

الأدب عنده حياة و الكتابة التزام بقضايا الحاضر للإنسان أينما كان .هو من الجيل الجديد من المبدعين العمانيين الذين يمارسون مختلف أنواع الكتابة بنهم كبير و يسارعون الخطوات للوصول لأكبر عدد من القرّاء .
لمن لايعرفك من قرائنا كيف تقدّ نفسك؟
أعرّف نفسي في مدونتي الشخصية ككاتب عماني. لن أعرّف نفسي كذلك لو كان اللقاء قبل عشر سنوات رغم أني أكتب منذ زمن أبعد من ذلك بكثير. لا نعرف متى تترسّخ الصفات فينا بحيث تصبح دائمة. كنت يوما ما معلّما للرياضيات ثم مشرفا تربويا ثم مؤلفا لمناهج تقنية المعلومات. درست علوم الحاسوب بعد تخرجي من البكالوريوس. درست الفلسفة أيضا. كانت لديّ اهتمامات لم تستمر بالسينما. في الحقيقة لم يبق من حقول اهتمامي القديمة سوى الفلسفة. الأدب؛ وتحديدا الرواية؛ هو شيء جديد جدا عليّ. حتى على الرغم أني كتبت الشعر مبكرا، ولكن لا زلت إلى الآن أرفض صفة الشاعر. البعض يسمّيني مفكرا وفيلسوفا وروائيا. ولكن أفضل فقط صفة الكاتب. وإن كان ولا بدّ من تعريف إضافي فأنا أب لثلاثة أطفال.
أصدرت أربع كتب. الأوّل كان بعنوان “أوراق الوعي.. تأمّلات في الثقافة والفكر والمجتمع” صدر في 2015 عن دار سؤال اللبنانية، وعن نفس الدار أصدرت “داخل العقل النقدي.. مساهمة في تأصيل النقد اليومي” في 2019. بعدها اتّجهت إلى الرواية؛ حيث أصدرت روايتي الأولى “سرّ الموريسكي” في 2021 عن دار عرب اللندنية، وعن نفس الدار؛ صدر لي هذا العام رواية “الفطر”. أستطيع أن أقول وأنا أنظر إلى الوراء؛ بأن “أوراق الوعي” جاء ليفصل بين مرحلة القراءة والكتابة العشوائية، ومرحلة القراءة والكتابة ضمن مشاريع. أما “داخل العقل النقدي” فهو تتويج لأكثر من ثلاث سنوات من البحث الفلسفي الحرّ والمنظم في المفاهيم المتصلة بالنقد اليومي والاجتماعي والتنوير.
أيهما أقرب الى قلمك النقد أم الرواية؟
الرواية كما قلت؛ اهتمام جديد بالنسبة لي ولست متأكّدا من استمراره. روايتي الأولى “سرّ الموريسكي” نُشرت قبل سنتين فقط. لم أكتب في النقد شيئا أبدا. ربما أنا ما زلت أقرب إلى الفلسفة مني إلى الأدب، ولا أستطيع أن أتكهّن تماما بالمستقبل. أتذكر أني وفي عزّ المعمعة مع كتابة “سرّ الموريسكي”؛ انفصلت تماما عنها لمدّة شهر؛ لأكتب مقالا عن علاقة الرياضيات بالفلسفة ومبرهنات عدم الاكتمال لكورت غودل. كان مقالا موغلا في التجريد. أحيانا أظنّ أن ما يدفعني للكتابة ليس القراءة؛ وإنما ما يتحدّاني. ومع ذلك أستطيع أن أجزم أني لن أكون يوما ناقدا. النقد يتطلب مهارة تحليلية، وأظن نفسي أني أقرب إلى التركيب منّي إلى التحليل.
لقد كتبت في رواية الفطر ما يلي على لسان الروبوت آدم وهو يتحدث عن سيّدته كامي. ربما هذا يعكس بعضا مني:
لا يعرف أنها كانت تكره الكتابة. تمارسها كنوع بغيض من الترف. هي تكره الكلمات. تقول إنها تحجب ظلال الخيال، وتصنع عادة التحليل القبيحة لدى الكتّاب. قالت مرّة لي عندما كنت أجلب لها أخبارا ومواد سياسية لتسليتها: «نحن لا نكسب شيئا عبر التحليل. فقط نصبح غرباء عن ذواتنا. تلك خدعة كبرى. تظن نفسك سيطرت على كل ما حولك، ولكن في حقيقة الأمر حُجبت عن عينيك رؤية الأشياء الكبيرة. إن أقواما من الكتبة والمتكلّمين غرقوا في التحليل فحُرموا من رؤية الله. صارت روائح ما يكتبون كريهة».
