الفلسفة اليوم: حوار مع د. زهير الخويلدي
* أجري هذا الحوار في مايو 2013، ونشر في مجلة فضاء الفكر
زهير الخويلدي أستاذ وباحث بالجامعة التونسية، تحصل على الإجازة في الفلسفة سنة 1996، وعلى الكفاءة في التدريس سنة 1999، وعلى التبريز في الفلسفة سنة 2003. يتقن ثلاث لغات أساسية: الانجليزية والفرنسية والعربية، ويعد حاليا رسالة دكتوراه حول الفلسفة المعاصرة. نشر مجموعة من الكتب من الحجم المتوسط عنوان الأول: لزومية العود على بدء بتونس سنة 2007، وعنوان الثاني: معان فلسفية عن دار الفرقد للنشر والتوزيع سوريا 2009. عنوان الثالث: الهوية السردية والتحدي العولمي عن دار أكتب لندن 2010. عنوان الرابع: الثورة العربية وارادة الحياة مقاربة فلسفية، عن الدار التونسية للكتاب جوان 2011. عنوان الخامس: تشريح العقل الغربي، مقابسات فلسفية بين النظر والعمل، عن روافد وابن النديم جانفي 2013.
عضو اتحاد الكتاب التونسيين، وعضو في الجمعية التونسية للدراسات الفلسفية. له العديد من المنشورات الجامعية والعلمية والصحفية في العديد من المجلات والصحف والمواقع. ويدور هذا اللقاء حول مجموعة من المواضيع والقضايا ذات الصلة بالفلسفة عموما والفلسفية العربية والوضع الراهن للفلسفة.
– أين وصلت الفلسفة اليوم؟
اليوم تعاني الفلسفة من أزمة حقيقية وهي محاصرة من طرف منافسين جدد ظهروا في الفضاء العمومي بعد الثورة الرقمية وخاصة خبراء التسويق وعلماء الرقميات والبرمجيات والمستقبليات وبالتالي ضاع الحلم الأول للفلسفة بأن تكون معرفة نسقية ونظرة شمولية وحكمة عظمى وفكرة شاملة وبقي لها دور النقد والاستيعاب والتوجيه والفهم والمواكبة. بيد أن الفلسفة المعاصرة في زمن البعديات قد غيرت المسلك وتعاملت مع اللاّفلسفة كمعين لا ينضب لإنتاج المعنى وكمصدر للمراجعة والتطوير.
– ما المباحث الفلسفية التي ما زالت حية في أروقة الفلسفة إلى اليوم؟ هل مثلا ميتافيزيقا الوجود والثيولوجيا ما تزال تشغل عقول الفلاسفة أم أنها لن تعد تستقطب العقول؟ وهل مثلا فلسفة العقل واللغة والعلم ونظرية المعرفة هي المسيطرة على ساحة الفلسفة؟ من خلال متابعتك.
نعم هناك تراجع لمباحث الوجود والجوهر والدين والميتافيزيقا والحقيقة والفلسفة الأولى والاهتمام يبدو كبيرا اليوم باللغة والعقل والوعي والجسد والحياة.
– للأسف فإن الفلسفة التي تدرس لطلبة العلوم الدينية هي في معظمها فلسفات قديمة عفا عليها الزمن.
كما أن الثيولوجيا قديمة ولم تجدد مناهجها ولا تشتغل على الرؤى والمقاربات المعاصرة وبالتالي فإن الطلاب يعيدون نفس المادة القديمة ويقومون بتكرار نفس البضاعة الفكرية وهو ما يدعو الى الملل والنفور ولذلك يجب تثوير البحوث الدينية بما يتناسب مع روح العصر.
– ما أهم الأسئلة التي تسعى لتجيب عليها الفلسفة اليوم؟
فلسفة اليوم هي فكر اشكالي قلق ونظرية نقدية تطرح الأسئلة بدقة بالغة أكثر مما تجيب عنها وتنحى نحو الفكر المركب وتتجاوز الاميات العقيمة والمراوحات وتبتعد عن الأزواج الميتافيزيقية. وهي تبحث بالخصوص عن المعنى وتنقذ القيمة وتحاول تحرير الحياة حيث هي أسيرة وتتوخى أسلوب الخلخلة والهدم أكثر من البناء والتشييد للأنساق.
– هل تعتقد ومن خلال قراءتك للفلاسفة المسلمين المتقدمين أنهم يملكون أجوبة مفيدة لعصرنا على تساؤلات الفلسفة اليوم؟
لكل عصر الفلسفة التي تخصه وتطرح استفهاماته وتضع ملامح المشروع الذي يوجه الإنسان الذي يعيش فيه والفلسفة الإسلامية في الماضي كانت ترجمة لروح عصرها وقد عبرت عن لحظة الازدهار والتفوق الحضاري ونافست بنية المنطق الاغريقي والعلوم اليونانية وقدمت العديد من الكشوفات المهمة في الأنطولوجيا والعلوم الصحيحة والطبيعية ويمكن الاستئناس بها اليوم فقط للاعتبار والاستلاف المفاهيمي والتعمق في فهم الكون وتأويل النص والمقاربة المنهجية خاصة من حيث الفلسفة العملية وفلسفة الفعل والممارسة.
