحضاري عربيا؛ أين هو موقعنا في خريطة الإبداع الفلسفي عالميا؟ وهنا لا نسأل تحديدا؛ هل توجد فلسفة عربية؟ فهذا سؤال استهلكته الأقلام، وإنما نسأل ذلك مسترشدين بالآراء التي تقدمت لكل من زكريا إبراهيم وعبد الرحمن بدوي وطه عبد الرحمن؛ بممارسة النشاط الفلسفي؛ بطرح الأسئلة واستفزاز العقول لتنتج شيئا ذو قيمة؛ تشتغل في الواقع اليومي المعاش. فهكذا فقط تولد الفلسفات والتيّارات والمدارس، وتصبح الفلسفة؛ كما قال أحد ضيوفنا؛ لا تموت لأنها حاجة بشرية.
التقيتُ بضيوف هذا الملف فكريا قبل أن ألتقي بهم فيزيقيا بسنوات كثيرة. وإذا كان الزواوي بغورة هو الأوّل من الفلاسفة الخمسة، عندما بدأت أقرأ له وأنا أدرس ميشيل فوكو في وقت من منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة، غير أن محمد المصباحي يظلّ هو الأقرب إليّ؛ لأسباب كثيرة ليس مقامها هنا، ولكن ربما بحكم مصاحبتي لكتبه الفترة الأطول؛ وخصوصا كتبه عن ابن رشد وابن عربي. محمد شوقي الزين هو الأخير من ضيوفي في هذا الملف؛ إذ لم أبدأ في القراءة له سوى منذ سنوات؛ عندما لاحظت أن فكره يكمّل نقصا مهما لديّ في التفكير في الهوامش المُبعدة من دوائر الاهتمام عادة. عبد الله السيد ولدبّاه، حظي من فكره ربما هو الأقلّ، فصحبتي له كانت عبر التسجيلات التي بقيت حريصا على متابعتها؛ خصوصا لتلك الندوات التي كان يشترك فيها بمؤسسة مؤمنون بلا حدود؛ على الرغم أن كتابه عن أعلام الفكر العربي يزيّن مكتبتي منذ سنوات! وعلى ذكر المكتبة؛ فربما أعترف بأن حظ عبد السلام بنعبد العالي من مكتبتي هو الأعلى. لعلّ ذلك لأن كتبه صغيرة ومكثفة، مع عناوين ملفتة بسبب غرابتها، مع سهولة واضحة تعزز الاستشفاء بأسلوبه في الكتابة، والذي يذكرني بطريقة الفرنسيين في كتابة الشذرات.
إن اللقاء الذي جمعني بالمفكرين الخمسة في ملتقى بيت الزبير الأول للفلسفة في مايو من العام الجاري 2022، هو ما فتح النافذة لجمع الفلاسفة الضيوف على مائدة حوار فلسفي كتابي تجتمع مادّتها في هذا الملفّ الذي نرجو أن يجد فيه القارئ الكريم بعض فائدة أو متعة عبر صحبة علماء أجلّاء؛ ترك تواضعهم العلمي أثرا جميلا عندي؛ وهم يخصّصون وقتا لمدافعة أسئلتي التي ربما كانت مكتنزة بالتساؤلات. فكل الشكر والتقدير لهم، والشكر قبل ذلك لمجلة الفلق التي كانت السبب وراء استغلال فرصة تواجد ضيوف مؤسسة بيت الزبير في السلطنة لنتمكّن من التحاور معهم خلال أيام الملتقى وبعده.
ربما يجدر الإشارة هنا بأني نهجت في الحوارات بأن نوّعت فيها على ثلاثة أشكال؛ الأسئلة السريعة التي وجّهتها للجميع على شكل استطلاع فلسفي سيجده القارئ في أوّل الملف، ومن ثم الأسئلة المطوّلة المشتركة بين الجميع، والتي جمعت الاستجابات عليها تحت عنوان واحد، حيث سيجد القارئ أربع موضوعات من هذا القبيل وزّعتها في ثنايا الملف. وأخيرا الحوار بطريقته الكلاسيكية المعتادة؛ على شكل أسئلة وأجوبة. آملا ألا يكون هذا التوضيح هنا من الكلام الزائد.
محمد العجمي
استطلاع فلسفي موجز جدا
1. من هو ديكارت المنطقة العربية في العصر الحديث في رأيك؟ | |
د. عبد السلام بن عبد العالي | لا ينبغي أن ننسى أن ديكارت، وهو الاسم الذي نشير عن طريقه إلى قيام الحداثة الفلسفية، لم يكن فردا بعينه، وإنما كان سياقا تاريخيا تشابكت فيه ثورة علمية، وتحول اجتماعي، وحركات إصلاحية. وربما مازال هذا “الديكارت” بعيدا عنا شيئا ما. |
د. محمد شوقي الزين | لا أرى من يكون، لأن سؤال الذات لم يُطرح بالقوة والجدية كالذي طرحه ديكارت. |
د. محمد المصباحي | لا أحد. |
د. الزواوي بغورة | طه حسين |
د. عبد الله السيد ولدبّاه | لا أعرفه |
2. من هو الفيلسوف الإسلامي الأقرب إليك؟ | |
د. عبد السلام بن عبد العالي | ابن خلدون |
د. محمد شوقي الزين | أبو بكر بن باجة |
د. محمد المصباحي | ابن رشد لأنه كان يجمع بين عقلانية الفقهاء، وعقلانية الأطباء، وعقلانية العلماء، وعقلانية الفلاسفة، ولأنه كان يتمتع بجرأة وشجاعة لمواجهة حتى من اعتبرته الدولة الموحدية أحد أركانها الإيديولوجية: الغزالي. |
د. الزواوي بغورة | أبو حيان التوحيدي |
د. عبد الله السيد ولدبّاه | ابن سينا |
3. رتب الفلاسفة حسب الأكثر تأثيرا عربيا: ابن رشد، ابن عربي، الغزالي. | |
د. عبد السلام بن عبد العالي | الغزالي، ابن رشد، ابن عربي. |
د. محمد شوقي الزين | الغزالي، ابن رشد، ابن عربي |
د. محمد المصباحي | أولا الغزالي، ثانيا ابن رشد، ثالثا ابن عربي. |
د. الزواوي بغورة | عند الخاصة أو النخبة ابن رشد ثم ابن عربي، وعند العامة أو الجمهور: الغزالي |
د. عبد الله السيد ولدبّاه | ابن عربي ، الغزالي ، ابن رشد |
4. أيهما أهم قي رأيك: كتاب إحياء علوم الدين أم فصل المقال؟ | |
د. عبد السلام بن عبد العالي | بعض فصول الإحياء، بلغتها الفلسفية الرائعة. |
د. محمد شوقي الزين | فصل المقال |
د. محمد المصباحي | فصل المقال، لأنه يفصل المقال لصالح الفلسفة والعقل؛ أما إحياء علوم الدين فهو خليط من الفقه والكلام والتصوف والفلسفة، ولا يفصل فيه الغزالي القول لصالح أي من هذه المباحث. |
د. الزواوي بغورة | فصل المقال، لأنَّه خطاب عالمي وإنساني وراهن، وأما إحياء علوم الدين فخطاب خاص بجماعة من المؤمنين فقط ألَا وهي جماعة المسلمين، ولا أظنه يكتسي قيمة راهنة. |
د. عبد الله السيد ولدبّاه | إحياء علوم الدين |
5. هل تعتبر ابن خلدون فيلسوفا؟ | |
د. عبد السلام بن عبد العالي | أقوى المفكرين في العالم الإسلامي. |
د. محمد شوقي الزين | يمكن القول بأنه أسس لفلسفة اجتماعية. |
د. محمد المصباحي | هو يُعرّف نفسه بأنه أشعري وصوفي، ويعلن مقته للفلسفة، ولكنه في عمقه فيلسوف كبير، ويعلم خبايا المنطق الفلسفي أكثر من غيره. |
د. الزواوي بغورة | نعم، رغم ما يطرح ذلك من مفارقات تصدى لها بعض المختصين في فلسفته. |
د. عبد الله السيد ولدبّاه | أنه مفكر له نفس فلسفية قوية. |
6. لو أردت أن ترسل أحد الفلاسفة الأوروبيين بالعصر الحديث إلى بغداد بأحد القرون الذهبية للحضارة الاسلامية، فسترسل من وإلى من؟ | |
د. عبد السلام بن عبد العالي | سأرسل بارث عند الجاحظ كي يتعرف عليه. |
د. محمد شوقي الزين | أرسل هيغل للقاء أبي يوسف يعقوب الكندي. |
د. محمد المصباحي | سأرسل هيدغر إلى ابن سينا، لأنه الفيلسوف العربي الوحيد الذي أثار إعجابه وذكره في الوجود والزمن. |
د. الزواوي بغورة | سأرسل ميشيل فوكو إلى بغداد ليطلع على حالة المجانين في البيمارستان العضدي الذي كان يشرف عليه الفيلسوف والطبيب أبو بكر محمد بن يحيى بن زكريا الرازي، صاحب كتاب الحاوي في الطب، ورسائل فلسفية. |
د. عبد الله السيد ولدبّاه | سبينوزا ارسله الى الفارابي |
7. ما الحدث التاريخي الأخطر إسلاميا في رأيك والذي بدأ بعده الانحدار؟ | |
د. عبد السلام بن عبد العالي | الغريب أن الانحدار الذي عرفه قطاع كان نعمة نسبة إلى قطاعات أخرى. |
د. محمد شوقي الزين | كانت معركة العقاب هي بداية النهاية، وقعت عام 1212م بالأندلس انهزم فيها الموحدون أمام تحالف الجيوش النصرانية. |
د. محمد المصباحي | سقوط الأندلس |
د. الزواوي بغورة | البيان القادري (420 ه_/ 1017 م) نسبة للخليفة العباسي القادر بالله. |
د. عبد الله السيد ولدبّاه | سقوط غرناطة |
8. لو قدر لك أن تكون في فريق، فهل ستختار فريق (جابر بن حيان، ابن الهيثم، نصير الدين الطوسي) أم فريق (الجاحظ، التوحيدي، مسكويه)؟ | |
د. عبد السلام بن عبد العالي | أكون حيث التوحيدي. |
د. محمد شوقي الزين | الفريق الأول الذي جعل من الكيمياء منهجًا كونيًا في ربط العناصر وتأليف المتنافر. |
د. محمد المصباحي | أختار فريقا يتكون من الكندي والفارابي وابن سينا وابن باجة وابن طفيل وابن رشد وصدر الدين الشيرازي. |
د. الزواوي بغورة | سأنتسب إلى فريق التوحيدي، الجاحظ، ابن خلدون. |
د. عبد الله السيد ولدبّاه | ابن سينا ، الغزالي ، فخر الدين الرازي. |
9. لو كنت في القرن الرابع الهجري فسوف تختار أن تكون في سلك: المعتزلة؟ الأشاعرة؟ الصوفية؟ | |
د. عبد السلام بن عبد العالي | لن أدخل في اللعبة الكلامية. |
د. محمد شوقي الزين | سلك الصوفية إلى جانب ابن مسرَّة الجبلي القرطبي. |
د. محمد المصباحي | أن أكون في سلك الفلاسفة والعلماء. |
د. الزواوي بغورة | سأختار فريق التوحيدي ورفاقه. |
د. عبد الله السيد ولدبّاه | المعتزلة الصوفية |
10. ما هي أهم ميّزة أو خصلة تفوّقت فيها الفلسفة الإسلامية على الفلسفة الأوروبية الحديثة؟ | |
د. عبد السلام بن عبد العالي | طوّرت لغة فلسفية لم نزل حتى اليوم بعيدين عن بيانها وتبينها. |
د. محمد شوقي الزين | الوحي كقضية كلامية وفلسفية. |
د. محمد المصباحي | لا يمكن أن يتفوق السابق على اللاحق! |
د. الزواوي بغورة | انفتاحها الفعلي على الفلسفات العالمية في زمانها: الهندية، والفارسية، واليونانية. |
د. عبد الله السيد ولدبّاه | التفلسف عن طريق السرد. |
مبررات التفلسف: هل هو حاجة أم زيادة عن الحاجة؟
السؤال:
هل الفلسفة هروب وتعالي على الواقع أم عودة وانغماس في الواقع؟ هل دخلت في الفلسفة هروبا من شيء ما أم بحثا عن شيء ما؟ هل تتفلسف لأجلك ولإشباع فضولك المعرفي أم لأجل الناس والمجتمع؟ هل تتفلسف انطلاقا من مركزية الذات أم من مركزية الجماعة؟
الإجابات:
د. عبد السلام بن عبد العالي
إن الأمر لا يتعلق بابتعاد متعال، ولا بانغماس في المألوف، وتقبّل لما عليه الأمر. وهذا ينقلنا إلى الشق الثاني من السؤال: هل يتفلسف المرء لأجل نفسه، لإشباع فضوله المعرفي أم لأجل الآخرين؟ أعتقد أن علينا أن نستبعد أولا هذا الربط بين التفلسف وإشباع الفضول المعرفي. مبدئيا من يروم إشباع فضولنا المعرفي هم العلماء الذين ينتجون معارف، كل في ميدانه وحسب موضوعاته. لا أعتقد أن الفلسفة “تزودنا” بمعارف، ربما العكس هو الصحيح، وهو أنها تدفعنا لطرح معارفنا موضع سؤال. ولعل المثال السقراطي بليغ في هذا المجال. ويكفي أن نتذكر عبارته المأثورة: “كل ما أعرفه، هو أنني لا أعرف شيئا”. وقد سبق أن قلنا إن السؤال الفلسفي يقحم الفراغ فيما يبدو ممتلئا. إن كان هناك تملك في هذا الصدد فهو تملك لفراغات، وفحص ليقينيات، وإعادة نظر في البدهي.
بقي علي، استكمالا للجواب عن السؤال الثاني، أن نعرض لهذا التقابل بين التفلسف من أجل الذات أو من أجل الآخرين؟ يحيلنا لفظ “لأجل” إلى الغاية المتوخاة من التفلسف، و”الخدمة” التي يقدمها، والوظيفة التي يُناط بها. لذا، فربما لا يتخذ هذا السؤال معناه إلا إن سلمنا بوظيفة اجتماعية للفلسفة، ونزّلناها منزلة الأيديلوجية. حينما كنت أدرس الفلسفة في الفصل الدراسي كنت ألجأ إلى التعبير باللغة الفرنسية وأقول لطلبتي: L’idéologie range et arrange, la philosophie dérange “إن الأيديلوجية تحدد لك موقعا، وتعمل على طمأنتك، بينما تهدف الفلسفة إلى زعزعة المواقع”. لا يعني هذا مطلقا أن الفلسفة بعيدة عن المجتمع، أو أنها لا تُشرط بشرائطه، كل ما في الأمر أنها ليست دفاعا عن حقيقة تتهم غيرها بالضلال، وهي لا تتخذ موقعا بعينه.
د. محمد شوقي الزين
أظن أن الفلسفة هي كل هذا: في الوقت نفسه مسافة (أو هروب) وقربة (أو عودة). فهي تبتعد للحصول على مسافة مُثلى لرؤية الواقع رؤية وسطية ومعتدلة، يكون فيها العدل والاعتدال هو الأساس. لأن لو كانت الفلسفة قريبة جدًّا من الواقع، فهي تفقد خاصيتها في سياسة الأفكار والمفاهيم المجرَّدة، ومن ثمَّ فإن علم الاجتماع هو أحسن ما يُعبِّر عن الواقع ويتفوَّق عليها في هذا المجال، ولو كانت بعيدة جدًّا عن الواقع، فهي تفقد دورها في ربط الأفكار بالتعيُّنات الواقعية وتمتحن هذه الأفكار والمفاهيم على محك الوقائع.
معنى ذلك أن الفلسفة لا بد أن تكون «فعلًا متعدِّيًا»: لا نكتفي بأن نتفلسف لذواتنا ولفضولنا المعرفي، بل نتعدَّى ذلك نحو اقتراح خريطة في قراءة الواقع بما نُشكِّله من أفكار ومفاهيم، ونحو التواصل مع الغير. فهي مهمَّة مزدوجة: تخص الذات بالتكوين والفضول والمعرفي، وتخص الغير بالإسهام في بلورة شبكة من المفاهيم من شأنها أن تقرأ الواقع وتقترح الحلول الممكنة لمعضلات تطرحها تعقيدات هذا الواقع.
ثم إن التفلسف في نظري هو تفلسف «علائقي»، فلا ينطلق من مركزية الذات أو من مركزية الجماعة، بل يرى نمط العلاقة بينهما، ولماذا تفوقت الذات على الجماعة في الثقافة الغربية، وتفوقت الجماعة على الذات في الثقافات الأخرى، ومن بينها الثقافة العربية الإسلامية. عندما نُحدد طبيعة العلاقة بين الذات والجماعة، نُدرك وقتها قيمة التفلسف المراد مباشرته. إذا كانت العلاقة مختلة بطغيان الفرد على المجموع كما هي الحالة الغربية أو طغيان المجموع على الفرد كما هي الحالة العربية الإسلامية، وجب التفكير في التوازن الممكن بينهما والتفكير في آليات هذا التوازن والطريقة التي يتحقق بها فعليًا.
د. محمد المصباحي
من البيّن بنفسه أنه لا يمكن أن يكون الهروب من الواقع سمة للفلسفة والتفلسف، لأن الفلسفة في أصلها مواجهة وتحدي، وأنها منذ أن كانت لا تتخاذل أمام استفحال أزمات الواقع، ولا تتقاعس حيال استحالة تحقيق الآمال في الإقلاع. الفلسفة بطبيعتها الأصلية إقدام وتحمل للمسئولية تجاه المدينة كيفما كانت المخاطر، ومثال سقراط يشهد على ذلك. لكن هذا لا يعني أن الفلسفة تخضع للواقع وتستغرق في أوحاله، أو أنها ترضى بأن تتحول إلى قول تابع له يخدم أغراضه ومآربه دون تمحيص ونقد. بل الفلسفة لا يمكن أن تستحق هذا الاسم لولا تعاليها عن الواقع بفضل المفهوم والتحليل والنظرة العامة لرؤية الواقع ككل في شموليته.
بهذه الجهة تتحدد الفلسفة بكونها رفضاً لاستلاب الواقع واسترقاقه بحثا عن الحرية وعن الحق في التفكير بعيدا عن أية وصاية تفرضها العقائد والإيديولوجيات والثقافات والعشائر التي تنظم الواقع. كل هذا لا من أجل إشباع فضول معرفي، لأن من يبحث عن المعرفة عليه أن ينشدها خارج الفلسفة في مجالات أخرى، بل من أجل إشباع فضول السؤال والحيرة وإعادة النظر في المعتقدات والإيديولوجيات والأفكار المسبقة المعيقة للتقدم. هذا علاوة على أن الفلسفة، كما قلنا، ليست إيديولوجية، لا تتبنى مشروعا محددا لبناء مدينة فاضلة، وإنما هي أداة لصقل الذات، لوضع الإنسان في مركز الصدارة.
د. الزواوي بغورة
هذا سؤال مركب من أربعة أسئلة جزئية، تحتاج إلى قدر من التحليل، وإن كانت تشترك في سمتين: أولها البناء على منطق التقابل المتمثل في (إمَّا – أو). وثانيها، الجمع بين الخاص والعام. وإذا بدأنا بالعام المتعلق بطبيعة الفلسفة هل هي هروب أم انغماس في الواقع، فإنَّني أرى أن المشكلة تتمثل في مفهوم الواقع وكيف نفهمه؟ فإذا فهمنا من الواقع ما هو حقيقي، فإنَّ الفلسفة كانت ولا تزال تمثل البحث عن الحقيقة، وأمَّا إذا كنا نفهم من الواقع ما هو عملي، وجاري في حياة الناس، فإنَّ للفلسفة مفهومها لهذه العلاقة التي تتسم بطابعها غير المباشر، وبآثارها على عقول وسلوك الناس، مع الإقرار بالتفاوت في هذا التأثير.
