أبريل 23, 2024

براكسيس رمادي

حيث الفكرة الحرة تقود التغيير

الموت المفقود.. مسرحية عن الحياة

محمد العجمي*

أفكار كثيرة ظلّت تطوف فوق رأسي وداخله؛ وأنا أقرأ مسرحية الموت المفقود للكاتب والمترجم العماني ناصر الكندي، والفائزة بالمركز الثالث في جائزة الشارقة للتأليف المسرحي دورة (2022 – 2023). إذ وجدتُ نفسي ألتقي مع النصّ داخل أكثر من تجربة جمالية واحدة. فالمسرحية تعالج وبشكل فنّي بديع واحدة من أعقد المسائل الوجودية في الفلسفة المعاصرة، وهي ما يسميها ميشيل فوكو في “الكلمات والأشياء” ب “موت الإنسان”. أو تشظّي الذات بحسب جيل دولوز وفليكس غوتاري في عملهما النوعي “الرأسمالية والفصام”.

تبدأ المسرحية من مشهد لكاتب يجلس في غرفة مغلقة تسمّى “العنبر”؛ في ظل ضجيج يأتي من الخارج من حين لآخر. الكاتب المتوتّر يحاول بلا فائدة أن يكتب شيئا مدهشا ولكن لا يبدو أنه قادرا على ذلك، فيظهر انزعاجه الذي يوزّعه على آخرين يشاركونه في العنبر، وهم رجل عجوز صامت على كرسي، وامرأة ترعى طفلا، وشابّان آخران؛ هاكبث والمهرّج، ويبدو الجميع وكأنهم ينتظرون أو يستعدون لتمثيل نص مسرحي غير موجود بعد، وأمامهم يوم واحد فقط كي يقدّموا المسرحية.

ضجَر الكاتب هو الذي يقود العنبر للحديث عن الخطر الذي يداهمهم إذا لم ينجحوا في أداء مسرحية مدهشة. إذ أن حياة الجميع مهدّدة من قبل الخالدين الذين قاموا بحشر الناس في العنابر من أجل أن يكتبوا نصوصا مسرحية تنقذ هؤلاء الخالدين من الصمت الكبير. ذلك الصمت الذي ابتلع عددا كبيرا من الخالدين من ذوي الذاكرة القصيرة والخيال المحدود الذين انتهوا تماما بعدما فقدوا البصر واللغة والذاكرة بسبب اللانهاية التي ابتلعتهم. بينما يقاتل الخالدون من ذوي الذاكرة الأطول جاهدين حتى لا يصلوا إلى نفس المصير؛ عبر استعباد الناس الفانين وإجبارهم على تمثيل مشاهد جديدة تدهش هؤلاء الخالدين وتذكرهم بالمحدودية التي خسروها، والفناء الذي يعطي المعنى للخلود. الطريق الوحيد لتجنّب الوصول إلى الجمود السرمدي للخلود هو قصص الفانين ومشاعرهم وأحلامهم، لذلك يصبح هؤلاء الفانون هم المسرح المفقود الذي يبحث عنه الخالدون. الموت المفقود هنا مكافئ لهذا المسرح.

الخلود يلغي السببية تماما، وهؤلاء الخالدين في حاجة قاتلة لاستعادة هذه السببية بأي ثمن من الأثمان؛ لكي يشعروا بالماضي الذي لم يعد حاضرا إلا لدى الفانين، ولهذا السبب هم يلاحقون الفانين في كل مكان؛ يطلبون منهم أن يؤدّوا المسرحيات التي تروي نهمهم الشديد للأصوات والمشاعر والآهات والحركات والصور المتجدّدة. وكل من لا يستجيب لطلباتهم بالغناء والتمثيل سيكون مصيره الموت، وهذا ما يجعل الموجودين في العنبر في حالة رعب وقلق؛ يبحثون عن نص مسرحي يدهش الخالدين الذين ينتظرون خلف الأبواب. وبسبب أن الخالدين لا ينسون شيئا فإنّ طلباتهم تزداد تعقيدا مع الوقت بحيث صاروا يسألون عن إبداع نصوص جديدة، فالصور المستهلكة ما عادت توصلهم إلى اللذة المنشودة.