– في الغائية كفلسفة نجد أن أغلب الفلاسفة المعاصرين ينفون الغاية المطلقة، ويعتبرون المادة هي غاية ذاتها، وأن الموجود غايته الوجود ذاته نافين بذلك أية غايات من خارج عالم المادة. وحتى المذهب الحيوي الذي توسط بين الغائية والآلية لم نعد نشم رائحة أحد يعتنقه اليوم. فما مدى صحة هذا الكلام؟
المادية الفجة نظرية ساذجة يجب التخلي عنها والغائية المثالية التي تقفز على العلل الفاعلة هي تبرير ميتافيزيقي لروحانية دينية وربما يظل التفسير الحيوي على ما فيه من غموض وتناقضات الأقرب الى المعقول ولكن نظرية وحدة الوجود وتبني المحايثة في نظرية المعرفة والمفارقة في نظرية القيم هو الخيار الاستراتيجي الذي أقترب منه بعد عناء من التفكير.
– للدكتور فؤاد زكريا كتاب حول المادية شعرت بأنه يعرض جوانب إيجابية للمادية وكأنه يدافع عنها. في الوقت الذي أرى أن الغائيين حتى بإيمانهم بالمحرك الأول لا يقدموا أدلة مقنعة لكون هذا المحرك من خارج الوجود أو من خارج المادة. وإذا أضفنا إلى ذلك الاكتشافات المذهلة في علوم الدماغ والاقتراب من ماهية الوعي وكيفية تشكله في الدماغ. فإن المستقبل للمادية سواء المخففة أو المتطرفة. فهل تؤيد ذلك؟
المادية الذرية والمادية الجدلية أفلست بحدوث المنعرج الطاقوي واكتشاف النسبية والثورة في علوم الأعصاب والعرفانيات لا تزال جنينية ولا يمكن بناء أحكام مطلقة حولها وبالنسبة إلى جدلية المفارقة والمحايثة فهي فكرة ناظمة في تاريخ الفكر الفلسفي تتخذ مظاهر متغيرة مثل المادية والمثالية، والعقلانية والتجريبية، والاسمية والواقعية، والميكانيكية والغائية، والثبوتية والتطورية، ولكن مع الكانطية الجديدة عبرت عن نفسها في وزوج التعالي والكمون.
– هل تعتقد أن من وظيفة الفيلسوف هو هداية الناس إلى نور العقل الذي هو من أهم أهداف التفلسف؟ أم أنها تقتصر على تلمس طريقه الخاص؟ بمعنى لم لا يكون الفيلسوف مثل رجل الدين يقوم بوظيفة الهداية مع اختلاف الأدوات والمناهج والأهداف؟ بطبيعة الحال هذا سيستدعي اختلاف في الخطاب وفي الطرح، وحقن الخطاب الفلسفي بشيء من الوجدانيات.
الالتزام هو ديدن الفيلسوف ولذلك يختلف عن الدعاية والاشهار والعرض الذي يمارسه الخبير ويبتعد عن أسلوب الهداية والوعظ والارشاد التي يقوم بها رجل الدين ويتوجه نحو نقد المجتمع وتنوير الحشود وتدريب الناس على ايجاد حلول لمشاكلهم بأنفسهم.
– في فلسفة العقل وجدت أن كثيرا من الفلاسفة العرب المعاصرين يميلون إلى المزج بين البارا سيكولوجي والفيسيولوجيا ككتلة واحدة تفسر العقل. وذلك كحل للتغلب على ثنائية ديكارت وأحادية المادية. بالرغم أني أجد أغلب الفلاسفة في الغرب يرفضون منطقة الخوارق في فهم عمل العقل ويميلون أكثر إلى مادية الوعي. فهل تعتقد أن الفلاسفة العرب يمالئون المجتمع حذرا منه عندما يقحمون البارا سيكولوجي في فلسفة العقل؟
إقحام النفسانيات في الميتافيزيقا ليس بدعة عربية إسلامية، بل هو موروث عن أرسطو الذي جعل مبحث النفس ضمن كتاب ما بعد الطبيعة وفلسفة الجوهر، والتي تعد خلفية نظرية العقل الكلي، ولعل هذا التمظهر المعاصر، هو إعادة انتاج لهذا التداخل وصعوبة الخروج من مأزق الثنائيات والأزواج.
