مايو 25, 2025

براكسيس رمادي

حيث الفكرة الحرة تقود التغيير

كيف أفهم الطائفية؟

الشعور بالانتماء لطائفة، والدفاع عن هذا الانتماء؛ هو مكون غريزي في البشر، وإذا توقف عند البعض فسيكون ذلك استثناء لا يُبنى عليه كثيرا. التعبير عن هذا الانتماء والافتخار به؛ هذا عموما شيء طيب وربما مثري، كونه جزء من التعارف والتواصل بين البشر. تبدأ الطائفيةمن أوّل شعور بأن طائفتي يجب أن تكون فوق غيرها. عندما يتم إعلاء انتماء معين واعتباره أولى بالحقيقة من غيره؛ هنا يبدأ الغرور المذموم في كل الشرائع والدساتير والقوانين. الطائفية بهذا الفهم ستكون حالة في النفس تتوهم فيها بأن انتماءها مهم جدا للكون والحياة، ويجب أن يُستنسخ ويعمّ الكوكب، لأن ما سواه لا خير فيه ومضرّ. الطائفية تمركز على الذات وانغلاق عليها، وتخيّل بأن لا شيء بعد هذا الانتماء. وشخصيا أشك في أن هذا فعلا هو انتماء أصلا، بل يبدو لي أنه مركب من عناصر تجمّعت من هنا وهناك، ولا دخل لها بجوهر الانتماء.

ثمّة عوامل تدخل على الشعور البريء بأني جزء من جماعة، تجعله يتجاوز هذه الحدود المقبولة في الحس الانساني السليم. من الوارد أن ينتج من اضطهاد وعقدة جماعية قديمة، أو يمكن أن يكون مفتعلا لغايات السيطرة والسلطة والطمع. كما يمكن أن ينتج من قصور معرفي وقراءة خاطئة للنواميس والنصوص والرموز المبثوثة في محيط الانتماء، وأحيانا كاستجابة لمجموعة مهددات حقيقية أو وهمية. وعموما يمكن تمييز وجود مثل هكذا شعور بالتفوّق والذي يمهّد الطريق للطائفية؛ من فكرة رفض التعايش مع الانتماءات الأخرى. الحوار هنا سيكون صادر من غير وارد، باعتبار الحقيقة تصدر من طرف واحد، والآخر يجب أن يتلقى ويسلّم فقط، وإلا فإنه لا يستحق الحقيقة. تلتوي العدالة في ظل هذا الشعور المتجاوز لحدود النفس، ويصبح العدل مفهوم شخصي يجري كيله بمقاييس من التجربة الشخصية، وليس من اتحاد التجارب.

من الممكن أحيانا أن يتولّد هذا الشعور في مراحل تاريخية وظروف محددة، وسيكتسب وقتها بعض الوجاهة والمشروعية، ولكنه لا يفترض به أن يكون هو الحالة السائدة. كأن يتم الإلحاح عليه وتعظيمه من أجل رفع ظلم واقع، أو لتجاوز تشرذم وضعف يهدد وجود الجماعة. يجري هذا خصوصا في المراحل التأسيسية للشعب أو الجماعة، أو عند المنعطفات التاريخية الحرجة. ولكن بمجرّد تجاوز هذه المرحلة؛ يفترض أن يعود الجميع إلى الفطرة السليمة السوية من أن البشر جميعا متساوون، ويكون مقياس التفاضل ليس من أصل الانتماء، بل من عمل الخير، ومما يقدمه كل شخص أو جماعة من أجل أن تكون الحياة أفضل من بعدهم.

يمكن اكتشاف الطائفية واستشفافها في المواقف والخطابات والاصطفافات من حولنا. ولكنها قد تكون متخفّية ومتوارية عندما تتداخل مع السياسة وتتحوّل إلى أداة بيد السياسيين، وذلك نظرا لأن السياسة معنية بانتظام الشأن العام، والتوازن بين القوى الفاعلة في مجتمع ما أو في بقعة جغرافية معينة. هنا سأتوخّى الحذر من تحويل صراع سياسي ما إلى صراع طائفي. المستوى الذي تشتغل فيه السياسة ليس هو ذاك الذي يعمل فيه الشعور بالانتماء إلى طائفة. السياسة تتبدّل ويبقى الانتماء كما هو. نفسه الاتهام بالطائفية قد يكون موقفا سياسيا، وليس طائفية حقيقية. هذا لا يعني بالضرورة الفصل بين السياسة والانتماء الطائفي، ولكن لخطورة ترتيب أحكام دائمة على البشر بسبب مواقف سياسية متبدلة.

الطائفية قد تكون نشطة، وقد تكون كامنة. علاج الطائفية النشطة وظيفة الدولة، ويجب أن يتكفّل بها القانون. لأنها تكون قد تكون خرجت من سياقها وتحوّلت إلى أذى وعدوان متبادل. وعموما هي ليست خطرة كما هو الحال مع الطائفية الكامنة. لأن هذه الأخيرة تتطلّب حركة نقدية صارمة من أجل فصل مكوّن الانتماء عن الإضافات التي من خارجه. هذه وظيفة المفكرين والمثقفين والفنانين، ومعهم بطبيعة الحال الفقهاء والدعاة والعقلاء من كل طائفة. ثمة ظلم وجهل يغذيان الطائفية، وثمة برامج ومشاريع وأدوات مفتعلة، وثمّة مشاعر وانفعالات داخل الانتماء جرى تضخيمها بطريقة متعمدة أو عفوية. هناك عوامل داخلية في قلب التعاليم والتراث والتأويلات للتصوص، وهناك أيضا عوامل خارجية تأتي من خارج الحدود؛ يقف وراءها مخابرات وخطط ممنهجة لتمزيق المجتمع. كل ذلك يتطلب يقظة نقدية، وحساسية لمخاوف الهوية من جهة، ومتطلبات التعايش والمستقبل من جهة أخرى.

 

Views: 18