فمثلا عندما تتحول بعض المفاهيم الفلسفية إلى عنصر إيديولوجي، فإنَّ هذا التأثير يكون بارزا، سواء قبلناه أم رفضناه، ولكنها عندما تتصل بالحقائق النظرية المجردة، فإن تأثيرها يحتاج الى تحليل وتفسير وبيان. ولكن في الحالتين، فإن علاقة الفلسفة بالواقع، كانت ولا تزال إحدى القضايا المركزية التي طبعت تاريخ الفلسفة. هذا على مستوى السؤال الجزئي العام، وأمَّا على مستوى الأسئلة الخاصة، فإنَّني دخلت الفلسفة حبا في معرفتها، وليس هروبا من أي شيء من الأشياء، وطلبا للحقيقة التي أعمل جاهدا على الكشف عنها من خلال سلسلة الأبحاث التي أنجزتها.
وبالطبع، فإنَّني انطلق من أسئلتي الخاصة التي تتقاطع مع بعض الأسئلة التي يطرحها المجتمع. إنَّ سؤال اللغة ليس سؤالا ذاتيا محضًا، وإنَّما هو سؤال مطروح في مجتمعنا، وأحاول أن أقدم حوله الإضاءات التي أرى أنها تشكل عناصره الحقيقية و المفيدة للمجتمع. وعليه، فإن التفلسف عمل ذاتي، ينجزه الفلاسفة، ولكن ذلك لا يعني أن الفلاسفة يشبهون نبات الفطر، كما قال ماركس، إنهم أبناء مجتمعاتهم وثقافتهم التي تحضر بطريقة واعية أو غير واعية في تفلسفهم وفلسفاتهم.
د. عبد الله السيد ولدبّاه
كان بول ريكور يقول إنه دخل عالم الفلسفة خوفا من انفصام الشخصية. أظن في ضوء هذا القول إن الناس عادة تسلك طريق الفلسفة من أجل البحث عن الوضوح في الذهن والسكينة في التفكير. مهما قيل عن الفلسفة بأنها شك ونقد وتفكيك، إلا أنها في الوقت نفسه تصور وتوضيح وتدقيق. كان أفلاطون يقول إن دور الفلسفة هو تصفية الكلام لأن الحقيقة محدودة نادرة. لم يتغير هذا الهدف اليوم مع الفلسفة المعاصرة.
فتغنشتاين يقول إن مهمتها هي التوضيح والفصل بين المعنى ولغو الكلام. العبارات كثيرة والمفاهيم نادرة كما يقول فوكو ، وهو يعني هنا التصورات ذات القيمة النظرية الإشكالية. لقد دخلت للفلسفة بحثا عن الأفكار الرصينة والمعاني الدقيقة والنظريات المحكمة. لم أدخل لتغيير الواقع أو حتى فهمه، بل إن الابستمولوجيا المعاصرة علمتنا أن الواقع مبني مركب وليس معطى طبيعي. لم أنسق يوما لعبارة ماركس الشهيرة: “الفلاسفة لم يفعلوا سوى تفسير العالم بينما المطلوب تغييره”.
محمد المصباحي.. من ابن رشد إلى ما بعد حداثة عربية
إلى أي مدى تتفق مع العنوان الذي اخترناه لوصف المشروع الفلسفي للدكتور محمد المصباحي؛ ” من ابن رشد إلى ما بعد حداثة عربية”؟
كان اختيارا في الصميم ويدل على اطلاع حقيقي باللحظتين اللتين مرت بهما كتاباتي. نعم، يمكنني أن أتساءل كيف قفزتم من ابن رشد، الذي يمثل خير تمثيل التراث-القدامة، إلى ما بعد الحداثة دون المرور بالحداثة التي أبيتم إلا أن تحجبوها في عنوانكم؟ لعلكم كنتم تقصدون بذلك أن ابن رشد يمثل الحداثة، أو على الأقل ينطوي على بعض مصادراتها، أو لعلكم كنتم بهذا الإخفاء المتعمد الإشارة إلى معارضتي الشديدة لمن كان يعتبر أبا الوليد بعقله البرهاني هو البابَ الوحيد المفتوح أمامنا لولوج الحداثة بتحدياتها ورهاناتها المختلفة، عِلماً بأن رفعي لشعار ما بعد الحداثة لم يكن بسبب أننا حققنا كفايتنا من الحداثة ونتطلع إلى ما بعدها، وإنما للتنبيه إلى أن للحداثة أبوابا متعددة.
فالعقل البرهاني ليس وحده الذي يضمن لنا الحصول على تأشيرة الدخول إلى فضاء الحداثة، ولكن أيضا العقل البياني والخيال العرفاني، وبهذه الجهة نكون في برزخ بين الحداثة وما بعدها. وكان قصدنا من وراء ذلك أننا نريد أن ندخل إلى الحداثة ككل، بكل مقوماتنا، بعقلنا ووحينا، بقرآننا وفلسفاتنا وكلامنا، وبألف ليلة وليلة وبالمعلقات وبالمقامات، بدواوين المتنبي وأبي العلاء المعري، بفصل المقال وبفصوص الحكمة الخ. بهذا نكون قد دخلنا الحداثة ونحن ممتلئين، إيماناً منا، وهذا من المفارقات، بأن الامتلاء هو الشرط الذي يمكّننا من إحداث فراغ في ذاتنا يسمح لها بقبول واستيعاب الحداثة وما يليها، بنقد الامتلاء، بل والانقلاب عليه.
في الحقيقة يتردّد في بالي كثيرا أن الدكتور المصباحي يتعامل مع الحداثة الأوروبية بحذر؛ على اعتبار أنها حيّدت الدين إلى أبعد حدّ، والآن ما بعد الحداثة تحاول إصلاح ما أفسدته الحداثة من قطيعة مع الإله. كما لو أن الدكتور المصباحي سيؤيد القول بأن الحداثة لن تدخل إلى المنطقة العربية في كل الأحوال، ولكن ما بعد الحداثة من الممكن أن ندخل إليها؛ فيما لو دخلنا كما قلت: “بكل مقوماتنا”. هل هذا ما يريد أن يقوله الفيلسوف المصباحي؟
الحداثة لم تفسد شيئا، كل ما فعلته هو أنها فتحت عيون الإنسان ليدرك أنه جوهر الكون. الحداثة فضحت ضروب الأوهام والاستلابات التي هيمنت على العقل البشري، وعملت على تحريره من الأساطير التي تخنقه، الأمر الذي بوأه مركز الصدارة في الكون. ما أردت قوله هو أن الحداثة، بلوازمها المختلفة، وبخاصة التنوير والليبرالية (العقل والحرية)، هو الخط الأساسي الذي أقول به، أما “ما بعد الحداثة” فهي مجرد تلوين وتلطيف للحداثة. لذلك علينا أن نحتاط من “ما بعد الحداثة”، فهي من حيث هي مراجعة ذاتية للحداثة أمر جيد، لكنها تُخفي مكرا مفاده أن الشعوب بطبيعتها العرقية والثقافية غير الغربية غير قابلة لتمثل الحداثة، لذلك علينا أن نخفف من وطأتها لكي تصبح مقبولة لدى هاته الشعوب. والحال أنني أومن بأن العالم العربي ليس فقط قابلا للحداثة الأصيلة، وليس للحداثة الرخيصة، بل وأنه كان من المساهمين فيها على المستويات العلمية والفلسفية والحضارية.
هل يفترض بنا أن نتجاوز سؤال الهوية؟ هل هو سؤال عفي عليه الزمن؟ هل طرح هذا السؤال يعتبر تخلّفا؟ على اعتبار أن التقنيات المتقدمة صنعت شرخا عميقا في الذات المعاصرة، وبالتالي ما عادت تتقوم بالتاريخ والتراث والكليّات الاجتماعية كالحرية والعدالة، بقدر ما تتقوم بالعمل والتقدم. هل توجد هوية في ظل أن الآخر أصبح هو ما يستعمر كل أنا؟ هل نحن لاواقعيين حقا عندما ننشغل بهذا الهاجس؟ وإلى أي مدى؟
الهوية صفة من صفات الذات، ما يعني أن الهوية نسبة، إضافة، علاقة، وليست وجودا. وهذا يدل على الذات واحدة، بينما الهوية متعددة، وهذا معناه أن الذات تملك هويات كثيرة تتجدد باستمرار. من بين ثمار الحداثة أنها حولت إشكال الذات والصفات من طابعه اللاهوتي، الذي كان يخص الإله في الأزمنة السابقة لها، إلى طابع إنساني يتعلق بنسبة الهويات إلى ذاته. مثلا المتنطعون من الفرنسيين يدّعون أن العلمانية هي هويتهم التي تميزهم عن باقي الأمم، لكن فقط عندما يتعلق الأمر بمواجهة الإسلام الفرنسي، أما عندما يتعلق الأمر بالمقارنة مع ألمانيا، أو إيطاليا، أو إسبانيا، أو أمريكا فإننا نجدهم يلبسون هويات أخرى كاللغة والنزعة الجمهورية والطبخ والأدب الخ.
بل إننا أصبحنا نسمع عن الهوية الأوروبية أو الغربية في مواجهة الهوية السلافية. في حين نجد الإنجليز يفتخرون بنظامهم الملكي ويعتبرونها عنوانا لهويتهم، ويبتعدون قدر الإمكان عن الهوية الأوروبية… وفي الزمان ما بعد حقوق الإنسان، نجد هويات سلبية جديدة تظهر في الغرب، حيث أصبح معاداة المثلية والجندر ومعاداة السامية مثلا معايير لرفض إعطاء الجنسية الفرنسية أو الألمانية أو الإنجليزية لطالبيها لأنهم لم يستوعبوا الهوية الفرنسية أو الألمانية، بل وحتى لطالبي منصب في جامعة غربية عريقة. أصبحنا، إذن، أمام هويات جديدة تتجسد في طابوهات جديدة: عدم المس بالمثليين أو باليهود أو بمناصري إيديولوجية الجندر! أما إذا أخذنا بعين الاعتبار آثار الثورة الرقمية، فإننا سنجد الفرد يلتحف يوميا بهويات كثيرة.
في جوابك على سؤال الهوية؛ هذا يعني أن الدكتور المصباحي يرادف بين سؤال الهوية والانغلاق وسد الأبواب في وجه الآخر. كما لو أن خطاب الهوية يصبح سلاحا؛ نرفعه في اللحظة المناسبة في وجه الآخر بحسب القرب والبعد عنه. وبما أن الجميع يرفعه؛ فلن نكون كعرب ومسلمين بدعا من ذلك. دكتور كيف نوازن هنا بين خطاب الهوية والانفتاح المنشود في خطابات الحداثة وما بعدها؟
إذا أخذنا الهوية بمعنى “جهة” من جهات الذات، أي إذا اعتبرنا الإنسان واحدا بالذات كثيرا بالجهات، فإنها لن تكون سلاحا ضد الآخر، بل ستكون نقطة وصل به والحوار معه، على أن يكون هذا الانفتاح على الآخر أداة تطوير الذات كي تتناسب معه. فالمناسبة بيننا وبين الآخر شرط وجودنا في العالم وولوجنا إلى الحداثة. لكن إن أخذنا الهوية بمعنى الامتلاء الذي لا مكان فيه للفراغ القابل للمزيد من لدن الآخر، فستكون الهوية طامّة كبرى علينا.
حول هايدغر وابن سينا؛ أريد أن أسأل ما الذي أثار هايدغر في ابن سينا؟
ما أثار مارتان هايدغر في ابن سينا هو تعريفه لماهية الحقيقة بالمطابقة مع الواقع، أو باعتبارها “تطابقا لما في الذهن مع الشيء”، ويشير هيدغر إلى أن توما الإكويني ينسب هذا التعريف لابن سينا. كما أنه سيثير فضول جيل دولوز بسبب تقسيمة الماهية إلى ثلاث ماهيات: الماهية السارية في الأشياء، والماهية الحالة في الذهن، والماهية المفارقة للأشياء وللذهن.
قد يبدو هذا السؤال شخصيا، ولكن أحتاج إليه لأفهم فلسفة الدكتور محمد المصباحي. يقول برتولت بريشت؛ الكاتب الألماني: “لم ألتق قط بشخص لا يمتلك حس الدعابة يفهم ديالكتيك هيجل.” وإذا كان فوكو يقول بأن الفلسفة بعد هيجل هي كلها محاولة للخلاص منه. والحال أن الصورة الحاضرة في الذهن عن أعمال المصباحي أنه لم يشتغل على هيجل مطلقا. وعطفا على الاستشهاد الذي ذكرته عن بريشت؛ هل لدى الدكتور المصباحي موقف معين تجاه هيجل بحيث يهمله ويتجاوزه، أم فقط لأنه مهتم بالواقع العربي الإسلامي بالدرجة الأولى؟
فعلا مَن لا يملك حس الدعابة، لن يدخل باب الديالكتيك الهيغلي، طالما أن جَدَله قائم على التناقض والسلب (سلب السلب إيجاب)، وهما أساس الدعابة والسخرية والمسرح في نفس الوقت. فإذا سلّمنا بهذه المقدمة فإننا سننتهي حتما إما إلى أن فوكو نفسه يفتقد روح الدعابة وبالتالي روح الديالكتيك، أو أن الفلسفة اللاحقة لهيغل لا تمتلك تلك الروح، وبذلك ستكون فلسفة بئيسة للهوية الثابتة في مقابل فلسفة التناقض المرحة. إذ حينما تصبح الفلسفة تؤمن بعقيدة الهوية، لن يكون للأسماء سوى معنى واحد، ما يعني نهاية التأويل وربما نهاية التاريخ.
أما بالنسبة لي فلم انقطع عن الاهتمام بهيغل خصوصا في مرحلة ماركسيتي، حيث اعتبره، بجانب أرسطو، من الفلاسفة الذين لا يمكن تجاوزهم لكونه دشن عهدا جديدا في الفلسفة يؤمن بأن لا شيء يشكّل هوية مع ذاته، وبالتالي فنحن لسنا نحن كما تقول أغنية “ناس الغيوان”، لأننا في صيرورة وتحول دائمين. ومن ثم فإن الادعاء بتجاوز هيغل يأذن بنهاية التاريخ. نعم، لم أكتب مباشرة عن هيغل، لكنني كتبت في موضوعات شبه هيغلية كموضوع التضاد.
يأخذني جوابك عن هيغل والتناقض إلى منطق المفارقة أو البارادوكس. هل يرى الدكتور المصباحي في البارادوكس حالة صحية تماما؟ أو ربما أكثر من ذلك فيما يبدو؛ هل يحث الدكتور المصباحي على المفارقات التي تحتمل الصحة والخطأ في آن واحد؟
التفكير بالمفارقة هو المنهج الذي تصطنعه الفلسفة والتصوف معا للاقتراب من الحقيقة أو المعنى، لكن بشرط أن نسيطر عليها، أي ألاّ تؤدي بنا المفارقة إلى الإعاقة عن التقدم إلى الأمام. ذلك أن المفارقات تقود إلى الحيرة؛ وكلما ازدادت حيرتنا ازددنا قربا من الحقيقة، لكن بشرط أن نعرف كيف تنعقد عقدة المفارقة، لأننا إن لم نعرف كيفية عقدنا لها، لن نعرف كيفية حلها. لهذا تلعب مقالة “الباء” من كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو التي تنظر في إشكالات أو مفارقات ما بعد الطبيعة أهمية قصوى في الفلسفة. وقد سبق لي في كتاب تحولات الفكر والوجود أن بيّنت أن مقالة الباء (صراع الأقوال والدلالات) حاضرة في خلفية فصل المقال لابن رشد.
بما أنك كتبت عن الحداثة وأفق ما بعد الحداثة، وكتبت ما وصفته بحداثة رشدية، وحداثة بأصوات متعددة، وربما الأمر ينطبق أيضا على دراساتك حول ابن عربي والغزالي؛ فيُهيأ إليّ أن الدكتور المصباحي يبحث عما يمكن تسميته بمابعدية عربية. على غرار التقسيمات التي نجدها في الفكر الأوروبي الذي شهد انقطاعات وانعطافات كثيرة. أن نفهم ابن رشد مثلا لكي نصنع ما بعد رشدية أو غزالية (أو ابنعربية) خاصة بنا وبثقافتنا. هل محمد المصباحي يريد أن يقترح إطارا نظريا ما لمنعطف عربي يبني على إرث ابن رشد وأقرانه ليؤسس لحداثة عربية مبدعة وخلّاقة على غرار المابعديّات الغربية؟
فعلا، خروجي من نطاق التأويل البرهاني لابن رشد مكنني من استعادة حريتي الفكرية والتصالح مع من كان ابن رشد لا يقبل بعض أطروحاتهم كابن عربي، وابن سينا ،والغزالي، والمتكلمين. لكن مثلا، إذا كنت لا أستطيع أن أتجاهل وصف ابن رشد للغزالي بالمُلبِّس وبالسفسطائي وبكاره الحق، وبأنه نشر بتآويله ثقافة كراهية العلم والعقل والانفتاح على علوم الأمم الأخرى، فإني لا أستطيع إنكار عبقرية هذا المفكر المخضرم (الهجين) وتخريجاته العجيبة.
هذا الانفتاح على كل الأطياف مهما بلغت درجة تحفظنا إزاء اطروحاتها هو ما يؤسس ما تفضلت بتسميته “ما بعد الرشدية”، ما يجعلنا ننظر إلى تاريخنا الفكري نظرة جدلية بعيدة عن عقلية الإقصاء، لا النظرة الهوياتية التطابقية. لكن الذهاب إلى ما بعد الرشدية لا يعني التخلي عن التنوير العقلاني، وإنما يعني أنني أومن بأن هناك أكثر من عقلانية، أو أكثر من زاوية للنظر إلى التنوير، شريطة ألا تنبذ هذه الزوايا النظر العلمي والتقني للعالم. والغاية من انفتاح “ما بعد الرشدية” على خصومها هو العمل على تجديد الحوار بحثا عن منطلقات جديدة للإبداع تؤسس لأصالتنا تجاه الآخر.