يقال أن الروائي الناقد يكون أشدّ قسوة على نفسه من الروائي فقط؟
لو صحّ ذلك فسيكون الأصل هنا هو التجربة الطويلة التي صقلت الذائقة وجعلتها مرهفة وحساسة؛ بغض النظر عن اكتساب صفة الناقد من عدمها. ما يلفت انتباهي مع هذه القسوة التي يفرضها البعض على أنفسهم؛ أمر آخر إضافة إلى الذائقة الخبيرة التي تطوّرت بفعل الممارسة، وهي مسألة البساطة والانبساط والابتعاد عن التفذلك والتكلّف والتعقيد. فالقسوة ليس من الشرط أن تأتي نتيجة الحساسية الجمالية التي يحوز عليها البعض نتيجة الاشتغال والجهد؛ بل من هذه الفذلكة التي تتعب نفسها، ومن ثمّ تتعب القارئ؛ أملا في صنع دهشة ما. ولكنها في الحقيقة ترتدّ عكسا بأن تُفقد السرد بساطة الحدث وبراءته. في المقابل نفسه ما تُسمّيه بالروائي الناقد؛ قد لا يحتاج أصلا أن يقسو على نفسه؛ لأن التدفّق والصفاء الداخلي الذي ربما يعيشه يجعله من البساطة بأنّ ما يجري من قلمه يكون سائغا للقراءة من لحظته الأولى. شيء من ذلك ذكره هاروكي موركامي لمحاور سأله ايهما تختار الطريق السهل أم الصعب في الكتابة، حيث علّق بما معناه دائما هناك طريق وسط بين السهولة والصعوبة.
روايتك” الفطر” أثارت جدلا و استحسان عديد الكتّاب و النقاد.أين تصنفها هل هي من جنس كتابة الخيال العلمي أم هي رواية .وكيف استطعت المزج الراقي بينهما؟
عادة ما يحبّ الروائيّون أن يتركوا مسألة تصنيف أعمالهم لجمهور القرّاء والنقّاد. وخصوصا أن الكتابة الابداعية واسعة المجالات، ولا يوجد هناك تعريف جامع مانع للفنّ الروائي. قد لا أستطيع أن أنفي تماما صفة “الخيال العلمي” عن رواية الفطر، وخصوصا أني أتحدّث عن عالم مستقبلي، وأدخلت روبوتات تتحدّث بلغة بشرية خالصة ضمن العمل، ومن ثم أختبر الوجود الانساني عند حدود هذا العالم، ولكني مع ذلك أظنّ أن الخيال العلمي كجنس أدبي؛ يهتم أكثر بمسألة الاقناع العلمي، وتضمين الاختراقات التقنية كجزء جوهري داخل العمل، وليس هذا هو المحور في “الفطر” التي كان همّي الأوّل فيها هو اختبار الطبيعية البشرية في حدودها القصوى، وهي هنا حدود المرض النفسي والتنافس مع الذكاء الاصطناعي والوجود في العالم الافتراضي والجريمة. هذا يجعلني أميل أكثر إلى اعتبار “الفطر” رواية وجودية أكثر منها خيال علمي. الأدب الوجودي يركّز أكثر على مسائل المعنى والعبث وأصالة الوجود والقلق واليأس والانتحار والعدمية؛ وكلّ هذه الثيمات حاضرة بشكل وآخر في رواية “الفطر”. على الأقلّ بالنسبة لي، وربما القارئ سيكون له حديث آخر.
“الفطر” له مرجعية في الثقافة العربية لكننا نجده معك يكتب رواية المستقبل .ما الفلسفة في ذلك؟
لست متأكدا أني فهمت السؤال جيدا، ولكن يمكنك أن تتخيّل أني قرأت كثيرا عن الفطر. ولو أجريت بحثا سريعا في الانترنت ستُفاجئ بالمعلومات المذهلة عن هذا الكائن الذي يحتفظ لنفسه مكانا وسيطا بين النبات والحيوان. الكتب عن الفطر كثيرة جدا. توجد كتابات أدبية عديدة عن الفطر أو استعانت بالفطر كرمز للغموض والسحر والفضاءات الغريبة؛ بجميع اللغات تقريبا. وظّفت الفطر في العمل على أكثر من مستوى، ولكن ربما الجزء التالي يكشف عن الاستعمال الأعمق لرمزية الفطر، حيث تقول كامي:
“لا أعرف كيف أصف هذا الكائن العجيب. إنه شبح ينفلت من رقصة دائرية تنتهي بالتحلل. لا أحتاج سوى مدة قصيرة من تتبعه وملاحظته حتى أتيقن بأنه يوجد كائن مميز آخر غير الإنسان. يخرج من عروق الأرض كأسطورة، ومن خاصرة الجذع كشكوى، ومن بقايا الأحياء كتسبيح. أتخيله روحا للشجرة أرادت أن ترى الحياة على حقيقتها، فأطل بخجل ليروي قصة أخرى لم يسمع عنها أحد. إنه ضيف ثقيل على الكائنات لأنه يغير حالتها ويقلب استقرارها. كنذر يخترق أعماق الموت ليخصبه بالحياة”
إجابة عن سؤال في حوار قديم لك حول البداية التي كنت تريدها غير الكتابة قلت أنك كنت تحبّذ المسار العسكري.هل تمارس ذات الالتزم اليوم في كتاباتك أم أن قلمك متمرّد عليك؟.