– ولكنهم في الغرب تخلصوا من أرسطو، فالثنائية ما عادت واردة. فلماذا نحن نستدعي أرسطو بعد؟
الغرب وجد الحل في فلسفة الحياة ووحدة الوجود والأنطولوجيا المباشرة، ونحن في صراع مع الماورائي ومع الطبيعة دون أن نتمكن من تفكيك الأول والسيطرة على الثانية، فكيف نقضي على الثنائية ونحن لم ندخل بعد عتبة التذاوت والاقامة في العالم؟
– من خلال متابعتي المتواضعة لعمل الفلسفة في العقود الأربعة الأخيرة أجد أن هناك ضغوط تمارس على الفلسفة لتنحو منحى العلوم التطبيقية في إنتاج السلع. حيث تقترب الفلسفة من العلم في حقول كفلسفة اللغة وفلسفة العقل. وقديما حاول كانط أن يحول الفلسفة إلى علم ولكن أحسبه لم ينجح في ذلك. اليوم عندما أراجع بعض العلوم العبرمناهجية Interdispline كالعلوم الإدراكية Cognitive Science أجد أن تداخل الفلسفة مع الفسيولوجيا والشبكات العصبية وعلم النفس تداخلا يبرر ما أشرت إليه من نحو الفلسفة باتجاه العلوم التطبيقية. إلى أي مدى تعتقد أن ما ذكرته صحيح؟
ما ذكرته صحيح، ولكن الفلسفة هي علم العلم ومعرفة المعرفة والحكمة العظمى تهتم بجميع المواضيع من وجهة نظر أولانية وتغوص في الأعماق وتتسلق القمم وتبحث عن الأصيل. وتحولت في الراهن الى ثلاثة اتجاهات كبرى: الأول هو اتجاه أبستمولوجي يخص في تاريخ العلوم ونقد المناهج والمفاهيم ويحتك بالمنطق وفلسفة اللغة. الثاني هو اتجاه اتيقي يدرس معايير الفعل وامكانيات الوجود الأرحب ضمن قيم مواكبة للتحولات العلمية والاحراجات الأخلاقية والمشاكل البيئية. الاتجاه الثالث هو الهرمينوطيقا والفنومينولوجيا ويهتم بالخصوص بوصف التجارب المعيشة كما يحياها الانسان والانفتاح على لغة الحياة اليومية وتشتغل على فهم التاريخ والآثار الفنية وأشكال المحادثة الشفوية والتراسل النصي بين الذوات والتثاقف بين الشعوب.
– ما رأيك بالنشاط الفلسفي لفلاسفة البنيوية، هل تعتقد أنه تمرد على الوجودية أم امتداد لها؟ وهل للبنيوية دخل بما نشهده اليوم من إعادة بعث للقيم والأخلاق كحقائق منفصلة عن الإنسان؟
البنيوية علم وليست فلسفة، وهي أقرب للنقد الأدبي ولكنها تستعمل في علم الاجتماع وعلم اللغة وعلم النفس، ولكن التفكيكية جاءت وكنستها من ساحة الفكر.
– هل العدمية كذلك؟ علم وأدب وليس فلسفة؟
العدمية هي موقف فلسفي وتعني الفراغ القيمي والشكوكية والريبية ولكن نيتشه وبعده هايدجر وسارتر ميزوا بين العدمية السلبية المتشائمة والعدمية الايجابية المتفائلة؛ لأنها تثبت الوجود بتحطيم الأوثان.
– هل تعتقد أن تنبؤ نيتشه بانتشار العدمية السلبية قد تحقق في الغرب وأنهم يعيشون اﻵن العدمية الإيجابية؟ على اعتبار ان الحربين العالميتين والفكر النازي نماذج للعدمية السلبية.
نعم. لقد حول الغرب العدمية السلبية التي قالت بموت الإله وخسوف الإنسانوية ونهاية التاريخ، والغاء الأيديولوجيا وهم الآن تجاوزوا ما بعد الحداثة وعادوا الى الذات وفي انتظار عودة الديني وبالتالي يعيشون العدمية الايجابية والمصالحة مع المقدس ويؤمنون بالتعددية الثقافية وحوار الحضارات وسياسة الاعتراف ومناهضة التمييز وتحطيم أوهام التمركز على الذات.
– ما الفرق بين الأنطولوجيا وبين الأبستمولوجيا؟ لو أردنا تعريف الأنسان كمثال؛ كيف تخدمنا كل من الأنطولوجيا والأبستمولوجيا في ذلك؟
الأنطولوجيا هي علم الوجود والأبستمولوجيا هي نظرية المعرفة أو فلسفة العلم. الانسان هو كائن آدمي مزدوج من جهة الوجود ينخره التمزق بين الوجود في ذاته والوجود لذاته. ويعرف بأنه جوهر وأعراض، ذات وصفات، نفس وجسم، حرية وضرورة، فعل ومسؤولية.