أريد أن أسألك تاليا عن موقف يبدو يحتمل منطق المفارقة داخله، وهو موقفك من التأويل كمشروع ومنهج لدراسة العقل العربي والذات العربية. إذ يبدو أن الدكتور المصباحي يبحث عن شيء داخل هذا المشروع، لا يعطي العقل العربي كل الثقة الأنطولوجية، وفي نفس الوقت لا يلغي أثر الذات ودورها في معرفة العالم. ربما يبدو أن الأمر قابل للتحقق أوروبيا لأن من ينتج المشاريع التأويلية في النهاية جهات (أفراد أو مؤسسات) بحثية وأكاديمية. ولكن كيف يمكن لذلك أن يتحقق عربيا والحق في التأويل مُصادر من قبل السلطتين السياسية والدينية؟ كما لو أن التأويل هو نفي وإثبات في الآن نفسه؛ نفي لإمكان الحداثة وإثبات لهذا الإمكان. هل الدكتور المصباحي يقرأ التأويل هكذا؟
التاريخ العربي الإسلامي يكاد يكون عبارة عن صراع بين الضدين التنوير والتأويل، بين الإضاءة العقلية والإغماض المجازي الخيالي؛ بين رؤية عقلية للوجود تسعى لاكتشاف حقائقه وتوظيفها لتغييره؛ ورؤية رمزية للنصوص العتيقة لإضفاء المعاني وظلال المعاني عليها. وغالبا ما كان ينتصر “الكشف العرفاني” على “النظر العقلي”، و”التأويل الرمزي” على “البرهان العقلي”. ويكفي أن نتذكر مثالين شهيرين للتدليل على ذلك، أولهما القصة التي يذكرها القرآن عن انتصار النبي الخِضْر على النبي موسى، والثاني الحكاية التي يذكرها ابن عربي والتي يصور فيها أنه أربك ابن رشد ودفعه للانكفاء على بحثه الفلسفي. كانت نتيجة انتصار التأويل على البرهان (التفسير العلمي) كارثية في تاريخنا الثقافي، تمثلت في تعطيل العقل والإرادة، فخسرنا العلم (الطبيعي) وخسرنا التاريخ، وبدلا من مواجهة الوجود بتنا نواجه النصوص، مما ولّد ثقافة التكفير، تكفير كلِّ من يبرهن على قدرة العقل على التفكير المستقل، وقدرة الأشياء على الفعل والتأثير، لأن ذلك تطاول على الإرادة الإلهية وإشراك في وحدة الذات الإلهية.
أما في أزمنتنا الحديثة فقد صار الصراع ثلاثيا بعد أن جاء التأويل مدعيا أنه بديل مطلب التنوير ومطلب التغيير معا، مما أهّله لأنه يُشكّل السمة القوية “لما بعد الحداثة” إن لم يكن أهمها. هكذا نشأ الصراع بين أنظمة المقاربة الثلاثة هذه. بيد أننا نؤمن بأنه يمكن أن تتعايش فيما بينها لكن دون إلغاء الاختلاف فيما بينها والخلط بين مجالاتها، كأن نقحم مثلا “التأويل” في البحث العلمي والانجرار وراء هلوسات الإعجاز العلمي للكتب المقدسة. ذلك أن الاختلاف واضح بين موضوعات التنوير والتأويل والتغيير، إذ موضوع “التنوير” هو الموجودات والظواهر الطبيعية، وموضوع “التأويل” هو النصوص المقدسة، بينما موضوع التغيير هو هياكل وأنظمة المدينة (الدولة). لذلك لن يغني البحث في هذا عن البحث في ذاك، لأن “التأويل” يتحرك داخل رؤية رمزية للعالم محاطة بالغموض والأسرار من كل جانب، رؤية تقسّم العالم إلى ظاهر وباطن، إلى عقل وأسطورة، وفكر وخيال، وشريعة وطريقة.
و”التنوير” يناضل ضمن نظرة أونطولوجية للعالم، والتغيير يتحرك في فضاء براكسيولوجي (من البراكسيس-الفعل). وليس من الحكمة أن نتخذ موقفا محايدا من هذه اللحظات المتصارعة، البرهانية والتأويلية والتغييرية، لأن مواجهة مصاعب الواقع الطبيعي (الحرائق والفياضات والزلازل والجفاف والأوبئة الخ) والواقع الاجتماعي السياسي (الفوضى، الاستبداد السياسي، والفساد، والظلم الخ)، والواقع الثقافي (ازدراء الثقافات واحتقار اللغات المحلية الخ) … لا يمكن أن يكون فعالا إلا بالعقل البرهاني، أما التأويل الرمزي والأسطوري فلا يستطيع سوى أن يدغدغ أحلامنا ويسكّن كوابيسنا. نعم، يمكن للتأويل أن يكشف لنا عن الوجه الآخر للواقع، عن طريق مد الخيال لنظره إلى الوجه الخفي من الحقيقة، وإعادة الاعتبار للغة بلوازمها المجازية والتمثيلية والتشبيهية، لكنه لا يستطيع فهمه والتأثير فيه.
في العلاقة المرتبكة بين الفيلسوف ورجل الدين؛ يمكن بسهولة ملاحظة أن رجل الدين، عربيا، هو صاحب الحظوة الأكبر جماهيريا وربما حتى سياسيا (لدى الساسة والسلطة). الأجوبة التقليدية لتفسير ذلك هي كالعادة؛ إما حول اللغة التجريدية للفيلسوف، أو دغدغة المشاعر لدى رجل الدين، أو أن الدين هو الأقدم أنثروبولوجيا من الفلسفة، أو أحيانا لأن الفلسفة لا تقدم أجوبة، أو لأنها تعمل ضد الدين، وهكذا. هل لدى الدكتور محمد المصباحي إجابات أخرى تفتح نوافذ جديدة للتفكير في هذه المسألة؟ كيف يتفاعل المصباحي مع إشكالية الفيلسوف مع رجل الدين؟
ما زالت لرجل الدين حظوة لدى الساسة أولا لأن الدين ما زال هو أساس مشروعية السلطة في البلاد العربية الإسلامية؛ وثانيا لأنه أداة التحكم في الجماهير ولجمها كيلا تنزل إلى الشارع للمطالبة بالديموقراطية والعدالة. أما الحظوة التي يتمتع بها رجل الدين لدى الجماهير فراجعة أولا لأن الدين ما زال يحتل مكانة مرموقة في مخيالها ووجودها؛ وثانيا لكون الجماهير المسلمة ما زالت تؤمن بالخوارق والمعجزات والأساطير، وتعتقد بأن لا إرادة لها أمام الإرادة الإلهية، وهذا نتيجة الأمية والجهل والخضوع لرؤية غيبية للكون؛ وثالثا لكون معظم رجال يملكون موهبة استثنائية في فن الخطابة تمكنهم من إيصال معرفتهم الواسعة والدقيقة بالشريعة إلى الجماهير بلغة شعرية مقنعة مطعمة بالقصص والحوادث الاستثنائية التي تُنسب للسلف “الصالح”.
أريد أن أسألك عن الفيلسوف الكندي؛ لأني لاحظت أنك لم تقل شيئا عنه هنا. رغم أنك درست فلسفته وكتبت عنها كثيرا في كتبك. بل في إحدى الندوات العربية حول الكندي أُهديت أعمال الندوة إليك. أين تقع أهمية أبو يعقوب الكندي اليوم؟ ما المسائل الملحّة في حاضرنا يجيب عليها الكندي؟
الأهمية التأسيسية لأبي يعقوب الكندي لا يمكن إنكارها، ولو أن معظم اللاحقين عليه تعمدوا إسدال ستائر النسيان عليه، ربما بسبب أن لغته كانت في طور التكوين مما جعلها غير واضحة، وهذا ما يتضح مثلا في رسالته في العقل، أو تردده في استعمال اسم الماهية في كتبه الميتافيزيقية. ولكني أعتقد أن من يريد دراسة أركيولوجية اللغة الفلسفية العربية فعليه أن يرجع إلى رسائله بالإضافة إلى الترجمات الأولى للأعمال الفلسفية اليونانية، وهذه مهمة جليلة شرع في إنجازها أنطون سيف.
لدي هنا سؤال عن ابن تيمية الفيلسوف وليس الفقيه. لست متأكدا، ولكن يبدو أن المصباحي يتجاوزه لدرجة الإهمال. في المقابل نجد أبو يعرب المرزوقي يعتبره المنظر الأول للمذهب الاسمي إسلاميا. ناهيك عما يعني ذلك في التأسيس لمنطق عربي يتجاوز منطق اليونان، والانتقال إلى الحالة العقلانية وتجاوز الأفلاطونية المحدثة التي صبغت الفلسفة الإسلامية. كيف يتفاعل المصباحي مع هذا الطرح؟
وقانا الله من هذا المحدّث المتشدد الذي لم يترك علما من علوم العقل والخيال والوجدان إلا وسلط عليه وبالا من شتائمه المتشائمة. إنه ليس لا فقيها ولا فيلسوفا. الفلسفة كثيرة عليه، إنها تقتضي حرية التفكير لا الحجر عليه. إننا نحتاج إلى من يفتح الأبواب لا أن يغلقها، نحتاج لمن يضع مجتمعاتنا في طريق التحدي العلمي والفلسفي، لا في طريق النكوص إلى مرتكزات النصوص العتيقة.
تأمّلات الفيلسوف؛ من أين يبدأ التفلسف؟
السؤال:
ما الذي يغذي تأملاتك أكثر شيء كفيلسوف؟ الفن الشعر السينما أم السياسة والصراعات اليومية أم الكتب والمقالات الفلسفية التي تصطدم بها؟ هل هي وظيفتك الجامعية؟ هل هي العلاقة مع الآخر.. أيا كان هذا الآخر؟ وكيف تقيّم أثر ذلك في فلسفتك إجمالا؟
الإجابات:
د. عبد السلام بن عبد العالي
من الصعب أن نقول إن محددا بعينه من هذه المحددات، أو السياقات هو الذي يتفاعل معه الفكر أكثر من غيره: ما أتفاعل معه هي قراءاتي وتدريسي، وانخراطي الاجتماعي، ومساهمتي في الندوات الفكرية وتفاعلي مع الإنتاجات الفلسفية، وترجماتي، وملاحظاتي لما يروج من حولي، وما أتلقاه من أخبار، وما أعيشه بصحبة الآخرين.
د. محمد شوقي الزين
أكثر شيء يُغذِّي تأمُّلاتي هو ما أقرأه وما أراه. عندما أقرأ النصوص (القديمة أو الحديثة) أفتح حوارًا مع كُتَّابها وأقارن بين الوضع التاريخي لتلك النصوص والوضع الذي نحياه اليوم. ليست العملية مجرَّد البحث عن المطابقات والاختلافات بين الماضي والحاضر، أو بين الأنا والآخر، بل هي دعوة للنظر في التجربة الإنسانية عمومًا، كيف تتجلَّى في التاريخ، كيف تتحوَّل وتتطوَّر، ثم كيف تتعثَّر وتنكمش. لكن لا تكفي النصوص لوحدها في فهم التجربة الإنسانية مهما كانت قوَّة تلك النصوص على المستوى البلاغي والمفهومي على شاكلة نصوص أرسطو وابن سينا وديكارت وجان جاك روسو. لا بدَّ من تكميل القراءة بالرؤية.
وفَّرت لي بعض السفريات، إما لأغراض بحثية أو لأغراض سياحية، الفرصة في أن أترك التجربة الإنسانية تتحدَّث إليَّ. أكتفي بالنظر أو التقاط الصور ثم أرى كيف تتحدَّث إليَّ تلك التجربة، إما مباشرةً عبر اللقاء بالناس والسماع إلى حكاياتهم، وإما بطريقة غير مباشرة بالتأمُّل في الآثار التاريخية وتصويرها مثل الحصون والقلاع والقصور والمساجد العريقة والكاتدرائيات من العصر الوسيط. كل هذا يقول شيئًا وينبغي الإنصات إليه والبناء عليه. السَّفر هو الذي وفَّر لي المادَّة الثريَّة في تغذية تأمُّلاتي الفلسفية، خصوصًا وأني أهوى زيارة المتاحف والتأمُّل في الآثار العريقة واللوحات التشكيلية.
د. محمد المصباحي
أتغذى من كل ما ذكرت وأكثر، لكن تبقى النصوص الفلسفية والصوفية والشعرية والسياسية والمقاطع الموسيقية واللوحات الفنية والإبداعات الشعبية، التي تكثف الواقع الحي في أفكار وصور وأساليب واستعارات وشعارات، هي التي تلهمني أكثر. فقد يكون مقطع من أغنية فرقة “ناس الغيوان” الذي يتساءل “واش احْنَا هُمّا احْنا أگلبي، ولاّ محال؟” ملهما أكثر من أي نص آخر لأنه يجمع في لمح البصر بين صيرورة هيراقليط وتغيير ماركس وعدالة رولز، ويذهب بك بعيدا لتتجاوز السؤال السياسي إلى السؤال الأونطولوجي عن معنى الذات.
ولا شك أن هذه المؤثرات الفلسفية والأدبية والفنية لا تحجب عنا الآخر، بل توطد علاقتنا به، إذ يبقى الآخر هو الذي يحركني للكتابة الفلسفية. لكن هناك آخر وآخر، هناك الآخر الذي انفعل به، والآخر الذي انفعل معه، والآخر الذي انفعل ضده دون أن يمنعني ذلك من أن أستفيد منه؛ فالآخر الذي يعمل على إلغاء ذاتي وانتمائي يفرض عليّ أن أكافح ضده، لأن ذاتي لا تسمح لي أن تتقمص ذات الآخر، أن تصبح غيرها، من هنا جاءت مقاومة التراث المستبد السالب للذات في مقابل الهوية!
د. الزواوي بغورة
لم تعد الفلسفة المعاصرة مكتفية بذاتها، بل تتحدد بغيرها من الفنون والعلوم وما يحدث في الحياة الاجتماعية. وشخصيا، أقرا أكثر التاريخ والرواية، وأتابع ما ينشر في مجال العلوم الطبيعية والإنسانية والاجتماعية، ومولع بالمسرح والسينما تحديدا. وفي تقديري فإن هذه المنابع حاضرة، بطريقة ما، في كتاباتي. وبوصفي أستاذا جامعيا، فإن شروط الوظيفة، ودرجات الترقي، تفرض إنجاز أبحاث أكاديمية متخصصة، وهو ما أنجزته في مرحلة من مراحل سيرتي العلمية. ومما لا شك فيه أن الآخر كان ولا يزال وسيبقى حاضرا في مناقشاتنا الفلسفية والفكرية، وهو ما يشهد عليه حضور الفلسفة الغربية في خطاباتنا المختلفة. وأما أثر ذلك في فلسفتي، فإنَّني اترك تقديره للقارئ الذي يعلم أنَّني مختص في الفلسفة المعاصرة، وفي فلسفة ميشيل فوكو تحديدًا.
د. عبد الله السيد ولدبّاه
انا مع قول جيل دلوز الذي له أصول نتشوية: الفلسفة لا موضوع لها ، وإنما تتغذى من غيرها، وبصفة خاصة من روافد الشعر والفن والدين. ولذا اعتبر غرامشي أن كل البشر فلاسفة بمعنى ما لأنهم يتقاسمون نفس مصادر التفلسف. لقد تعلمت الفلسفة من كتب الأدباء ودواوين الشعراء ومسطحات الصوفية وتأملات الحكماء بقدر ما تعلمت من كتب الفلاسفة. كان هايدغر يقول إن الفكر لا يختزل في الفلسفة التي هي سردية أنطولوجية محدودة، بل إن الشعر هو أسمى أنواع الفكر ويتقدم على الفلسفة نفسها.
السيد ولدبّاه.. يد في أوروبا وقدم على الأرض العربية
إلى أي مدى تتفق مع العنوان الذي اخترناه لاختزال فلسفة الدكتور عبد الله السيّد ولدبّاه؛ “يد في أوروبا وقدم على الأرض العربية “؟
اتفق مع هذه المقولة. أعتقد ان الفيلسوف اليوم لا بد أن تكون له اليدان: يمارس تفكيره من داخل تقليده التراثي ويقرأ هذا التقليد بأدوات العصر التي هي بالضرورة أوربية وغربية.
أنا أريد أن أسألك دكتور عن مشروع التأويل إسلاميا، وأنت اشتبكت كثيرا مع مدارس التأويل القديمة وعلاقتها مع ما بات يسمى بعلم الكلام الجديد، ومشروع الإسلاميات التطبيقية عند أركون وتلاميذه، ومشروع نصر حمد أبو زيد. يقرأ البعض لك تحفّظا على هذا التأويل؛ على اعتبار أنها لن تنتج تحديثا. وربما يتّهمك خصومك (لو جاز لي التعبير) بأنك إنما تستعمل ذلك لتبرير رفضك للتغيير الجذري الثوري، وميلك أكثر إلى الانتقال التدريجي الناعم، والبراغماتية الفكرية. تفعل ذلك عبر تأويل مفهوم التأويل نفسه، بإعطائه صبغة كونية (تأويل العالم بدلا من تأويل النص الديني). السؤال هنا: لو صحّ ذلك؛ ما البديل الذي يراه ولدبّاه في استنطاق النص الديني حداثيا؟ وأي مشروع من المشاريع الإسلامية التي تعاملت مع النص القرآني يراه أجدر بالاهتمام؟ وإذا لم يصح؛ فكيف يردّ عليه؟
انا أعتقد ان الفلسفة التأويلية هي أفقر جوانب الابداع الفلسفي في الفكر العربي المعاصر. السبب الأساسي يرجع حسب رأيي إلى أن هذا الفكر اتجه في الغالب إلى معالجة التقليد الوسيط باعتباره تراثا، أي تركة من الماضي مفصولة عنا، ومن هنا يغدو السؤال كيف نمتلكها أو نتصرف فيها؟
ما علمتنا التجربة الغربية هو أن التقليد ليس تراثا، بل نصّا نعيش فيه ونستكشف إمكاناته ونرصد معانيه الثرية والتباساته الإشكالية. لقد تعاملت مشاريع قراءة التراث وبصفة خاصة عند الجابري وأركون مع التقليد من منظور برادايم القطيعة الذي برز أصلا في كتابات الابستمولوجيا وتاريخ العلوم، وهو خلل منهجي كبير كانت آثاره وخيمة في الفلسفة العربية المعاصرة: تحول التراث إلى صراع إيديولوجي وسياسي على أرضية الماضي، وغابت الإمكانات الثرية والانتظارات الخصبة في النص الذي كما يقول ريكور مستقل عن ظروف إنتاجه وعن سياقات قراءاته. إنه الدور التأويلي الذي لا انفكاك منه على عكس أوهام القطيعة والانفصال وأوهام القراءات الحرفية المتحدة.
بخصوص مشاريع التراث، لا زلت وفيا لمحمد إقبال وحدوسه الثاقبة في “تجديد الفكر الديني” التي كان من المنتظر أن تكون أرضية لفلسفة دين إسلامية ما زلنا نتطلع إليها.
هناك جانب لم أفهمه تماما في فلسفة الدكتور السيّد ولدبّاه. وهو قراءتك لمفاهيم مطلقة من قبيل الأمّة، والشعب، والهوية، والتاريخ. لقد كتبتَ كثيرا عن هذه المفاهيم، ويبدو لي أنك تتعامل معها بحذر، على اعتبار أنها عصية على المساءلة النقدية. إما بسبب قدرتها على اختراق المحاكمات الفكرية والنفاذ إلى الشارع لصنع الحشد وإفشال كلّ مشاريع التنوير، أو ربما لشموليّتها وبالتالي سهولة تحويلها إلى أيديولوجيات. هل رؤيتك هي حقا كذلك؟ أم أن الحذر المفترض للدكتور ولدبّاه هو مشروع فكري لم يكتمل بعد؟ أعرف أن السؤال كبير ربما، ولكن إضاءتك له سيكون مهمّا لقرّائك.
إنك تتحدث عن مفاهيم ملتبسة، لا من حيث التوظيف الأيديولوجي، ولكن من حيث شحنتها النظرية، رغم ما تقوم عليه من بداهة زائفة. ما ذكرت من حذر هو في الحقيقة حرص على التأسيس الإشكالي والرؤية المعمقة والتفكير النقدي في مواجهة المطلقات السائدة التي هي مصدر الأوهام الشائعة. نحتاج إلى استخدام عدة مفهومية ثرية ومعقدة لمعالجة هذه الموضوعات التي هي من أهم اهتمامات الفلسفة العالمية راهنا. تكفي الإشارة فقط إلى تناقضات الفلسفة القانونية والسياسية ما بين تيارات ثلاثة متصادمة : التيار الليبرالي ، والتيار المجموعاتي والتيار الليبرتالي.