لا لا أظن. تلك كانت مزحة مضمرة. ربما لو كنت أعلم ان أحد ما سيسألني عنها لما كتبتها. ما كان يحضرني وقتها بيت الشعر للمتنبي: “ذو العَقلِ يَشقَى في النّعيمِ بعَقْلِهِ”. الهشاشة الملازمة للكتّاب والأدباء؛ بقدر ما تجعلهم مرهفين الاحساس؛ هي تفرض عليهم أثقالا من التفكير في هذا العالم؛ كيف يمكن إعادة صياغته أو تأويله أو رسمه بشكل أفضل. هذا الوعي العميق والواسع يزيد من المتعة والالم في تفس الوقت. التحلل من هذا الوعي من شأنه أن يجعل الروح خفيفة لبعض الوقت. أنت مجرد ترس في دولاب ضخم. لا داعي لأن تلبس ثوبا غير ثوبك وتقول أنك تريد أن تغيّر العالم. استرح وانظر إلى داخلك. بطبيعة الحال هذه الفلسفة ليست بالضرورة تستمر على نفس المستوى في مطلق الأحوال. نحن نتذبذب بين الأمزجة والحالات؛ بحسب تفاعلنا مع المحيط.
يعيش الأدب العماني صحوة كبيرة منذ فترة ما السر وراء ذلك.
لا أحبّذ كلمة صحوة هنا. ربما هناك نشاط واضح. فبعد أن كانت قبل عشر سنوات تظهر لدينا رواية أو روايتان في السنة؛ أصبح في السنة الواحد تُنشر عشرون رواية. ولكن مرّة أخرى.. الجوائز الأخيرة التي حصل عليها الأدب العماني هي التي ربما صنعت هذا الضوء، وإلا فإن العماني لم يتوقّف عن الكتابة طوال تاريخه. بطبيعة الحال هذه الجوائز بالرغم من أهميتها في التنبيه إلى أن هناك من يكتب شيئا جيدا في أقصى شرق الوطن العربي الكبير، إلا أنها بطبيعتها أضعف من أن تحتوي الحراك الأدبي في أي لغة أو عند أي شعب. دائما الأدب أكبر من الجوائز. محركات الأدب ترتبط بالهمّ الابداعي لدى الشعوب، وهو يتّصل بحالة القراءة والتفاعل مع النتاج الأدبي. الابداع هو نتاج مجتمع وبيئة وجمهور يحفّز ويحتفي ويتذوّق هذا الابداع. هذا ما يجب أن يستمر.
ما انتاجاتك الجديدة؟
ربما سأعترف بأني ما زلت أفتش في أوراقي القديمة عن مشروع بدأته ولم أكمله. ليس لأكمله في الحقيقة. بل لأذكّر نفسي بأن لا أتكلم عن أيّة مشاريع قادمة إلا عندما تكتمل. لأن الدرج في مكتبي أوسع من المستقبل الذي ينتظر بالخارج. كما تعلم؛ الكتابة رهن مفاعيل عديدة. والحقيقة لأمر مدهش أن تجد الكثير من الأعمال التي تظهر بعد وفاة كتّابها. وأحيانا تظهر كأعمال غير مكتملة. ربما بسبب الشوق الأبدي للكمال عند المبدعين.
كلمة الختام لقرائنا؟
العمانيون يقرؤون للجميع، ولكن في المقابل لم يقرأ لهم سوى القلّة. بطبيعة الحال؛ الجميع تقريبا يشتكي بأنه لم يُقرأ. حتى إبراهيم الكوني على جماهيريته؛ يردد في لقاءاته بأنه لم يقرأ عربيا بما يكفي. ولكن ربما هذا مبرّر جدا. فأقصى ما يحتاجه المبدع هو أن يصل إبداعه للناس. وهذا ما يمكن لأي كاتب أن يتمنّاه.
About Author
Hits: 12