– اطلعت على بعض مناهج تدريس الفلسفة لطلاب الثانوية ببعض الدول العربية كمصر والمغرب، ولكني وجدتها مليئة بالحشو، في الوقت الذي أجد أن الغرب تفوقوا كثيرا علينا في مجال تدريس الفلسفة، حيث تجد لديهم بنوك من الأنشطة التي تتطلب من الطلاب أن يمارسوا الفلسفة كنشاط، ومن ثم يدخلوا في نتاج الفلسفة. برأيك ما أنسب الآليات والطرق لتدريس الفلسفة اليوم بالدول العربية؟
تدريس الفلسفة يجب أن يتمحور حول المنهج والتفكير والنقد من جهة أولى وتحيين الخطاب الفلسفي في الراهن والواقع في علاقة باللافلسفي من جهة ثانية حتى يتم تجنب الحشو واللغو والعقم النظري.
– ما الدور الذي تلعبه السببية (العلية) اليوم في فلسفة اليوم؟ بمعنى هل مثلا لها دور سلبي في فلسفة العقل؟ أو تؤدي إلى نتائج غير دقيقة في فلسفة التاريخ مثلا؟
السببية هي ضرورية للبحث العلمي وتحقيق التقدم التقني وتفسير الطبيعة وفق العلل ومن ينكرها ينكر العلم ولكن اكتشاف الاحتمال اليوم وعلاقات الارتياب وظهور اللاّحتمية والحتميات الجزئية والجهوية كل ذلك قد أدى الى مراجعتها والتشكيك فيها والتعامل معها كمبدأ توجيهي للعلوم وربما وقع التفكير في تعويضها بنظرية النمذجة والمقاربة التداولية والاجرائية. كما ان تطبيق السببية في التاريخ قد يؤدي إلى نوع من الجبرية والتفسير القانوني لحركة التاريخ والاعتقاد في امكانية التوقع بما يحدث بالمستقبل بالانطلاق من معرفة الماضي والإلمام بالحالة الحاضرة. غير أن التاريخ أصبح سرديا وصار يعتمد على التخييل والاستشراف وأمكن تعويضه بالاستراتيجيات وعلم المستقبليات.
– بعد وفاة الكثير من المفكرين والفلاسفة العرب المبرزين كفؤاد زكريا ومحمد أركون والجابري والمسيري وغيرهم، ما الأسماء العربية البارزة في سماء الفلسفة والتي برأيك ما زالت قادرة على رفد الفلسفة العربية المعاصرة بالحياة والحيوية؟
غياب أسماء لامعة مثل بدوي والجابري وأركون وزكريا وأبو زيد والمسيري وعبد الملك هي خسارة كبيرة للعقل العربي الاسلامي لا يمكن تعويضها بسهولة وفي وقت قصير لأن الثقافة تبنيها الأجيال والتراكمات والقطائع بين المجموعات وليست الأعمال الفردية والمنعزلة. ولكن ظهور جيل جديد من الفلاسفة الجدد في العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرون يمكن أن يردم الهوة بين الشرق والغرب ويتخطى الفجوة الرقمية ويتدارك القطيعة بين التراث وما بعد الحداثة وينشط الحركة الفكرية بالقيام بالترجمة والاطلاع المباشر على طرق الاشتغال في الجامعات الغربية، وشرع هذا الجيل الجديد في الحوار الذاتي والتواصل الافتراضي وممارسة النقد الموضوعي، وهو يبعث الحياة في الفكر الاسلامي الذي بدأ يشتغل الآن على وضع المفاهيم الخاصة به ويفكر في نظرية الثورة وشرعية الدولة واشكالية التنمية والديمقراطية والحرية والحقوق والمواطنة والسيادة والحكمنة الجيدة والنزعات السلمية واللاعنف والصفح والتصالح.
– أيهما برأيك أقدر على تحريك الركود العربي الحالي والقادم من قيود التراث والسلف؛ الفلسفة أم العرفان والتصوف؟ وهل من سبيل إلى أن يتحدا في هذه المهمة الكبيرة؟
كل شيء نافع بالنسبة إلى حضارة اقرأ وخاصة العلوم الأصيلة مثل الفقه والكلام والبلاغة واللغة والتفسير والسيرة والحديث والتصوف والفلسفة شرط إعادة بناء هذه الأروقة المعرفية على دعائم معاصرة وتحريك وهج السؤال والبدء من جديد في كل شيء وإطلاق حركة الخلق والابداع.
– هل هناك دوريات معينة في الفلسفة والمعرفة تنصح بمتابعتها سواء بالعربية أو الإنجليزية؟
ملتقى ابن خلدون للعلوم والفلسفة والأدب، والفكر العربي المعاصر.
Views: 29