لدى العروي تمييز يقيمه فيما يتعلق بالتنوير؛ التنوير بين المؤسسة والمجتمع، أو التنوير لدى مؤسسة الحكم والتنوير لدى الشعب؛ من يقود الثاني؟ فالتنوير لدينا على المستوى العربي لم يبدأ من القاعدة ومن الجمهور، بل بدأ من الأعلى. وربما استشهد الدكتور ولدبّاه؛ في بعض ندواته إذا لم تخنّي الذاكرة، بالحرب الأهلية اللبنانية كمثال على أن التنوير كان على مستوى مؤسسة الحكم أو النخبة فقط. سؤالي هنا لك دكتور: لماذا لم تتمكن مؤسسة الحكم بنخبتها الإدارية والفكرية والاقتصادية من اختراق القاعدة لتشتغل على مفاهيم التنوير؟ هل هو بسبب ما يسميه البعض بالولع العربي بالنفي والتدمير كما في بعض التصوّرات؟ أم لعوامل أخرى تاريخية واقتصادية وسياسية؟
حركية التنوير بدأت في أوروبا عبر مسارات متمايزة: كانت حركية إصلاح ديني في المانيا، وإصلاح سياسي في اسكتلندا، وصراع مزدوج مع المؤسسة الدينية والمؤسسة السياسية في فرنسا.
في العالم العربي، بدأت ديناميكية التنوير عبر نشاط مزدوج لقادة الحكم وقادة الرأي والفكر من جهة. كان خير الدين التونسي حاكما متنورا ومفكر انوار. لا يمكن أن نفصل بين حركية التحديث التي قادها محمد علي باشا وأفكار التنوير لدى الطهطاوي. ولا يمكن فصل مشروع الإمام محمد عبده الإصلاحي والثورة العرابية.
أظن أن هذه الديناميكية المزدوجة انهارت بتفكك الحلف بين الفقيه الإصلاحي والسياسي الليبرالي والمثقف التقني. إنه الحلف الذي تحدث عنه العروي في “الأيديولوجيا العربية المعاصرة”. ما نعيشه راهنا هو انحسار نموذج المثقف التنويري وتراجع ديناميكية التنوير المجتمعية معا، وهو وضع له علاقة مباشر بانهيار الوضع الإقليمي العربي واشتعال الحرب الأهلية على أوسع نطاق في ساحات عربية عديدة.
عُقد مؤخرا لدينا في السلطنة ندوة دينية موسّعة بعنوان “الإلحاد وحقيقة التوحيد” في جامعة السلطان قابوس؛ كانت موطن استقطاب محليا، بين من يرى ضرورتها الملحّة وبين من لا يعتبر الإلحاد ظاهرة ومشكلة حقيقية في الداخل. لقد تابعتُ توصيات الندوة ولا أعرف لماذا تذكرتك وأنا أتابع تلك التوصيات، وخصوصا أنك كتبت كثيرا عن العلمانية والليبرالية من وجهات نظر إسلامية، كذلك كتابك المهم مع سعيد بنسعيد العلوي حول عوائق التحوّل الديمقراطي. كما لو أن القبيلة والعصبية الخلدونية هي في الحقيقة الدافع الخفي لمثل هذه الندوة، وليس للتحذير من خطر الإلحاد حقا. كيف يقرأ ولدبّاه هكذا فعالية في ضوء فلسفته لتحديث المجتمعات العربية؟
أرى ان المسألة الدينية السياسية (وليس العلمنة بالمعنى الشائع) هو الإشكال الذي لا بد من الاهتمام به فكريا وفلسفيا. لهذه المسألة جوانب عديدة، وتحيل إلى إشكالات نظرية ومجتمعية معقدة تتعلق بمكانة الدين في الشأن العمومي وعلاقة الضمير الذاتي بالسياق القيمي والمعياري العام، ومنزلة السياسة في تشكيل الواقع العام. إن اختزال كل هذه الموضوعات في مسألة الاعتقاد الديني الشخصي لا معنى له، خصوصا أن مسائل الاعتقاد هي خيارات فردية ميتافيزيقية لا يمكن حسمها بالجدل العقلي أو الفلسفي. إنها من الذوقيات والتصديقات والسماعيات على لغة الغزالي، ولا معنى للقول بقدرة تجاوزها.
أريد هنا أن أسألك عن مشروع الدكتور طه عبد الرحمن، وأنت كتبت عنه في كتابك عن أعلام الفكر العربي، كما وتكلمت عنه كثيرا. سؤالي هو: ما أهم العوائق أمام نجاح مشروع طه عبد الرحمن في الحداثة الإسلامية بحسب رؤية السيد ولدبّاه؟ هل هي نفس التحديّات التي تواجه مشاريع الجابري وأركون وأبو زيد في نقد التراث الإسلامي؛ أم شيء آخر؟ وتحديدا.. هنا أسأل عن فلسفة اللغة عند طه عبد الرحمن؛ لأنها فيما يبدو مختلفة عنها بالمقارنة مع الآخرين، وما يبرر ذلك المصطلحات الجديدة التي يبتكرها عبد الرحمن ابتكارا ليجعلها أدوات تعمل كتروس متشابكة داخل مشروعه. هل هذه الفلسفة اللغوية نقطة قوة أم ضعف في مشروع د. طه عبد الرحمن؟ من قبيل إضفاء مزيد من القداسة أو الهالة حول المشروع. كما لو أن اللغة تصبح غاية لنفسها عند عبد الرحمن. هل هذا صحيح؟
طه عبد الرحمن اختط لنفسه مسلكا مغايرا لقراءة التراث من خلال مسالك فلسفة اللغة والمنطق التي ليست مألوفة في الفكر الفلسفي العربي. ولذا كانت إسهاماته لافتة وهامة في الخطاب الفلسفي المعاصر. بيد أن الإشكال الذي طرح بالنسبة لي هو عجز مشروع طه عبد الرحمن عن بناء نص فلسفي بشروط الفلسفة الكونية، لكون كتاباته ظلت محكومة بالأدوات التراثية نفسها التي أراد أن ينحتها كمفاهيم نظرية كونية. لقد انعكس هذا التوجه على تصوره للحداثة الإسلامية، ولبعض مواقفه السياسية والأيديولوجية التي أختلف معها أشد الاختلاف، خصوصا ما في كتابه “ثغور المرابطة”.
الزواوي بغورة.. فيلسوف الاتّصال الحضاري والتاريخي
إلى أي مدى تتفق مع العنوان الذي اخترناه لاختزال فلسفة الدكتور الزواوي بغورة؛ “فيلسوف الاتّصال الحضاري والتاريخي”؟
أفضل القول فيلسوف التواصل التاريخي والحضاري. لماذا؟ لأنَّني أعطي الأولوية للتاريخ أو للبعد التاريخي في الإنسان، واعتبر الإنسان كائنا تاريخيا قبل كل شيء، والتواصل الحضاري بدلًا من الاتصال الحضاري، لأنَّه دائم ومستمر و لا ينقطع او يتوقف عند مرحلة معينة.
من يقرأ للزواوي بغورة؛ يجد أنه أقرب للفلسفة التحليلية. يمكن ملاحظة ذلك في المصطلحات التي تستعملها أو تبحث فيها، وفي طريقتك في الكتابة. المفاهيم التي اشتغلت عليها من قبيل الليبرالية، اللغة، الخطاب، الديمقراطية التمثيلية، فلسفة العلم، أو حتى مفهوم الاعتراف. كل هذه جرى التقليد أنها أقرب للتحليلية. ومع ذلك أنت من أهم من اشتغل على فوكو ترجمة وشرحا وتعليقا. هل الزواوي بغورة يشتبك مع الفلسفة القارية وهو داخلها أو من خارجها؟ وهل لذلك علاقة بنوعية المواضيع التي يناقشها عندما يدخل على الفكر العربي والإسلامي؟
لا شك أن الفكر العربي المعاصر، ارتبط أكثر بالفلسفة القارية الأوربية في صورتها الفرنسية والألمانية، فإذا استثنينا محاولة زكي نجيي محمود الوضعية، فإن مرجعية فكرنا العربي المعاصر قارية، ولكن ما يجب التأكيد عليه هو أن هذا الفصل بين الفلسفة القارية والتحليلية لم يعد قائما منذ الربع الأخير من القرن العشرين، وذلك بسبب التداخل والامتزاج الذي أصبح يسم الخطاب الفلسفي المعاصر. فمثلا إن الفيلسوف الأمريكي تشارلز لارمور الذي ترجمت مؤخرا كتابه: الحداثة والأخلاق (دار صوفيا، الكويت،2022)، يكتب باللغتين الإنجليزية والفرنسية، ويناقش الفلاسفة القاريين والتحليليين، ومثله فعل بول ريكور، وقبلهما ميشيل فوكو الذي استفاد من الطرائق التي طورتها الفلسفة التحليلية في دراسته للخطاب. من هنا تجدني أعمل ضمن هذا التوجه الذي يحاول الاستفادة من مختلف الإسهامات البحثية الفلسفية المعاصرة. وأعتقد أن أبحاثي التي نشرتها تعكس هذا التوجه سواء من خلال دراستي لبعض الفلاسفة أو لبعض القضايا الفلسفية، وعلى رأسها بالطبع قضية اللغة والعدالة.
يبدو الزواوي بغورة لا يحبذ فكرة المنعطفات في الفلسفة. هكذا البعض قرأ كتابك الصادر في ٢٠٠٥ عن نقد المنعطف اللغوي. كما لو أن الدكتور بغورة يميل إلى فكرة أن كلمة “المنعطف” هو نوع من المبالغة أو التسويق لو جاز التعبير من قبل تيارات معينة في الفلسفة لتعطي نفسها ثقل وأهمية وميزة أكبر من بين تيارات الفلسفة، وأيضا لإيمان الدكتور بغورة بالاتصال في الفكر. فهل هذا صحيح؟ وإن كان كذلك؛ كيف يقرأ الدكتور الزواوي فكرة الانقطاعات التي عبّر عنها توماس كون فيما سماه بالبرادايم؟ هناك أيضا تصور قريب من ذلك يتعلق بالتصنيف. أدمغتنا تصنف لكي تفهم، وبالتالي التقسيم إلى فترات أو مراحل أو تيارات هو جزء من بنية التفكير البشري. فإلى أي مدى يمكن أن يتعارض ذلك مع فكرة الاتصال البشري؟
لا أفهم المنعطف على أنه قطيعة، وإنما هو تحول في المسار لا يقطع مع المراحل السابقة. وفي دراستي للمنعطف اللغوي في الفلسفة المعاصرة، بينت أن اللغة كانت موضوعا من مواضيع الفلسفة التي قدم حولها الفلاسفة بعض تأملاتهم، أقدمها تلك التي عرضها أفلاطون في محاورته: قراطيل، وأنَّ تحول اللغة إلى موضوع مركزي في الفلسفة مع مجيء الفلسفة التحليلية أو الفلسفة التأويلية أو اللسانية لم يمنع ذلك المنعطف من التحول إلى فلسفة الذهن أو العقل والعودة من جديد إلى مواضيع الفلسفة الأساسية المعرفية والأنطولوجية والقيمية.
وإذا كانت فكرة القطيعة قد ارتبطت بتحليلات توماس كوهن للثورات العلمية، ولها مشروعية في تعيين التغير والتبدل الذي أصاب النظريات العلمية، والذي سبقه إليه الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار في تعيينه للفكر العلمي، فإنَّ عملية نقل فكرة القطيعة إلى مجال الإنسانيات والثقافة قد كشف عن محدودية هذه المحاولة، وعن فسادها في تقديري. وليس أدل على ذلك ما قدمه فوكو نفسه الذي وظف فكرة القطيعة والانفصال في كتابه المشهور: الكلمات والأشياء، ثم تراجع عنها في بقية أعماله. لذلك لا أرى أن الانعطاف دليل على القطيعة، وإنما هو دليل على التحول التاريخي، وأما التصنيف، فإنه آلية منهجية لمعرفة الأشياء، ولكنها قابلة للتحول إلى معيار إقصائي، وهو ما يجب الانتباه إليه عندما نجري تحليلاتنا التاريخية أو الاجتماعية أو السياسية.
الملاحظ أن الكثير من المفكرين والفلاسفة العرب؛ يدمجون بشكل وآخر في أعمالهم قراءات أدبية وفنية. يعني بالإضافة إلى الأعمال الفكرية المنهجية، فإن لهم صولات وجولات في ساحة الأدب؛ نقدا واستنطاقا وحتى فلسفة. يمكن ملاحظة ذلك عندما يتفلسف البعض انطلاقا من فيلم سينمائي أو رواية أدبية أو قصيدة أو حتى أعمال فنية تشكيلية ونحت. ولكن يبدو أن الدكتور بغورة مقلّ جدا في ذلك. هل يوجد سبب معيّن في ذلك؟ أم لديك رؤية محددة يمكن أن تضيئها هنا لقرائك؟
لقد خصصت لفلسفة الفن والجمال بعض الأبحاث ذات الصلة بالمنظور الكانطي الجديد، وخاصة عند أرنست كاسيرر، ومهتم كثيرا بالرواية، وخاصة الرواية الجزائرية، ولكن مع ذلك يجب عليّ أن اعترف بأنني مقل في هذا الجانب، وأعمل على تداركه في أبحاثي القادمة حول الفلسفة الاجتماعية التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالرواية.
أريد الآن أن أعرف رأي الدكتور الزواوي بغورة في مسألة النخبة والوعي بالمستقبل. لدى هيجل كلمة مهمة عن التاريخ، وهو أن التاريخ هو وعي الحرية بذاتها. هل هذا الوعي قابل لأن يتحقق بالتساوي بين الناس؛ إذا ما أخذنا قول ديكارت بأن العقل قسمة عادلة بين البشر؟ أم أن من طبيعة هذا الوعي أن يكون نخبويا؟ بمعنى يتكشّف ويتجلى لدى قلّة من الأفراد سيصبحون هم نخبة المجتمع؟ وهل بالضرورة هو وعي بالمستقبل؛ بمعنى رؤية المستقبل في الحاضر؟ وهل من محددات معينة لتعريف هذه النخبة؟
يمكن القول إجمالا إنَّ النخبة تشير إلى معنيين عامين، المعنى الإيجابي الذي يشير إلى نوع من النجاح والتقدير، والترقي في السلم الاجتماعي. والمعنى السلبي الذي يحيل إلى تحول النخبة إلى جماعة منغلقة على ذاتها وهو ما يسمى بـ(النخبوية). ولكن في جميع الأحوال، فإن النخبة تقال على فئة متميزة مقارنة ببقية المجتمع/الجمهور. وتحيل دائما إلى نوع من التراتب والتصنيف الاجتماعي الذي يضمن مقدارا من الامتيازات المادية والرمزية المشروعة أو غير المشروعة، وذلك مقارنة ببقية المجتمع. ويمكن تلخيص النقاش الدائر في هذا المجال في موقفين كبيرين. الموقف الذي يقول بنظرية النخبة في حكم المجتمع. وتذهب هذه النظرية النخبوية إلى القول بأن السلطة هي العامل الحاسم في عملية تطوير وتنمية وتقدم المجتمع، وبالتالي فإن النخبة تقود العامة/ الجمهور/ الشعب. وبهذا المعنى، فإن النظرية النخبوية مضادة للمجتمع الديمقراطي.
وفي مقابل هذه النظرية النخبوية، هنالك ما يمكن تسميته بالنظرية الديمقراطية في تسيير المجتمع، والتي على الرغم من إقرارها أن الجمهور/الشعب لا يمكن أن يحكم نفسه بنفسه، ولكنها في الوقت نفسه ترى أن الذي يحكم ليس نخبة واحدة ووحيدة، وإنما نخب متعددة الاختصاصات ومتنافسة فيما بينها. إذا كانت النخب تتكون من فئات عديدة: النقابات، رجال الأعمال، العسكر، الإداريون، فإن المثقف يعد جزءا من هذه النخبة. ويشكل المثقفون فئة بحكم المرتبة، والقدرات، والامتيازات داخل المجتمع مقارنة بغيرهم. وهنالك، عدة نماذج تحليلية للمثقف، منها (المثقف العضوي)، و( المثقف الملتزم)، و(المثقف الخصوصي)، و (المثقف النقدي) الذي يختلف عن (المثقف الإيديولوجي).
وفي تقديري، فإنَّ المثقف النقدي يتحدد، بجملة من السمات أهمها:
(1) لا يستقيم النقد إلا بقدر من المعرفة، فالنقد أولا وقبل كل شيء معرفة، ومهمته الأولى هو إنتاج معرفة في موضوع معين؛
(2) قد يفيد النقد، النقض، والقلب، والتقييم، ولكنه هو أولا وقبل كل شيء، ممارسة هدفها معرفة حدود الأشياء، وجميع الأشياء بلا استثناء. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بقدر من التحليل والتشخيص للمواضيع، والحالات، والقضايا، والظواهر، والمواقف.
(3) لا يتكون الموقف النقدي من الأسس العلمية فقط، وإنما من التزام أخلاقي للمثقف قائم على قيم الحقيقة والعدل والحرية؛
(4) يتمثل العمل الأساسي للمثقف النقدي بلا أدنى شك في نقد السلطة، ولكن السلطة بمعناها المتعدد الذي يشمل نقد سلطة القدماء أو سلطة الماضي، ونقد السلطة العلمية والإعلامية والمالية في عصرنا، وبالطبع نقد السلطة السياسية.
ما يتركه الفيلسوف؛ في الأسئلة المنسيّة
السؤال:
ما الأسئلة الفلسفية التي لم يطرحها الدكتور على نفسه؟ أو التي تمنى أن يشتغل عليها، ولكن لأي سبب من الأسباب لم يفعل؟ أو التي يتمنى أن يكون لك تلاميذ يواصلون ما بدأته؟ هل سبب تجاوزك لهذه الأسئلة لأنها لم تنضج كفاية؟ أم لغياب مناهج النظر فيها؟ أم لأنها غير مهمة اجتماعيا؟ أم لأنها محرّمة عربيا؟
الإجابات:
د. عبد السلام بن عبد العالي
لعل السؤال يقصد المجالات التي كنت أتمنى الخوض فيها ولم أفعل. ربما يصعب تحديد هذه المجالات وحصرها نظرا لاتساعها. فالدرس الفلسفي، في المغرب على سبيل المثال، حديث لا نستطيع أن نرجع به إلى أبعد من نهايات خمسينيات القرن الماضي. وترجمات الأصول مازالت متعثرة لأسباب معقدة، من بينها أننا مازلنا في طور فتح لغتنا على الحداثة. هذا فضلا على أننا نوجد في الفلسفة بين تراثين ضخمين، لا يقل أحدهما عن الآخر أهمية. ها أنتم ترون أن الطريق صعب، وهو يتطلب مكابدة ونضالا على مستوى النظرية.
سؤال ممتد: هذا السؤال يشبه أن نطلب من الباحث أن يدرس موضوعا ما ثم لا يجد مصادر عربية تتحدّث عن الموضوع، فيضطر إلى الاعتماد كليّا على اجتهادات الشعوب الأخرى، أو حتى عندما يريد الكاتب الفلسفي أن يضرب أمثلة على تحليلاته فيلجأ إلى مجال ثقافي آخر غير مجاله. كما لو أن هناك أسئلة منسيّة في المشهد الفلسفي العربي. لفت انتباهي فيما قلت؛ مسألة “فتح اللغة العربية على الحداثة”. كما لو أن د. عبد السلام يرى أن اللغة العربية ما تزال لم تقتحم حقول تفكير أخرى. ما الذي يراه بنعبد العالي هنا، ولا يراه جمهور الفلسفة عربيا؟
أنا لا أرى عيبا في الانفتاح على كل الثقافات مكانا وزمانا، لم يكن نيتشه، على سبيل المثال، يرى عيبا في الاستشهاد بأديب فرنسي مثل ستاندال أو موباسان. مثلما لا يرى هايدغر عيبا في الحوار مع الفلاسفة الإغريق، أو البيروني في حديثه عن ثقافات متعددة.
أما فيما يتعلق بعجز اللغة فهذا أمر نلمسه عند الترجمة. كما تعلم، أنا أجتهد كثيرا لنقل نصوص فلسفية إلى العربية، إلا أنني أجد عجزا كبيرا في نقل بعضها، مثل نصوص دريدا على سبيل المثال. والأمر لا يخص اللغة العربية وحدها، ويكفي أن نتابع ترجمات هيجل وهايدغر إلى اللغة الفرنسية لنلمس ذلك.
د. محمد شوقي الزين
هناك أسئلة لم أشتغل عليها بسبب ضيق الوقت، ولكيلا أجمع عدة اهتمامات في الوقت نفسه تفاديًا للتشتت. لكن، إذا كان لي اهتمام بموضوع ما ولا أجد الوقت الكافي للانكباب على دراسته، فإني ألجأ إلى الترجمة، باختيار الكتاب الملائم الذي يدخل في صلب اهتماماتي. مثلًا، ترجمتي لكتاب جان غرايش «العيش بالتفلسف» للنظر في العلاقة بين الفلسفة بوصفها مؤسسة ثابتة من النصوص تنتمي إلى إقليمٍ بعينه (الإغريق) والتفلسف بوصفه عملية متغيرة من التفكير مع النصوص وضدها وينتمي إلى أقاليم متعددة (آسيوية، عربية، لاتينية، إلخ). وفَّرت لي ترجمة هذا الكتاب وقتًا ثمينًا.
الشيء نفسه مع مفهوم الحقيقة. منذ مدَّة أفكر في إنجاز عمل حول الحقيقة، لكن بسبب اشتغالي على قضايا أخرى ومنها النظرية الثقافية، ارتأيتُ ترجمة كتاب آخر لجان غرايش عنوانه «موعد مع الحقيقة».
في نظري، تُعد الترجمة هي «ما لا يُطرَح على النفس» من قضايا وأسئلة، أو لنقل بأنَّا نطرح هذه القضايا والأسئلة بوساطة الترجمة. حتى الأسئلة المحرَّمة يمكن طرحها بوساطة الترجمة، وإن كان ينبغي التصرُّف في الترجمة بتكييف عباراتها مع السياق التداولي. كان هذا مثلًا في عز الحرب الباردة بترجمة روايات أمريكية إلى الروسية بالتحايل على الروح الشيوعية الغالبة وعكسه بترجمة الروايات الروسية بصفتها إزاحة داخل الفكر الأمريكي الليبرالي.
أجازف بالقول بأن الترجمة في حد ذاتها هي السؤال الفلسفي الذي لم نطرحه على ذواتنا. ومهما ترجمنا أو كتبنا حول الترجمة، تفلت هذه الأخيرة من طريقتنا في المقاربة الفلسفية. تريد الترجمة أن تكون ممارسة عملية تحثنا على التفكير فيما تتحدث عنه، لكن تختفي عندما نقصدها بالتفكير والسؤال الفلسفي. لماذا؟ ربما لا يوجد جواب عن هذا السؤال ما عدا الإشارة البابلية في استحالة تحديد اللحظة الأولى لتفكك اللغات وانفصالها عن بعضها. لذا، تبقى الترجمة هي السر المكنون واللغز المحيِّر.
د. محمد المصباحي
لا يمكن للمرء أن يتناول في حياته كل الأسئلة. وهناك أكثر من سؤال لم يكن الوقت كافيا لتناوله، وتهم خاصة مجالات العقل العملي، كسؤال الأخلاق وسؤال السياسة وسؤال الجسد بنزواته وانفعالاته ونزوعاته، وسؤال الفلسفة الشعبية، وسؤال علاقة الأدب والفن بالفلسفة. مثلا كنت دائما أتمنى أن يسمح لي الوقت أن استخرج فلسفة كبار الشعراء كالمتنبي والمعري ومحمود درويش من دواوينهم الزاخرة بالأفكار والتلميحات الفلسفية.
سؤال ممتد: هل تظن أن المحرمات الثقافية أو الخطوط الحمراء الكثيرة لدى السلطة (بمختلف أشكالها) سبب في عدم طرح أو تناول بعض الأسئلة الفلسفية؟
في الفلسفة الخطوط الحمراء حوافز، وليست مثبطات، إذ هي التي ترشدنا إلى الأسئلة الحقيقية. ولا أعلم أن هناك خطوطا حقيقية حمراء وُضعت أمامنا. أنا أتمنى لو كان في زماننا رجل مثل الغزالي فيضع أمامنا ثلاثة مسائل علينا ألا نقترب منها (النفس، خلود العالم، الله). الخطوط الثلاثة التي وضعها الغزالي لم تعد حمراء، بل أصبحت خضراء بفضل التقدم العلمي في كل المجالات.
د. الزواوي بغورة
لا أصدر في عملي وبحثي عن فكرة كلية، أو مشروع شامل، يحمل أسئلة محددة معدة سلفا، ويسعى لتقديم أجوبة شافية، ولكنني أقوم بأبحاث جزئية تحاول، قدر الامكان، تحليل أسئلة محددة في اللغة، والعدالة، والهوية. وغالبا ما تؤدي هذه الأسئلة والتحليلات الى طرح أسئلة جديدة. وهو ما يعني أن طبيعة البحث الذي أقوم به هو الذي يفرض أسئلته التي أحاول جاهدا الإجابة عليها. وعليه، فإنَّني لا اعتقد أن الأمر يعود لغياب المنهج، أو لأنها محرمة. إن الانتماء إلى الفلسفة وإلى البحث الفلسفي يتطلب الخضوع فقط لمحكمة العقل، ولا شيء يعلو عليه.
د. عبد الله السيد ولدبّاه
من الصعب الإجابة على هذا السؤال، لكن أود فقط أن أقول إن الموضوع الذي كنت أود أن أتفرغ له وأرجو أن يشغل الجيل الجديد من دارسي الفلسفة هو موضوع البلاغة العربية من منظور فلسفي منطقي، أي أدوات الحجاج والإقناع والتعبير في النص الأدبي العربي الذي غاب إجمالا عن اهتمامات المشتغلين بالتراث من الفلاسفة العرب المحدثين. عندنا إرهاصات مشجعة في كتابات طه حسين وأمين الخولي. لكنها غير كافية وتحتاج إلى تطوير وتعميق.
محمد شوقي الزين.. فيلسوف اللامفكر فيه
إلى أي مدى تتفق مع العنوان الذي اخترناه لاختزال فلسفة الدكتور محمد شوقي الزين؛ “فيلسوف اللامفكر فيه”؟
هناك بالفعل شيء غير مفكَّر فيه عبر بعض الأسئلة المطروحة والتي لم ترع الاهتمام. مثلًا: البُعد التداولي المهجور أو غير المفكَّر فيه، هو الذي أطرحه تكميلًا واستئنافًا للبُعد التأويلي. مثلًا، قضيتُ سنوات في البحث لأفهم في الأخير أنَّا في الحقيقة لا نتبع فلسفة الآخرين ولم تكن الفلسفة العربية الإسلامية مجرَّد “فلسفة إغريقية مكتوبة بالعربية” كما قال أرنست رينان، بل يلعب البُعد التداولي دورًا رئيسًا في تبيان جانب الإبداع فيما نكتبه أو فيما وصل إلينا من الماضي. بمجرَّد أن نُدرج المؤشرات التداولية مثل المكان والزمان والنحن وذكاء الاستعمال، فإنَّا نُعبِّر عن كينونة لها القدرة على إظهار شيءٍ من ذاتها. لم نعطِ لهذه الحقيقة التداولية حقها من الدرس، لأن بمجرَّد ما “نستعمل” فكرة، فإنَّا نُبدع فيها ما دام تلك الفكرة تنتقل إلى سياق مغاير يقوم بأقلمتها وتملُّكها وتلوينها بألوانه. ومن ثمَّ، فإن ما نتداوله من فلسفات إنما هو ما نفكِّر فيه بمؤشراتنا الخاصة وفي سياقنا التاريخي.
يكمن وجه الإبداع هنا بالضبط، تمامًا كما تقول نظريات ما بعد الحداثة في الفن: ليس الإبداع الإيجاد من عدم، بل هو الاشتغال على عناصر موجودة سلفًا بمعقولية مغايرة وعبقرية أصيلة. لأن بمجرَّد ما نُعطي للعناصر الموجودة سلفًا صورة جديدة ومختلفة، فهذا وجه الإبداع نفسه. إذا بحثنا عن وجه الإبداع في الفلسفة العربية الإسلامية غير “الروح الفلسفية الإغريقية” المترجمة والمنقولة إلى العالم الإسلامي، فما هو؟ أقول بأنه موجود في معقولية اللسان العربي نفسه الذي ينبغي إعادة الاشتغال عليه. يمكن عزل فكرة عن إقليم معيَّن (السياق الإغريقي) والنظر في الكيفية التي تأخذ بها معنى جديد عندما تتسربل لباسًا لغويًا جديدًا في إقليم آخر. هنا مكمن النُقلة أو الانتقال في التصوُّر والتفلسف.
عندما نقرأ الكندي والفارابي وابن باجة، لا يمكن أن نقول بأنهم “أرسطو” يحمل عمامة على رأسه ويتكلم العربية. هناك إزاحة في القول الفلسفي العربي، ليس فحسب على مستوى اللسان، بل كذلك على صعيد المبحث، مثل العلاقة بين العقل والنقل التي لم يعرفها القدماء، لأنها طرحت مشكلات كلامية وفلسفية جسيمة بدخول الوحي في التاريخ، ووجَّهت التفكير الفلسفي نحو قضايا جديدة.
الملاحظ مؤخرا أن محمد شوقي الزين مهتم بالتفكير الفلسفي في الصورة. تابعت لك محاضرة عن دريدا والباروك، وعدة مقالات عن فن الأيقونة في التراث الديني. يبدو لي كأنك تريد استقراء ما يمكن تسميته بلاهوت الصورة، على اعتبار أنها نوع من اللاهوت المفتوح الذي يمكن أن يخصّب اللاهوت التقليدي المغلق. هذا يقودني إلى تنظير آخر لك للتمييز بين الخيال والمخيال، وبتحريم الصورة في الاسلام، وعلاقة ذلك بقدرة المسيحية على تجاوز نفسها في مقابل النظام الصارم في الاسلام. هل هذا فعلا ما جذبك للتفلسف في لاهوت الصورة والأيقونة أم أشياء أخرى؟
التفكير في الصورة هو امتداد للتفكير في الثقافة. كل تفكير في الثقافة يمرُّ عبر دراسة الصورة. الفاصل بين الطبيعة والثقافة هو الفاصل بين الشكل والصورة. تصنع الطبيعة الأشكال (أشكال الجبال والأنهار والأشجار)، لكن لا تصنع الصور. الصورة هي ابتكار ثقافي. لذا، اتَّخذت أنماطًا متعددة من الدراسة. يمكن الحديث عن لاهوت الصورة الذي يقرأ وجود الإنسان على صورة الإله؛ وفلسفة الصورة التي تقرأ نظام التمثُّل البشري وتجلياته في الفن والأدب والمعمار؛ وفينومينولوجيا الصورة التي تقرأ ما تكشفه الظواهر بذاتها لنظام الوعي والتمثل، إلخ.
يمكن تعداد كل الأنظمة المعرفية التي تشتغل على الصورة. لكن يبقى الإشكال المطروح: لماذا اختفت الصورة في التاريخ الفلسفي ما عدا بعض المحطات العابرة وغير الحاسمة؟ عندما طرد أفلاطون «نظام الصورة» من التفلسف بهجاء الفنان (المقلّد) والسفسطائي (صاحب زخرف القول) وحبَّذ في مكانها «نظام الفكرة» (الجدل والحوار الحي)، فإن الصورة لجأت إلى الفن والأدب واللاهوت للتعبير عن حقها في الوجود والتعبير. ثم كانت فريسة التقسيم المعرفي بجعل الفلسفة مملكة العقل، والفن والأدب أقاليم الانفعال الذي تثيره الصورة بقدرتها على الإغراء والاستمالة. لكن بانهيار الجدران بين الفلسفة والأدب مع صعود تيارات ما بعد الحداثة، وبصيرورة الصورة حضارة العصر في التقنية والفن والتكنولوجيات الحديثة والعالم الأثيري والافتراضي، فإن الفلسفة مدعوة لأن تتصالح مع الصورة التي أقصتها في تاريخها المعرفي. تنخرط محاولات دولوز (الفن والسينما) في هذه المصالحة وكان قد سبقها نقاش صارم ومثمر حول الأفلاطونية ومسألة السيمولاكر (الإيهام) الذي بسببه عيَّر أفلاطون منظومة الصورة.
في سؤالي لك عن فلسفة الصورة؛ سألت عن علاقة لاهوت الصورة بقدرة المسيحية على تجاوز نفسها مقارنة بالنظام العقائدي الصارم في الإسلام. فالمسيحية كما يراها البعض أكثر ديناميكية وتغيّرا. تحديثات كثيرة طرأت عليها بعد أن كانت الصورة محرمة في قرونها الأولى. هل لهذا التغيّر في استيعاب الصورة داخل اللاهوت المسيحي في مقابل رفضه في اللاهوت الإسلامي دخل في ديناميكية المسيحية المدّعاة في مقابل انغلاق الإسلام على نفسه؟
منطلق الصورة في المسيحية هو الآية الإنجيلية «خلق الله الإنسان على صورته». كانت هنالك تأويلات أدَّت إلى ما يُسمَّى في بيزنطة بـ«سجال الأيقونات»، بين قدرة الصورة على تمثُّل الألوهية وهو ما تُمثِّله «الأيقونة» أو عدم قدرتها على ذلك لأنها مجرَّد شيء حسِّي أو مادِّي وهو ما يُسمِّيه أعداؤها «الأيدولة» أو الصنم. كان هنالك نقاش محتدم وشرس، أدَّى في بعض الأحيان إلى صراعات دموية بين الفريقين، الفريق المناصر للأيقونة والفريق الرافض لها. في البداية كانت الغلبة لأعداء الأيقونة، لكن تبيَّن مع مرور الوقت بأن تبنِّي الصورة لم يكن فقط لدواعي دينية محضة عبر النقاشات اللاهوتية في المجمَّعات الكنسية، بل كذلك لدواعي سياسية وهي أن التوسُّع الإسلامي في العصر الأموي دفع بيزنطة لأن تجد شيئًا تخالف به العالم الإسلامي.
كان العالم الإسلامي وقتها «أيقونكلستيًا»، يُحرِّم الصورة والتصوير، وكان يُهدِّد بيزنطة بمختلف الغزوات والسياجات. علاوةً على الصراع العسكري، كان الصراع كذلك رمزيًا وحضاريًا، فعمدت بيزنطة إلى تبنِّي الصورة كرد فعل على العالم الإسلامي الخالي من التصوير في تمثُّله للأشياء الدينية والروحية. سيتأكَد ذلك قرونًا بعد ذلك، خصوصًا في معارك الاسترداد عندما أقدمت الجيوش النصرانية في الأندلس بشنِّ غارات على ملوك الطوائف لاسترجاع أقاليم واسعة، فسقطت المدن الاستراتيجية في الثغور الشمالية من الأندلس (سرقسطة ثم طليطلة). عندما سقطت قرطبة، أصبح الجامع الذي كان يؤمُّ فيه ابن رشد الحفيد عبارة عن كنيسة مع الإبقاء على مساحة واسعة من المسجد. من يلج في هذا الجامع-الكاتدرائية، يندهش من الأسلوب الباروكي الذي يُميِّز المنحوتات والتماثيل والجدران والهيكل في القسم الكاتدرائي منه، ويُدرك كيف أن الصراع كان حضاريًا في جوهره وهو إثبات الوجود المسيحي داخل المعلم الإسلامي بالزخم الأيقوني الذي يُؤثث ذلك المعلم.
الشيء نفسه مع قصر الحمراء في غرناطة. عندما استولى الإسبان على المدينة وهجرة آخر ملوكها، أبو عبد الله محمد الثاني عشر، قام الامبراطور شارلكان خلال حكمه ببناء قصر وسط قصر الحمراء ليكون مقرًّا له وليؤكِّد بذلك على غلبة الإسبان على الموريسكيين بعد مغادرتهم للأندلس نهائيًا. في اعتقادي، لا يمكن الفصل بين نظرية الصورة وتجليَّتها التاريخية والسياسية. وإن كانت الصورة تُدرَس لذاتها من حيث الأبعاد الجمالية والفلسفية والإدراكية، إلا أن تبنِّي الصورة في المسيحية ورفضها في الإسلام كانت لهما خلفيات تاريخية ونتائج سياسية جسيمة لم نُبرزها بالقدر الكافي.
اشتغل محمد شوقي الزين كثيرا على التصوف وعلاقته بالفلسفة. ورقتك في ملتقي بيت الزبير بالسلطنة كانت حول ذلك. وأذكر أني قرات أو سمعت لك رأيا حول الموت الفلسفي أو عندما يقال موت الحداثة أو موت المؤلف أو موت الفلسفة. اريد أن أسألك هنا؛ عن فكرة المابعديات وعلاقة مفهوم الموت هنا بالتصوف. يبدو لي تسارع هذه الحركات ودعوات الموت هذه متصلة بميول او بجذور صوفية تعود إلى الإنسان الحالي المعاصر. كما لو أنه انتبه إلى تحالف خفي بين الدين التقليدي ومادية العصر، وباتت تجربة الانتقام من كل العقلانية التي ورثها الانسان (الغربي خصوصا) من عصر التنوير؛ تتجلى في منزع صوفي يبشر بهذه الموتات والمابعديّات. ما رأيك في ذلك؟
هناك نصيب من الحق فيما ذكرته. في الحقيقة، ينتمي التصوف إلى رُباعية التفلسف التي ذكرها القدماء: تعلم العيش، وتعلم الحوار، وتعلم الموت، وأخيرًا تعلم القراءة. تشتغل هذه الرباعية وفق ثنائية منسجمة: العيش-الموت، الحوار-القراءة. في الحالة الأولى، لا ينفصل العيش عن تعلم الموت، ولا ينفصل الحوار عن طريقة في قراءة الآخر من أجل فهمه والتواصل معه. يستلهم العيش من الموت بإماتة انفعالات النفس وكل ما يُنغص العيش الرغد. لا يتعلق الأمر بالزهد القاسي كما توحيه الكلمة، بل هو نوع من الزهد المعتدل الذي يُعلِّم استساغة الحياة والتجرُّد من كل ما يُعكر صفو النفس من بين الانفعالات الغالبة (الكبرياء، الحسد، الغضب، الجشع، الطمع، إلخ). ليست المسألة مجرَّد أخلاق أو مواعظ، بل هي بالفعل فن في العيش والسلوك القويم وفق الطبيعة الإنسانية، أي وفق الفضيلة. جاءت موجة الموتات والمابعديات في ظل صعود النزعات البنيوية وما بعد الحداثة.
الغرض منها تبيان أن الإنسان والتاريخ والحضارة هي كلها ظواهر تتكلم عبرها البنيات اللاشعورية، ومن ثمَّ تراجُع البداهة والشعور واليقين. لا يمكن حتى الحديث عن الحتمية، بل فقط الحديث عن لعبة العلاقات التي تتبدَّل وتجعل الحدود في علاقة تبعية لبعضها بعضًا. ومن ثمَّ أسئلة الموت والمابعد، ما هي سوى أنماط بلاغية في الحديث عن “الفعل المتعدِّي”: ما يتعدَّى الذات نحو شبكة العلاقات التي تُحدِّدها، لأن في الحقيقة لا نقرّر ما نشاء كيفما نشاء ما لم نر السياق الذي يتيح ذلك أو لا يتيحه. لا يمكن التفكير في الحرية ما لم تكن الحتمية هي بمنزلة المعكوس مثل وجه الورقة وقفاها. الحتمية هي موت الذات، والحرية هي ابتعاثها.
في السؤال عن العلاقة بين التصوف ونزعة المابعديّات؛ لعلّ جوابك يفسّر في الوقت نفسه ظاهرة الميول أكثر نحو الأديان الأرضية أو الفلسفات الروحية الطبيعية لو صح القول. لست متأكدا أنها ظاهرة، ولكن عودة المطلق فيما يبدو؛ ليس هو مطلق الأديان السماوية، بل المطلق الأرضي قبل التجسّد في الإله السماوي المتعالي. ما رأيك في هذا الطرح؟
يمكن الأخذ بهذا الرأي. ثم إن الميل نحو الروحانيات المنفصلة عن الأديان هو رد فعل على ما حصل في التاريخ للأديان السماوية (خصوصًا المسيحية والإسلام) بتشكُّلها في مؤسسات وأنساق مالت نحو التعصُّب أو التطرُّف. يمكن التفكير مثلًا في محاكم التفتيش والحروب الدينية في المسيحية، وفي الإرهاب الذي طبع اليوم بعض الجماعات الجهادية في الإسلام. هذا العنف المتراكم عند المذاهب أو المؤسسات التي كان على عاتقها إدارة الدين هو الذي شجَّع البحث عن روحانيات خالصة في الحكمة الشرقية مثل البوذية والطاوية. كذلك، العديد من الغربيين الذين يعلنون إسلامهم، فمن باب التصوف والانخراط في الطريقة الروحية. ينبغي البحث عن إخفاق المذاهب والمؤسسات التي كان على عاتقها إدارة الدين والذي يمكن تحديده، في نظري، في العقل الأداتي الخالي من الروح، وهذه الأداتية مالت نحو الفولاذية في سياسة السلوكيات والضمائر من وجه المراقبة والمعاقبة.
ربما أعطف على سؤالي السابق سؤالا آخر حول التصوّف أيضا. لأني أظن أن الدكتور محمد شوقي الزين إجمالا يرى في التصوّف مسارا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في الواقع العربي الذي يراه محطّما وممزّقا. يحضرني هنا ترجمتك الأخيرة لمقالة ميشيل دو سارتو “أجساد معذبة وأقوال محتجزة”، وأعطف عليها ما تثيره بعض أبحاثك حول جاك دريدا والتفكيك؛ كنوع من التشخيص والعلاج في آن لأزمتنا مع الأيديولوجيات السياسية والدينية. هل فعلا يرى الدكتور شوقي الزين في التصوف كمسار إنقاذ؛ تحطيم وإعادة بناء الذات العربية؟ وأي تصوّف بالتحديد تقصد هنا؟
كانت صورة التصوف التي تركَّبت عبر التاريخ سلبية للغاية، بجعله فرارًا من العالم وانغماسًا في الشطحات الذاتية والدروشة، وتم اختزاله إلى طرق روحية ذات أبعاد اجتماعية في التنسك والتبرك وإلحاقه في ذلك بالشرك. كل هذا عبارة عن تصوُّر «كاريكاتوري» للتصوف. أرى في التصوف طريقة في الحياة، طريقة صارمة في الاشتغال على الذات ببنائها وتكوينها مثلما نبني الحصون والقلاع. أستعير في ذلك عن الفيلسوف الرواقي والامبراطور الروماني ماركوس أورليوس صاحب عبارة «القلعة الباطنية». لأن بالفعل الذات في جهاد ضدَّ ذاتها من أجل تكوينها وتجويدها وجعلها في مقام رفع التحديَّات، وفي حرب ضدَّ انفعالاتها بضبطها وتهذيبها. يُوفِّر لنا التصوف أساسيات تجهيز الذات للاندماج بالعالم وإدارته. والعديد من الطوائف الدينية التي كانت لها الغلبة التاريخية والإدارة السياسية مثل الكاثوليكية في المسيحية، كانت ذات نزعة صوفية، فكوَّنت الإنسان الغربي تكوينًا صارمًا، وألهمته الطائفة الأخرى وهي البروتستانتية التي كانت كذلك ذات نزعة زهدية، حب العمل وقداسة العمل، فأسهمت في بلورة الروح الرأسمالية كما سلَّم بذلك عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر. في نظري، يُوفِّر التصوُّف هذه الفلسفة المتينة في تكوين الذات وحملها على الانخراط في العالم بناءً وتشكيلًا وإثراءً.
في ظل التبعثر الذي نحياه في العالم العربي، نحن بحاجة إلى هذا الالتزام والانسجام في الذات بإعادة تأهيلها وتوفير مقوّمات سلوكها للاضطلاع بقيادة العالم. لا نجد ذلك في الطوائف الأخرى التي يغلب عليها الصدام مع الآخر، أو اتِّهام الآخر. يقوم التصوف على المسؤولية الذاتية ومقومات بناء الذات أولًا. يُوفِّر التصوُّف الصور الروحانية وعلى عاتقنا تحويلها إلى مفاهيم بنائية. فهو المكمّل للفلسفة وليس النقيض. إذا كانت الأولى تأخذ بالعقل البرهاني وتعمل على التوصُّل بالعقل المحض، فإن التصوف يوفِّر طرق هذا التوصُّل عبر العقل الحدسي أو ما سمَّاه ابن عربي «العقل القابل»، له القدرة على تقمص الوجود في رمته وتقبُّل التجارب والصور مثل العُنصر الشفاف (دْيَافَان). نحن اليوم (ومنذ قرون) في قبضة العقل الآلي والجاف، الذي ميَّز في السابق الفقه الإسلامي والتسويغية المسيحية، ويُميِّز اليوم العقل الاقتصادي والتقني الذي أحدث تفاوتًا اجتماعيًا واستعمالا خطيرًا لوسائل القوة مثل الأسلحة. ملاذنا هو ما أسميه «العقل الليّن أو اللطيف» في مقابل «العقل الخشن أو الكثيف» الذي يسوس الحضارة اليوم.
شدّني دكتور في طرحك حول التصوف كمسار إنقاذ للواقع العربي؛ المقابلة بين العقل الأداتي والفقه الإسلامي. فهناك نزعة أداتية داخل الفقه الإسلامي، ولست متأكدا هل هذه النزعة هي الطاغية عليه، أم مظهر جزئي فيه. لو استعملنا مصطلحات العصر الحالي: ألا تجد هناك تجارب تواصلية (من العقل التواصلي عند هابرماس) في تاريخ الفقه الإسلامي؟ هناك فعلا فقهاء صوفية عديدون في التاريخ الإسلامي. ما رأيك؟
الفقه الإسلامي مثله مثل التسويغية في المسيحية (casuistry)، يقوم على العقل الأداتي لأنه يخص نظام الأفعال ويزن الحالات الخاصة في ضوء القاعدة العامة. هذا العقل الأداتي لا بدَّ منه، لأنه يسوس الأفعال والقواعد الموضوعة. لكن الخطر هو عندما يتحول العقل الأداتي إلى العقل المهيمن في وزن الأفعال والمقاصد ويترأس وجودنا في أكمله. نعرف إلى أي شيء آل العقل بعد عصر الأنوار، وكيف كانت مخاوف النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت تتعاظم بمقدار تحكُّم هذا العقل في مصير البشرية. لأن هذا العقل الذي بدأ في جو من «التفاؤل» وتقدم البشرية بخطوات حازمة نحو الاكتمال والتطور، انتهى بأجواء من «التشاؤم» من جرَّاء الحربين العالميتين في القرن العشرين وهما نتيجة تراكم في القوة وتحوُّل العقل إلى التقنية التي أتاحت إنتاج الأسلحة.
نرى بأن مسار العقل الأداتي منسجم وينتهي دائمًا بالصلابة والتحجر تمامًا مثلما أن العقل الفقهي والتسويغي انتهى بوجود مذاهب كانت تميل أكثر إلى الانغلاق والتعصُّب. كان هنالك بالفعل فقهاء صوفية، ويُعدُّ ابن عربي واحدًا منهم. لكن عندما نرى مقاربته للفقه، فهي تقوم أساسًا على البحث عن أساس غير أداتي للفقه بالبحث عن باطن الأحكام الشرعية كما نجد ذلك في الجزء الأول من «الفتوحات المكية» من طبعة دار صادر، حيث كل حكم شرعي (الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج) له اعتبار رمزي يتعدَّى المدلول الفقهي المحض.
قام ابن عربي بإلباس الفقه حُلَّة روحية وجمالية مفقودة في العقل الفقهي الخالص الذي هو عقل حسابي يرى الفعل ظاهرةً توزن بميزان الشرع؛ يُقوَّم ويُعاقَب إلى غاية أن يُناسب القاعدة الشرعية؛ شيء شبيه بـ«سرير بروكست» في الأسطورة الإغريقية حيث ينبغي أن يناسب الفعل القاعدة مثلما يُناسب الجسم السَّرير، كل عضو زائد يُقتطع وكل عضو ناقص يُمدَّد. حرص العقل الفقهي على انسجام الأفعال والقواعد هو الذي يُضفي عليه هذه الصرامة والتشدُّد.
أريد أن أفهم رؤية وفلسفة الدكتور محمد شوقي الزين للغة. أعرف أن السؤال هذا كبير وواسع، ولكن ما يعنيني هنا أكثر هو رؤيتك للغة الصوفية والمكثفات التي تحتمل التناقض أو البارادوكس داخلها. حيث يُلاحظ على الدكتور شوقي الزين أنه متماهي ومنخرط مع آخر ما توصّلت إليه فلسفة اللغة وأبحاثها، والترابط الوثيق بينها وبين البنية البيولوجية للإنسان. هذا الترابط الذي عبّرت عنه أبحاث الدماغ وعلم الأعصاب والعلوم الإدراكية بأكثر من شكل. هل اللغة عند شوقي الزين أكثر من مجرّد بنية فوقية؟ وكيف يؤثّر هذا النظر في تحليل ظواهر العنف التي هي أيضا ثيمة اشتغلت عليها كثير دكتور؟
اللغة هي بالضرورة ملتبسة. تتبع اللغة تعقيدات الواقع وتشابكاته. لا يمكن التعبير عن هذا الواقع بمبتدأ وخبر ومضاف إليه، أي لا يمكن التعبير عنه بلغة بسيطة تنتهي بمزاعم البداهة واليقين، وادعاءات القبض على حقيقة الواقع. كل لغة هي العجز عن الإحاطة بطبيعة الواقع وحقيقته. عندما يقول فتغنشتاين «حدود لغتي تعني حدود عالمي»، فهو يُشير إلى فكرة أنه لا يمكن أن نحيط بالعالم إحاطة تامَّة ومن خارج العالم. بل كل لغة هي تعبير محلي وناقص وملتبس لحقيقة العالم. تنعكس تناقضات الواقع على تناقضات اللغة ذاتها.
يكفي النظر مثلًا في العلاقات الدولية والجيواستراتيجية حيث تتغيَّر اللغة الدبلوماسية بتغيُّر منطق المصالح والتحالفات. على العموم، ومصداقًا لقول الفيلسوف هيرقليطس (السابق على سقراط) «لا نستحم في النهر مرتين»، الواقع هو موجات متتالية من الوقائع التي تكشف عن أحوالنا المتناقضة تجاهها ولغتنا الملتبسة في التعبير عنها وتدفعنا نحو هذه الوجهة أو تلك تبعًا للمعطيات المتوفرة. ومن ثمَّ، فإن هذه التناقضات والالتباسات هي عَرَض من أعراض الصراع الذي يُميِّز الواقع. أدرك القدماء أن الصراع يترأس العالم، دائمًا حسب هيرقليطس القائل «الصراع هو أب الأشياء جميعًا».
الصراع هو ظاهرة وجودية وبشرية، ولا يُختزَل سلبيًا وحصريًا في العنف. العنف هو إقليم من قارة الصراع الكوني الذي يشمل كذلك الإرادات المتنافرة والرغبات المتنافسة، والمنافسات الرياضية والاقتصادية والتجارية، والمعارك السياسية والأيديولوجية، والنزاعات الفكرية والمذهبية، إلخ. عندما يكون الصراع متحكما فيه يكون بنائيًا وحضاريًا، وعندما يفلت من الضبط يصير عنفًا وعدوانًا. الكل يتوقف على طريقة سياستنا للصراع، تمامًا كما ذهب الفيلسوف هيغل في طريقة إدارتنا لانفعالاتنا واستعمالها ضدَّها بتهذيبها وإرشادها نحو غايات تكوينية وإبداعية. أرى بأن اللغة تكون إبداعية عندما تُدرك طبيعة الصراع الذي يُميزها في بنيتها الداخلية أولًا، وفي علاقتها بالواقع ثانيًا وطريقة مقاربة هذا الواقع. تُقدم اللغة الصوفية جانبًا من هذا المشهد، ويكفي قراءة رسائل الحكيم الترمذي مثلًا، لندرك كيف يتكلم بطريقة مسرحية مدهشة حول صراع جيوش العقل وجيوش الهوى، ويرسم لوحة فنية حول صراع النفس ضد انفعالاتها. اللغة الصوفية غنيَّة بهذه المشاهد الصراعية الآيلة إلى تهذيب النفس وتكوينها وتمتين قُدُراتها الروحية والعقلية.
المُلاحظ على الدكتور محمد شوقي الزين أنه يتفلسف بعيدا عن المشاريع المركزية التقليدية لتجديد الفكر العربي. اشتباكك نادر مع أعمال الجابري وطه عبد الرحمن وحسن حنفي ونصر حامد أبو زيد وهشام جعيط وطيب تيزيني وغيرهم. حتى مع الفكر الإيراني المعاصر؛ حضورك متواضع! كأنك تبحث عما لم يفكر فيه بعد. فهل لديك تحفّظ ما على مشاريع هؤلاء؟ أم لأن لديك رؤيتك وفلسفتك الخاصة لتحديث الواقع العربي؟ هل من مزيد إضاءة على رؤيتك هذه لقرّائك؟
كان من المفروض أن تكون لي مداخلة عنوانها «الرؤية الجابرية للعالم: التراث في أفق العقل وحده» في ملتقى دولي بدعوة من الأكاديمية الملكية المغربية، لكن تواقت ذلك مع بداية جائحة كورونا، وتم تأجيل الملتقى. صحيح أنه ليست لي قراءات معمَّقة للمشاريع الفكرية العربية، ما عدا بعض الإشارات هنا وهناك، مثلًا بعض القراءات للمفكر التونسي هشام جعيط في ضوء نظرية المحاكاة والعنف والمقدس عند رونيه جيرار، أو المفكر اللبناني علي حرب الذي ترجمت كتابه «حديث النهايات» إلى الفرنسية، أو كذلك محمد أركون.
لم أر جدوى من تكرار الثيمات نفسها التي عالجها هؤلاء المفكرون وبالبراعة والعبقرية التي تتعدَّى ما يمكن أن أقدِّمه في هذا المجال، بل ارتأيت أن أعالج مسائل أخرى وبوسائل منهجية تختلف عن منهجياتهم. مثلًا، كان الغالب في قراءاتهم هو استعانتهم بالمنهج الماركسي لفهم الواقع الاجتماعي العربي، أو المنهج العقلاني-الابستمولوجي، أو المنهج النفسي والتحليلي. اخترت من جهتي المنهج التأويلي الذي يُقدّم مقاربات واسعة وغير حصرية، لأنه يستفيد من كل المعارف في تشكيل تصوُّر عام حول المشكلات الحضارية للسياق العربي الإسلامي.
كذلك، إذا كانت المشاريع العربية استلهمت من الطروحات المنهجية الغربية، خصوصًا ميشال فوكو (يُنظر كتاب الدكتور الزواوي بغورة «ميشيل فوكو في الفكر العربي المعاصر: محمد عابد الجابري، محمد أركون، فتحي التريكي، مطاع صفدي»، (2001)، اشتغلتُ على شخصيات غير معروفة مثل ميشال دو سارتو الذي أنجزتُ حوله الدكتوراه في الفلسفة بالجامعة الفرنسية. كانت الهموم الفكرية لدو سارتو تقترب كثيرًا من انشغالاتي الفكرية، أولها أنه كان متخصصًا في التصوف المسيحي واشتغل على الصوفية اليسوعيين من المتصوف الإسباني إغناسيو دي لويولا إلى جان جوزيف سورين المعاصر لديكارت، واشتغلتُ في الدكتوراه الأولى على المتصوف الأندلسي محي الدين بن عربي.
اكتشفتُ بعدها وبمقدار قراءتي لدو سارتو أنه كان من اليسوعيين القلائل في الدفاع عن الثقافات الهامشية، خصوصًا تلك التي خضعت للاستعمار الإسباني في أمريكا اللاتينية، وكان موقفه من استقلال الجزائر إيجابيًا. ثم كتب مقالًا لم أكن أعلم بوجوده عنوانه «اللقاء بالإسلام» بعثه لي صديق أرجنتيني متخصص في الأعمال التاريخية لميشال دو سارتو. وفي العديد من مؤلفاته، أشار إلى بعض أعلام التصوف الإسلامي مثل الحلاج وابن عطاء الله الاسكندري.
نادرًا ما يشير المفكرون الغربيون إلى الثقافات الأخرى، ومنها الثقافة العربية الإسلامية. هناك نوع من التمركز الغربي عمل دو سارتو على مجاوزته بالاطلاع على الإرث الروحي والثقافي للأقاليم الجغرافية الأخرى. ربما لأن دو سارتو لا يأتي من الفضاء الفلسفي الخالص، لأنه كان مؤرخًا للتصوف المسيحي وكانت ميوله أنثروبولوجية واجتماعية في قراءة المجتمعات الغربية المعاصرة والحياة اليومية. لكن حضور الفلسفة في أعماله بارز ويتجلى ذلك في نقاشه لأرسطو وكانط وهيغل وماركس وميرلوبونتي وفوكو.
ما تعلمته من ابن عربي (موضوع الدكتوراه الأولى في الدراسات العربية الإسلامية) وميشال دو سارتو (موضوع الدكتوراه الثانية في الفلسفة) ساعدني كثيرًا في بلورة رؤية خاصة حول مقاربة الواقع العربي. أولًا، البُعد الإسمي والظاهري (وبشكل أوسع الظواهري أو الفينومينولوجي) المقتبس عن ابن عربي جعلني أركز اهتمامي على المسمَّيات ذاتها، على الظواهر كما هي معطاة لحدسنا أو إدراكنا، ورأيتُ الولوج إليها من باب النظرية الثقافية وفلسفة الصورة؛ ثانيًا، أتاح لي البُعد التداولي المستلهم عن دو سارتو مجاوزة بعض الثنائيات العقيمة مثل «الغالب/المغلوب»، «الأصل/التقليد»، بتثمين «ذكاء الاستعمال» الذي يُوفر رؤية أخرى حول مجالنا الثقافي الذي لا يُختزَل في تابع أو مقلِّد بل في مبتكر لشرطه الحضاري باستعمالات ذكية ومغايرة للإرث العالمي.
بهذه الصيغة نقلب العلاقة من التراتب إلى التجاور، من التلقي إلى الإسهام والمشاركة، ولا أظن أن المستعمل للإرث العالمي يكتفي باستهلاكه، بل يُضيف شيئًا من قبيل فكرة أو نظرة أو أسلوب، ويُكيّفه مع سياقه الخاص. بذلك نُحقق فكرة أساسية وهي «العيش المشترك»، لأن هذا العيش يقوم على إدراك مباشر للآخر، حدس واقعي للغير، عندما يقوم العنف أو الكراهية على التمثُّل الممزوج بالتخيُّل والاستيهام ويصنع الآخر لا كما يظهر بذاته، بل كما يريد الصانع أن يراه، فيُسند إليه نوايا أو أغراض ليست بالضرورة صحيحة. ما أقدمه هو في الوقت نفسه فلسفة معرفية بوساطة النظرية الثقافية وفلسفة أخلاقية في العيش الشامل بالبحث عن المشترك الإنساني الجامع.
في نفس جو إجابتك على السؤال عن تفاعل الدكتور شوقي الزين مع المشاريع الفكرية العربية، أريد أن أسألك عن نظرية القبض والبسط عند سروش، وهي نظرية ذات جذور صوفية، لاهتمامات سروش العرفانية. لأني أعطفها على فكرة العيش المشترك التي تدعو إليها. هل اشتبكت مع نظرية القبض والبسط التي يُطرح عنها أن سروش تأثر فيها بالملا صدرا؟
نعم، استمدَّ سروش نظريته من ثنائية القبض والبسط في المعجم الصوفي. أراد أن يُعطي للشريعة وجهًا أقل صلابةً وتشدُّدًا، وأقلَّ يقينيةً وادِّعاءً، ليُبيِّن أن هذه الشريعة هي، في نهاية المطاف، مجموعة من الاجتهادات والنقاشات الكلامية والفقهية التي توقَّفت في زمنٍ ما من التاريخ الديني وصارت قواعد ثابتة غير قابلة للنقاش، على الأقل في الأصول. أما الفروع فهي تخضع دومًا للنقاش بمقدار التقدُّم في الزمن وحلول وقائع جديدةً. إذا كان تثبيت القواعد يُمثِّل جانب «القبض» لأن ينجرُّ عنه تطبيق الأحكام والحدود، فإن تأويل تلك القواعد وأقلمتها في سياقات جديدة يُمثِّل جانب «البسط».
القبض هو بمنزلة البنيان المشيَّد على أسس متينة (مثل أركان الإسلام الخمسة)، والبسط هو الممارسات التي تتمُّ داخل هذا البنيان، وهي ممارسات حرَّة، تقوم بأقلمة القواعد في السياق، تمامًا مثل الساكن في البيت، لا يُغيِّر البنيان ولا الجدران، لكن يُغيِّر طريقة الرؤية إلى البنيان بتغيير وضعية الأشياء التي تعمِّره، وتغيير الأشكال التي يظهر بها (الألوان، الزوائد الزخرفية، إلخ). إذا كانت الأساليب الجمالية هي التي تُعطي للمعمار وجهًا من الوجوه، فإن الأساليب التأويلية (مثل الهيرمينوطيقا والابستمولوجيا) هي التي تُعطي للبينان الديني وجهًا ليِّنًا وقابلًا للتطوُّر والتأقلم، أي منبسطًا وله القابلية للتمدُّد واحتواء اجتهادات جديدة ترتبط بالسياق التداولي للذوات المدركة له.
في السؤال عن “ديكارت للمنطقة العربية”؛ تجد بعض الباحثين يضعون الغزالي كفيلسوف الشك في الحضارة الإسلامية… إلى أي مدى يختلف الشك الديكارتي عن الشك الغزالي؟
الاختلاف بين الشك الديكارتي والشك الغزالي هو أن الأول قاد إلى المعرفة العلمية التي بُنيت على التجربة والمنهج، وقاد الثاني إلى المعرفة الصوفية التي بُنيت على الحدس أو النور الإلهي المقذوف في القلب. يمتعض البعض من أن الشك الغزالي أسهم في تراجع المعرفة العلمية في السياق العربي الإسلامي التي كانت قد حققت أشواطًا مهمة مع ابن الهيثم والخوارزمي وغيرهما. لكن لا يمكن الجزم بأن الغزالي هو السَّبب في تراجع المعرفة العلمية. ربما تضرَّرت صورة المعرفة الفلسفية بسبب هجومه على الفلاسفة في «التهافت»، لكن كانت المعرفة العلمية مستقلة بسبب اعتمادها على مبادئ مستقاة من شرطها العلمي مثل التجربة والبحث.
إذا قيل بأن نقض مبدأ السببية هو الذريعة في تراجع العلم، فإن الغزالي لا ينفرد باستبعاد السببية، أو ربما يكون قد قيَّدها وحصرها، هناك أيضًا الفيلسوف الإنجليزي ديفيد هيوم الذي أبطل مبدأ السببية، ولم يُسهم هذا الإبطال في تراجع العلم. بل إن تجريبية هيوم أسهمت في تطوُّر المعرفة العلمية في الغرب. ما كان هيوم يريد البرهنة عليه هو أن السببية لا تُعلَّل تجريبيًا، فلا نرى العلاقة بين العلة والمعلول سوى في شكل تتابع، بوجود حدث يتبعه حدث آخر.
نقضي بعد ذلك بأن التتابع يخضع إلى مبدأ وهذا المبدأ هو السببية. جرت العادة بأن الإنسان يلاحظ تتابع الأشياء فيقوم بالربط بينها على أساس التتابع أو التبعية. هذا مجرَّد اعتقاد ترسَّخ لدى الإنسان بالعادة. نرى بأن شكيَّة هيوم بمبدأ السببية لم تهدِّم نظريته التجريبية التي كان لها دور حاسم في تطوُّر العلم. ومن ثمَّ، لا يمكن أن نُحمِّل الغزالي تراجع المعرفة العلمية في التاريخ العربي الإسلامي. ينبغي البحث عن عوامل أخرى حدَّدها مثلًا محمد عابد الجابري في أولوية «السياسة» في التاريخ العربي الإسلامي على «العلم» كما شرح ذلك في كتابه العمدة “نحن والتراث”.
لماذا اخترت ابن باجه ليكون الفيلسوف الأقرب إليك؟ ابن باجه المعروف عنه مناوئته للغزالي وللتصوّف والعرفان عموما، واهتمامه أكثر بالعقلانية الأرسطية وبالعلوم الطبيعية، وهو الذي أدخل ابن سينا إلى المغرب، بينما أجدك اخترت سلك الصوفية في إجابتك على أحد الأسئلة، بل أجد فلسفة الدكتور شوقي الزين أكثر اتجاها للبحث في تقاطعات الفلسفة مع التصوّف والعرفان والرمز والغموض؟
أظن أن هناك سوءً في الفهم فيما يخص ابن باجة وعلاقته بالتصوف. كنت في ملتقى مالقة (إسبانيا) قد قدمتُ مداخلة حول مفهوم «الصورة الروحانية» التي تتكرر في رسائل ابن باجة ورأيتُ في ذلك دينًا للتصوف وليس محاربته له. لكن لم يكن هذا التأويل موضوع استساغة من لدن بعض الدارسين لابن باجة الذي رأوا فيه تجنيًّا عليه وتشويهًا لفكره، رافضين كذلك عبارة «التصوف الفلسفي» الذي أشاعه المستشرقون.
لكن أرى بأن هناك خلطًا رهيبًا وسوء فهم بشأن التصوف الذي اختُزل إلى طرق صوفية وشطحات ودروشة. ثم مسوِّغ رفض عبارة «التصوف الفلسفي» لا يستقيم، لأن لو قدمنا خريطة حول تطور التصوف في الإسلام لرأيناه بأنه ثلاثي الأبعاد:
- «التصوف الزهدي» الذي بدأ في بغداد مع جيل معروف الكرخي والجنيد والذي كان أخلاقيًا وزهديًا اعتنت المدوَّنات الكبرى بإبرازه مع الكلاباذي والسراج الطوسي والقشيري وغيرهم؛
- «التصوف العشقي» الذي كانت له بذور أولية مع رابعة العدوية ليتأكد مع ابن الفارض ثم مولوية جلال الدين الرومي؛
- «التصوف الفلسفي» الذي تشكل من جرَّاء وفود الإرث الفلسفي الإغريقي إلى العالم الإسلامي عبر الترجمة وتجلى خصوصًا عند ابن عربي وأتباعه وبشكل جذري مع رواد الوحدة المطلقة مثل ابن سبعين نثرًا وعفيف الدين التلمساني نظمًا.
لا يمكن ألا نرى في هذه التطورات تفاعلات بين التصوف والثيمات الغالبة في عصره، تارةً الزهد الخالص مع الأوائل، ثم الشعر والإيحاء والخمريات والعشقيات، وأخيرًا الفلسفة عبر الوحدة الأنطولوجية ذات فروقات حاسمة بين الحدود الثلاثة المشكلة لهذه الأنطولوجيا: الله، والعالم، والإنسان. صحيح أن ابن باجة كان يسير على منوال المشائية (الأرسطية) وأتباعها أمثال الفارابي وابن سينا وكان مقام العقل عنده مهمًّا كما توحي به «رسالة اتصال العقل بالإنسان» ورسائل أخرى. لكن من الخطأ أن نُعطي للعقل هنا مدلولًا مستوحى من العقلانية الغربية لأنَّا سنرتكب مغالطة تاريخية بإسقاط مدلول حديث ومعاصر على نص قديم.
لا أظن أن العقل كما فهمه القدماء كان غريبًا عن نوع من التصوف الذي كان يمزج الإنسان بالكون والأنثروبولوجيا بالكوسمولوجيا. وما تراتبية العقول إلى غاية العقل الفعال سوى ترجمة ميتافيزيقية لما هي عليه حركة الألوهية في العالم عبر التعشُّق وارتباط الأجزاء بالكل (العقل الكلي، النفس الكلية). مثلًا يقول ابن السِّيد البطليوسي المعاصر لابن باجة في كتابه «الحدائق في المطالب العالية الفلسفية العويصة»: «فكانت صورة الإنسان أكمل الصور الطبيعية. ولا مرتبة بعدها إلا أن يتجوهر الإنسان بالمعارف، فيلحق بمرتبة المعقولات المجرَّدة عن الهيولى». لا يمكن ألا نرى في كل هذا شكلًا صوفيًا، لكن ليس بالمعنى الساذج كما نفهمه اليوم، وإنما بالمعنى الخالص في ارتباط الإنسان بأصله وتجرُّده عن شرطه الطبيعي.
المشكلة مع قراء ابن باجة والفلاسفة المسلمين عمومًا أنهم لا يريدون الخروج عن صريح النص وحرفية ما قاله صاحبه. ومن ثم، فهم يرفضون التأويلات التي لا تنسجم مع صريح النص. لكن إذا اقتصر البحث على تكرار ما قاله صاحب النص، فإنَّا لا نتقدَّم أساسًا في البحث. وعليه، تفقد القراءات المعاصرة الخاصة بالتراث العربي الإسلامي إلى الجرأة الأكاديمية في التفكير مع النص ومجاوزته بإعادة تحيينه وإلباسه حلة نظرية جديدة. هذا ممكن في التراث المسيحي حيث نجد أن جان لوك ماريون أحدث ثورة فينومينولوجية في إعادة تأويل القديس أغسطين وتوما الأكويني وديكارت، لكن نحن عاجزون عن الجرأة نفسها، بل مرعوبون من الخروج عن صريح النص. لذا، غالبًا ما تتحوَّل بحوثنا إلى نوع من الشرطة الأكاديمية في معرفة ما إذا كانت الأعمال الفكرية تطابق ما قاله النص وتسعى إلى إقصائها إذا كانت تخالفه أو تؤوِّله وفق مبادئ أخرى.
أريد أن أسأل أكثر دكتور لو سمحت لي عن رؤيتك عندما قلت سأرسل هيغل إلى الفيلسوف الكندي؛ على اعتبار أن كليهما اشتغل على مسألة الأنطولوجيا، وأنت هنا ربما تشير إلى رسالة الكندي في الفلسفة الأولى. سؤالي هنا تحديدا عن الكندي، الذي أهمله اللاحقون. أهمله الفارابي وأهمله ابن سينا، وربما لولا رسائله التي اكتشفت في بدايات القرن الماضي لظل لا يُعرف عنه سوى لقبه فيلسوف العرب. كيف تقرأ أهمية الفيلسوف الكندي؟
ما يثير الانتباه عند الفيلسوف الكندي هو اللغة التي كتب بها وهي من القوة والإيحاء ما يُفنِّد فكرة أن الفلسفة العربية الإسلامية هي الفلسفة الإغريقية مكتوبة باللسان العربي. يقول في «كتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى»: «إن أعلى الصناعات الإنسانية منزلةً وأشرفها مرتبةً صناعة الفلسفة، التي حدُّها علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان؛ لأن غرض الفيلسوف في علمه إصابة الحق وفي عمله العمل بالحق». أجمل شيء في هذا التعريف هو أن الفلسفة عند الكندي عبارة عن «صناعة» أو «فن» وهذا يتعارض مع التصوُّر الشائع حول الفلسفة بوصفها «علمًا»، وبوجه أدق «علمًا ميتافيزيقيًا» الغرض منه معرفة الوجود بما هو وجود.
تصبح الفلسفة عند الكندي طريقة في تركيب نظام العالم أو تصوُّرنا للعالم، ويكون ذلك بصناعات أخرى مساعدة مثل المنطق الذي هو صناعة الحجَّة والبرهان، والخطابة التي هي صناعة العبارة. أعطى الكندي للفلسفة تصوُّرًا عاد إليه الفكر المعاصر مع جيل دولوز مثلًا الذي يختصر الفلسفة في «إبداع المفاهيم»، جامعًا بين الفن والعلم أو بين البُعد الجمالي والبُعد المعرفي. ثم يضيف الكندي مسألتين مهمَّتين «إصابة الحق» و«العمل بالحق»، وهذا ما يُعطي للفلسفة اكتمالها النسقي كونها تجمع بين النظري والعملي، الحقيقة من جهة (المعرفة والمنطق)، والخبرة العملية من جهة أخرى (السياسة والأخلاق).
عبد السلام بنعبد العالي.. الفلسفة بدون أبراج
إلى أي مدى تتفق مع العنوان الذي اخترناه لاختزال فلسفة الدكتور عبد السلام بنعبد العالي؛ “الفلسفة بدون أبراج”؟
إذا أخذنا استعارة البرج في معنى الابتعاد عن مجريات اليومي، فإن عنوانك الذي ينظر إلى الفلسفة كاهتمام بدلالات “الحياة اليومية”، يبدو وفيا بالغرض. شريطة أن نفهم هذا الاهتمام، لا على أنه انغماس في اليومي وغرق فيه، مادام الفكر يقتضي دوما ابتعادا ومسافة. إذ لا ينبغي أن ننسى أن اللفظ الذي يحيل إلى التفكير، في اللغة الفرنسية على سبيل المثال، وهو réflexion، يشير إلى تراجع الشعاع الضوئي عندما يغير وسطه ويصطدم بآخر، كأن يخرج من الهواء ليقع على سطح ماء، أو قطعة زجاج فيرتد على أعقابه. هذا التراجع، هو الذي يهمّ في عمل الفكر الذي لا ينقاد ولا يغرق في موضوعه، وإنما يتخذ مسافة إزاءه.
أخذ المسافة وعدم الانصياع يحوّل المألوف إلى غرابة، ويقحم شيئا من الفراغ فيما يبدو ممتلئا. هذا هو معنى إنتاج السؤال. فالسؤال يفصح عن فراغ وعوز. إنه إعادة إنتاج لما يقال، وتحويل له ووضعه في أزمة. السؤال لا وجود له “طريح الساحة”. إنه ليس، ولا يمكن أن يكون من باب ما سبق أن قيل. وهو دوما لم يُسبق إليه. لكن الأهمّ من ذلك أنه ليس مقصورا على طرف بعينه من أطراف الحوار. في حوار فلسفي لا يكون هناك جانب مختص في طرح الأسئلة وجانب موكول إليه الرد عليها… إن أطراف الحوار جميعها معنية بالسؤال. وليس هناك طرف متسائل وأطراف مجيبة، ضفة أسئلة وضفة أجوبة.
بل لعل الحوار الفلسفي نفسه ليس ردا على سؤال بمقدار ما هو استمرار في السؤال. الحوار الفلسفي هو توليد أسئلة وتوالدها. لا ينبغي أن ننسى أن سقراط ابن مولدة. الحوار تأزيم لا ينقطع. والتقدم في الحوار الفلسفي ليس هو السباحة في بحر اليقينيات وغزو الحقائق، ومراكمة معارف، وإنما هو أساسا استبعاد أخطاء، ورفع التباس، وخلق مفارقات، وفتح آفاق. ليس في الحوار الفلسفي كلمة أخيرة وقول فصل، إنه درب لا يؤدي إلى غاية، مثل دروب غابة هايدغر التي لا تؤدي إلا إلى الغابة. كما أن هدف الحوار الفلسفي ليس توحيد الرأي وتحقيق الإجماع، وإنما توليد الاختلاف، لا بين المحاور ومن معه، بل بين المحاور وبين نفسه.
الفلسفة مقابلة بجملة توقّعات من الواقع. بمعنى أن المجتمع والجمهور دائما ينتظرون شيئا من الفيلسوف. هذه التوقّعات يُفترض أن تصنع التزامات (ولو أدبية) لدى الفيلسوف. هل وظيفته تستدعي التحرر من هذه الالتزام لكيلا يقع في الأيديولوجية؟
لدى الفيلسوف التزام، إزاء الآخرين، ولكن أساسا إزاء نفسه. إنه ما يفتأ يتهم اعتقاداته، ما يفتأ يولد الأسئلة. إنه يعيش بصحبة الشك. شعاره هو قول الغزالي: “ولو لم يكن في مجاري هذه الكلمات إلا ما يشكك في اعتقادك الموروث، لتنتدب للطلب، فناهيك به نفعا، إذ الشكوك هي الموصلة إلى الحق. فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر، بقي في العمى والضلال”.
ليس الشك بالضرورة انهزاما معرفيا، ولا هو عطالة عن الفعل، ولا تحررا من كل التزام. ليس الشك اعترافا بجهل لا سبيل إلى مقاومته. ذلك أن الشك ليس جهلا. فأن تشك هو نوع من الحصول على معرفة، أو هو، على الأقل، بداية كل معرفة. لذا، فعوض التصنيفات التقليدية بين من «يمتلكون» الحقيقة ومن لا يمتلكونها، يبدو أن الفصل الذي أصبح يفرض نفسه اليوم ليس هو التقابل بين الشك والاعتقاد، أو التقابل بين الفلسفة والأيديولوجيا، وإنما التمييز بين تفكير يميل نحو تبسيط الأمور وردّها إلى عامل وحيد بعينه والنظر إليها من جانب واحد، وبين مسلك يجرؤ على التفكير المركّب Penser dans la complexité.
لنقل إذاً إننا اليوم أمام مسلكين: من جهة هناك المتطرفون يسارا أو يمينا، ومن جهة أخرى من لا ينفكون يسعون إلى الابتعاد عن كل أشكال التطرف، شريطة ألا نحدّد التطرّف هنا على أنه اعتناق لحقائق بعينها، وإنما من حيث هو طريقة في التفكير تنجرّ إلى أحادية النظر، وتهاب التفكير المعقّد. أنا لا أحدّد التطرّف هنا بمضمون الاعتقاد ومحتواه، بقدر ما أحدّده بشكله وأسلوبه. يتبين إذاً أن الثنائية التي تتبقى لنا هي تلك التي تجعل أطراف المجتمع ينقسمون لا إلى من يضعون أنفسهم جهة الحقيقة ويموقعون الآخرين جهة الخطأ، بل إلى من يتشككون دوما في اقترابهم من الحقيقة، وأولئك الذين يلازمهم الشعور الدائم أنهم “في الحقيقة منغمسون فيها Dans le vrai”.
هل تجد مفيدا أن يشتغل المفكر والفيلسوف باليومي في السياق العربي؟ اليومي هنا سيكون الكتابة عن السينما والرياضة والأيقونات في الكمبيوتر والملابس والطعام والعادات اليومية عموما. إلى أي مدى تظن أن ذلك يعمّق أو يجدد رؤى وفلسفات كل مفكّر أو فيلسوف؟ على اعتبار أننا لم ننته بعد من حسم المسائل الكبرى، فهل هذا الاهتمام بالمسائل الصغرى والهامشية ستحدث فرقا في الوعي الجمعي بالأشياء والعالم؟
يثيرني في هذا السؤال تمييزه بين “المسائل الكبرى”، وما يدعوه “المسائل الصغرى والهامشية”. فهو ينطلق من مفهوم أنعته بالميتافيزيقي عن الهامش. بمقتضاه يغدو الهامش مقابلا لمركز أساس. أعتقد أن الهامش ليس موقعا جغرافيا أو هندسيا. الهامش والمركز لا يتحددان تحديدا مكانيا. فالهامش ليس هو ما يوجد “تحت”، ولا هو ما يمكث في “الاطراف”. ليست علاقة الهامش بالمركز علاقة داخل بخارج. الهامش لا يوجد في منأى عن المركز مستقلا عنه، بل هو دائما مشدود إليه إلى حدّ أننا يمكن أن نقول إنه المركز ذاته في تصدّعه وابتعاده عن نفسه. الهامش هو ما يشكل فضيحة المركز، وما يكشف عن خلل ما يدّعيه من مركزية. الهامش هو الحركة التي تشهد أن كل داخل ينطوي على خارجه، وأن المنظومة تنطوي على ما يفضحها. إنه القوى المتنافرة والتوترات التي تصدّع المركز وتزحزحه عن ثباته.
الاهتمام بـ”ومضات الحياة اليومية” والحالة هذه، هو تصيد مظاهر تخفي الواقع وتقنّعه. فعندما تنصبّ الفلسفة على اليوميّ، وعندما تهتم بالصحافة واللباس والرياضة والمأكل والمشرب والإشاعة والإشهار والكليب و..، عندما تتحول إلى “سيميولوجيا للحياة اليومية”، فذلك سعيا وراء الفصل بين “الطبيعة والتاريخ” كما كتب بارث، والبحث عن الجديد في المستجدات، وعن الغريب في الألفة، وعن التاريخيّ في الأسطورة، انفصالا عن الدوكسا وبادئ الرأي.
أريد أن أسألك هنا عن رؤيتك وتقييمك للتداخل بين الفلسفة والفن عربيا. ألا تظن أنه يغيب عربيا ما يمكن تسميته الفيلسوف الفنّان؟ أنا أعرف أنك كتبت كثيرا في مسائل تتصل بالفنّ، ولكن مرّة أخرى؛ بمنطق المتفلسف لا بريشة الفنان. وربما لست أنت وحدك، فأغلب المشاريع التنويرية العربية لم تلاحظ ما يمكن أن يفعله الفن والأدب في الدخول في مشروع التنوير. هل تعتقد أن لدينا مشكلة فعلا في علاقتنا مع الفن بحيث لا تكاد تجد ما يمكن تسميته مدرسة فنية واحدة على الأقل طوال قرنين من النهضة العربية؟
أمر أساس تنبغي الإشارة إليه فيما يتعلق بدور الفنون في الحركة التنويرية العربية. وهو أن من الفنانين من استبق الفكر النظري في خلخلة بعض المعتقدات الراسخة، وهذا ما نلاحظه، في بعض الميادين كالتشكيل والمسرح، بهذا المعنى فإن الوعي النظري بالتجديد لا يأتي هنا إلا متأخرا.
فيما يتعلق بالأدب والفلسفة، لعل من المناسب أن نتذكر هنا ملاحظة كان الأستاذ عبد الله العروي أبداها فيما يخص الأدب المصري الحديث وقد عبر عنها في المقدمة الجديدة التي كان قد وضعها للترجمة التي قام بها هو نفسه لكتابه “الإيديولوجيا العربية المعاصرة” يقول فيها: “إن ثلثي، بل قل ثلاثة أرباع، النقد الأدلوجي يظهر عندنا في شكل نقد أدبي، أي يتخذ الرواية والقصة والمسرحية كوسيلة لترويج الأفكار السياسية والاجتماعية… لا ننسى أن كلا من محمد عبده وسلامة موسى وطه حسين روجوا لأفكارهم التجديدية بواسطة دراستهم الأدب العربي، قديمه وحديثه”.
هل سيكون عيبا ألا يعود الباحث الأصيل إلى النصوص الأم للمصادر المترجمة التي يستعملها في أبحاثه؟ يعني نجد ذلك كثيرا عند الكتّاب والباحثين الذي يحتكون بالمصادر الغربية في ترجماتها العربية، ولا يعودون للأصل. هل هذه العودة ضرورية؟ ألم يُساء فهم هايدغر بسبب الترجمة؟ والمعروف عن عبد السلام بنعبد العالي أنه يرفض وصف الترجمة بالخيانة، فكل ترجمة لديك هي إضافة وإثراء للنص. ولكن عندما أريد أن أقرأ كتابا لدولوز مثلا؛ لا أريد أن أقرأ فكر المترجم. أريد أن أقرأ فعلا لدولوز. ماذا يقول د. عبد السلام عن ذلك؟
إضافة إلى هذه البينية التي أشرت إليها في الجواب السابق هناك بينية أخرى، وهي أن الفلسفة لا يمكن أن تدرس اليوم إلا بأكثر من لغة. وهذا أمر لا يخصنا نحن قراء العربية. كل نص فلسفي يكتب ويقرأ بأكثر من لغة. خذ مثلا نصا لدريدا، تجده يقتبس في الصفحة ذاتها نصا لنيتشه وآخر لأوستين، فلا يكتفي بالاعتماد على ما يتوفر من ترجمات، وإنما يعود لينقحها مشيرا إلى ذلك في الهامش بقوله: “التنقيح من عندنا”. فكأن قراءة النص الفلسفي هي دوما إعادة لترجمته. فلا عجب أن يقترن كل ما سمي قراءات جديدة بإعادات ترجمة. نلمس ذلك فيما يخص علاقة الفكر الفرنسي بالأمهات الألمانية. عظام الفلاسفة اليوم هم مترجمون كبار. هذا ما كان هايدغر أشار إليه في أول ترجمة فرنسية لكتبه عندما تنبأ بأن فكره سينفتح على نور جديد، مشيرا إلى دور الترجمة، ليس في نقل الفكر وحده، وإنما في تخصيبه.
الملاحظ عند أغلب الفلاسفة والمفكرين العرب اليوم، هو أنك تجد غالبا شقين في فلسفتهم؛ شق يتجادل مع الفلسفة الغربية، وشق يتجادل مع الفكر العربي والاسلامي. كما لو أن الأصل في التفلسف اليوم هو الفلسفة الحديثة والتي كلها تقريبا غربية، ولكن حتى لا يتهم الفيلسوف بالتحيّز مثلا، أو بالانسلاخ من حضارته؛ فإنه يطل على قضايا الفكر العربي، فإذا كان القدماء كان جلّ همهم التوفيق بين الحكمة والشريعة، فإن المحدثين جلّ همّهم التوفيق بين الفلسفة العربية والفلسفة الأوروبية. ألا تظنّ أنه لو صح ذلك؛ فإنه يمثّل عائقا أمام الابداع الفلسفي؟ أم أنه على العكس؛ يثري ويخصّب ما ورثناه من الفلسفة العربية؟ كيف يقرأ د. بنعبد العالي هذه المفارقة؟
سأكتفي ردا على سؤالك هذا بما سبق أن كتبته عن عبد الفتاح كيليطو، ولكن في مجال الأدب هذه المرة، “ليست المسألة إذاً، بالنسبة لكيليطو هي أن يكتب عن الأوروبيّين أو عن الأدب العربي، وإنّما “أن يواجه، كما يقول، رهاناً صعبا: ألاّ يكتُبَ كالأوروبيّين، وأن يَختلف، في الآن نفسه، عن المؤلّفين العرب”. المسألة إذاً هي أن يكتب عن أولئك وأن يكتب عن هؤلاء، لكن شريطة ألاّ يكتب لا كأولئك ولا كهؤلاء”.
بما أنك ذكرت كليطو فلعلّك تشير إلى كتابه “لن تتكلم لغتي”، أو ربما كتابه الآخر “أتكلم كل اللغات بالعربية”. يحضرني هنا مثاله عن المنفلوطي. الاتصال بين الثقافات هنا هو الذي يشتغل شئنا أم أبينا. جوليا كريستيفيا تقول: “كان يتكلم الروسية بخمس عشرة لغة”. كما لو أن هذه الثنائية بين داخل/خارج هي ثنائية زائفة، ولكنها تشتغل في الواقع. كيف نعالجها على مستوى المجتمع والمتلقّي؟ كيف يقول عبد السلام بنعبد العالي لطلابه أن الفلسفة واحدة وليست اثنتين أو ثلاثة؟
أنا لا أتبنى عبارة هيجل في هذا المجال، ولا أقول لطلابي إن الفلسفة واحدة. ربما ولى الزمن الذي كانت فيها المساعي نحو بناء تاريخ كوني موحِّد وموحَّد للفلسفة. كتُب تاريخ الفلسفة المعاصرة تعرض كل فيلسوف على حدة لتبرزه في فرادته، بل إنها قد تقف عند مفهوم بعينه من المفهومات. فهي تميز بين تاريخ الفلسفة وفلسفة التاريخ، ولا تحشر الفكر في حركة متواصلة يشكل كل فيلسوف حلقة من حلقاتها، وإنما تعرض الفكر في اختلافاته وانفصاله وتعدده.
سؤالي التالي لك د. عبد السلام؛ عن تعليم الفلسفة. ربما أنت من المفكرين الذين يرون أن التدريس الفعلي للفلسفة لا يكون بجعلها مادة مستقلة، بل بتشريبها في المواد والفعاليات الأخرى في النظام التعليمي. ومن خلال متابعاتي البسيطة لتجربة دولة مثل المغرب في تدريس الفلسفة؛ لا تبدو أن التجربة ناجحة تماما. كيف ترى لدولة مثل سلطنة عمان لا يتم تدريس الفلسفة فيها؛ كيف يمكننا أن نقدمها أو نضمنها داخل النظام التعليمي سواء في الأساسي أو الجامعي؟
ما كنت أقصده من ذلك أن انفتاحنا على الحداثة الفكرية لا ينبغي أن يتم في مجال، دون آخر. لا يمكنني، على سبيل المثال، أن أدعو إلى تبني الثورة المنهجية التي عرفتها الدراسات التاريخية منذ مدرسة الحوليات، وما تمخض عنها في تاريخ الأفكار، وأعتمد في دراساتي الأدبية على مناهج أكل عليها الدهر. هذا فضلا على أن قضايا تبدو فلسفية محض دفعت إلى إعادة النظر في مفهومات في تاريخ الأدب كمفهوم النص والقارئ والمؤلف والعتبة والاقتباس، بل ومفهوم تاريخ الأدب ذاته. فلا ينبغي للتحديث أن يمس ميدانا دون آخر، ونحن ملزمون، لا أقول، بجعل الفلسفة مادة ذائبة في الدراسات الأخرى، وإنما بفتح تلك الدراسات على الحداثة الفلسفية.
الخاتمة: إعلان عماني افتراضي للفلسفة
السؤال:
لنفترض جدلا أن عدد من المؤسسات العمانية ذات الصلة تريد أن تصدر إعلانا أو بيانا عاما عن الفلسفة والتفلسف، وطلب منك أن تشترك في إعداد هذا الإعلان؛ ما هي أهم البنود والعناصر التي ستدعو لأن تكون جزءا من هذا الإعلان؟ مع أن تضع في الاعتبار أن هذا الإعلان هو خاص بالعمانيين وقد يهمّ أو لا يهمّ غيرهم.
الإجابات:
د. عبد السلام بن عبد العالي
أستسمح بأن أذكر هنا بما سبق أن كتبته في هذا الشأن: “لا ينبغي أن نكتفي بأن نردد تلك العبارة المستهلكة التي تنيط بالفلسفة كل مهمة نقدية. إذ إن تعقّد الحياة الثقافية المعاصرة، ودخول الإعلام على الحلبة، جعلا ما كنا ندعوه نقدا فلسفيا يعرف تحولا شديدا. ربما ولّى الزمن الذي كان التقابل فيه يتم بين الفلسفة والأيديولوجيا، فكان النقد الفلسفي يؤول إلى فضح أوهام، وتعرية أشكال الاستلاب التي تتولد عن التناقضات الاجتماعية والنضال الطبقي. أكاد أردّ بأن واقع اليوم لم يعد يحتاج إلى تعرية، وهو من الصلافة بحيث يتبدى لك عاريا متحديا كاشفا عن وجهه. كان كونديرا قد أشار إلى حاجة الإنسان المعاصر “إلى أن يرى نفسه في مرآة الكذب المجمِّلة، وأن يتعرف على نفسه في هذه المرآة برضا مؤثّر”. من هنا وجدت وسائل الإعلام طريقها إلى النفاذ، فغدت أدوات لتكريس الأفكار الجاهزة وتحصين اللافكر وبثه وإشاعته.
ينبغي أن نولي عنايتنا إلى أمر أساس وهو أن التخشب والتبلد لا يلحقاننا فحسب من ترسخ مقولاتنا في الماضي العتيق، ولا من ترديد بليد لمقولات “نستوردها”، وإنما أيضا مما نتشربه يوميا من أشكال اللافكر التي نتغذى عليها. حينئذ تغدو مهمة الفلسفة بالضبط هي تعقب هذا اللافكر الذي يعيش بجنبنا ويتغلغل في يوميّنا، فيجعلنا نحيا طبق ما تجري به الأمور وعلى شاكلتها، “يجعلنا أكثر محافظة من كل المحافظين”.
د. محمد شوقي الزين
أهم البنود التي أراها مهمَّة هي التوكيد على البُعد الثقافي والحضاري للفلسفة. أشتغل منذ مدَّة على مشروع تحت اسم «نقد العقل الثقافي»، حيث صدر في جزئين، ومن المفروض أن يضمَّ أربعة أجزاء، وأردتُ أن يشمل قدر الإمكان كليَّة الإنسان والوجود الإنساني في العالم بالتركيز على أربعة مسائل مهمَّة في النظرية الثقافية وهي: نظرية التكوين، ورؤية العالم، ونظرية الفعل، ونظرية التواصل، والاعتراف. إذا كانت هنالك عناصر يتطلب الأمر العناية بها فلسفيًا، فهي «التكوين» (ويشمل التربية والحضارة)، و«رؤية العالم» (وتشمل التصور والذات وموقعها في العالم)، و«الفعل» (ويشمل السلوك والاستعمال والصناعة)، وأخيرًا «التواصل والاعتراف» (ويشمل المثاقفة والعيش المشترك).
لماذا النظرية الثقافية هي مهمَّة في نظري؟ كانت الفلسفة تقوم مثلث يشمل نظرية المعرفة، ونظرية الوجود، وأخيرًا نظرية الأخلاق والسياسة. عندما نقرأ أي فيلسوف، نجد أن له تصورًا حول الطرق الموصلة إلى المعرفة بتبيان وسائلها وغاياتها، وحول الوجود وموقع الإنسان فيه وطريقة إدراكه له معرفيًا، وأخيرًا علاقة الإنسان بذاته أخلاقيًا، وبغيره اجتماعيًا وسياسيًا، فيقدم الفيلسوف رؤية حول طبيعة الاجتماع البشري في شكل يوتوبيا أو مدينة فاضلة. لكن منذ مدة أملتها السياقات المعاصرة حول الصراع الحضاري، أصبح الاهتمام بالنظرية الثقافية عند الفلاسفة يتزايد، ويمكن القول بأن الفلسفة أصبحت تقوم على مربع يشمل نظرية الثقافة إلى جانب المعرفة والوجود والأخلاق. أولًا، للتوكيد على دور الفلسفة في التفكير في المشكلات الإنسانية عمومًا والثقافة هي إحدى هذه المشكلات المطروحة عبر سؤال الهوية الثقافية والمثاقفة والتواصل والاعتراف والصراع الحضاري، وثانيًا، تبيان انخراط الفلسفة في التفكير نظريًا وعمليًا في الثقافة التي كانت قبل عقود من اختصاص الاجتماعيات والأنثروبولوجيا والأدب.
يعود الفضل إلى الألمان في فتح باب «فلسفة الثقافة» على مصراعيه للتفكير في المشكلات المعاصرة، لأن فلسفة الثقافة كانت موجودة لديهم منذ القرن الثامن عشر على الأقل (جيل غوته وشيلر وهردر والتيار الرومانسي أو الرومانتيقي إلى جانب هيغل ونيتشه ودلتاي وإلى غاية كاسيرر وزيمل)، عندما كانت الثقافة في المجال الفرنسي أو الأنجلوسكسوني «أنثروبولوجية» بامتياز. حتى أن بعض المعاهد أو الكليات في ألمانيا، خصوصًا في القرن التاسع عشر، كانت تحمل اسم «معهد الفلسفة وعلوم الثقافة» أو «كلية العلوم الثقافية والفنون والآداب». كُنا في العالم العربي الإسلامي نأخذ بالتصور الأنجلوسكسوني أو الفرنسي بحكم التركة الاستعمارية لشمال أفريقيا والشرق الأوسط. لكن يمكن للتصور الألماني أن يُفيد كثيرًا في ربط الفلسفة بالبُعد الثقافي الثري والمتنوع للعالم العربي الإسلامي.
د. محمد المصباحي
- من أجل تدعيم الحصانة الحضارية لعمان.
- من أجل ربط الفكر العماني بالفكر الكوني.
- من أجل تحويل الوجود العماني العياني إلى مفاهيم ونظريات وأسئلة خاصة.
- من أجل استثمار كنوز اللغة العربية العمانية وتقديمها للعالم عربونا على القدرة على التحليل والتركيب وخلق رؤية خاصة للعالم.
- من أجل مواجهة التحديات من قبل الثقافات المجاورة والغربية.
د. الزواوي بغورة
اقترح البنود الآتية:
- تعميق النظرة العقلانية والتحليلية للقضايا الفكرية المحلية والإنسانية؛
- محاولة الارتقاء بالبحث والفكر الفلسفي في ضوء معطيات الحضارة العربية الإسلامية والحضارة الحديثة، وتطوير الحياة الثقافية في المجتمع المحلي؛
- إتاحة فرص تعليم الفلسفة لأبناء المجتمع، وتنمية القدرات المعرفية و الفلسفية والتطبيقات العملية في قطاعات المجتمع المختلفة؛
- إشاعة قيم التنوير والنقد والتسامح.
د. عبد الله السيد ولدبّاه
العمانيون نجحوا حسب اعتقادي في نسج نسيج اجتماعي متضامن ومتسامح يسمه الاختلاف الإيجابي والتعايش السلمي. أن هذه القيم هي ما ينبغي تضمينها في البيان الفلسفي.
Views: 100