الطفل في المسرحية هو الوحيد الذي يكتسب وضعية خاصّة كونه غير مطارد من قبل الخالدين، بل على العكس؛ الخالدون لا يحبّون الأطفال. فالأطفال مستهلِكون للقصص تماما كالخالدين، كما أنهم يتطلّعون دائما إلى المستقبل، وهذا يذكّر الخالدين بالخلود الذي صار يرعبهم. ومع أنهم يخافون من الأطفال؛ إلا أنهم لا يقتلونهم، حتى لا تنقرض الأجيال التي ستصبح وقود المسرحيات التي يحتاج إليها الخالدون. لهذا يتم عزل الأطفال عن عوائلهم حتى يتم تدجينهم وإعدادهم لإنتاج المسرحيّات عندما يكبرون.

سيتكلم العجوز بعد صمت طويل؛ مع زيادة الخوف نتيجة أنّ اليوم المحدد ينقضي والكاتب لم ينجز شيئا. سيكتشف الجميع أن العجوز إنما هو مخرج مسرحي، وهو الذي سيحكي لهم كيف بدأت قصّة الخالدين، ولماذا صاروا يبحثون بلهفة شديدة عن أي شيء يذكّرهم بالماضي؛ بالذكريات؛ بالمحدودية، وكيف أصبحت وسيلتهم الوحيدة لذلك هي البشر الفانين الذين ذهبوا ضحايا لهوس الخالدين بالفناء، وكيف بات المسرح طوق النجاة الوحيد أمام البشر الذين تحولوا تدريجيا إلى مجرد شخصيات تبحث عن مؤلفين يكتبونهم داخل مسرحية ستؤدّى.

وفيما الرجل المسنّ يحكي قصّة الخالدين سيصدر صراخ وتفجّع بالخارج، فيكتشف الجميع أنه تم إعدام الفرقة المسرحية بالعنبر المجاور؛ فقط لأن خيالهم نضب وما عاد يمتع الخالدين. وهنا يزداد التوتر، فيعمد المسنّ إلى كشف بعض أسرار الخالدين، فما يكتبه الفانون ليس لأجل المستقبل كما قد يُظنّ، بل لأجل الذكريات التي هي كل ما لديهم، على اعتبار أن المستقبل بيد الخالدين، فالفانون ما هم سوى ماضي الخالدين الذين صاروا مضطرّين لتهجير الناس إلى العنابر وتسمينهم أدبيا عبر تزويدهم بكافة المصادر والحكايات والوسائل التي تلهمهم لتدرّ قرائحهم للتمثيل، وفي الوقت نفسه تجعلهم لا يكررون ما قيل وكتب.

وهنا يدخل أحد الخالدين إلى العنبر ليطمئن على سير العمل لدى الفرقة، وفيما إذا كان الكاتب والمرأة والمهرّج وهاكبث والرجل المسنّ يعملون باجتهاد على إنتاج نصّ يلسع الخالدين الذين سأموا من الصور المبتذلة، ويؤكّد هذا الخالد أنهم لا يحبون الكتابة عن الأشياء اللانهائية الثابتة التي لا تتغيّر كالبحر والسهول، بل الأشياء المتغيّرة الممتلئة بالحركة؛ كالنهر والشروق والغابة.

عندما يغادر الخالد العنبر؛ سيزيد شكّ الكاتب في المسنّ، وسيتّهمه بالعمالة لدى الخالدين، وخصوصا أنه نجا من الموت بعد كلّ هذي السنين، وأًصبح يتنقّل بين العنابر ليخرج المسرحيّات، وبالتالي يتغذّى هو الآخر على مخيّلة الكتّاب والممثلين. ولكن المسنّ سيدافع عن نفسه بأن هذا قدره الذي اختاره له الخالدون، وهو بسبب هذا الدور يعيش الأحزان والنهايات مرارا وتكرارا. إذ لم يعد المسرح محدود بالخشبة التي يقف عليها الممثلون، وبالتالي لا ينتهي بإغلاق الستارة، بل امتدّ وصار يستنسخ نفسه عند الجمهور الذي أخذ يتقمّص الشخصيات. أصبحت الحياة بأكملها مسرحية كبرى لا أحد قادر على فعل شيء لإيقافها أو الالتزام تجاه المسرح الذي ابتلع الواقع. هذا الواقع أصبح افتراضيا، والجميع صار يرتدي الأقنعة في كل لحظة من لحظاته.

يعتذر الكاتب هنا إلى المسنّ بعد أن يتّفق الجميع بأن نجاتهم ستكون في تفكيك المسرح، وذلك بتنفيذ ما سيسميه المسرحية الكبرى، وهي مسرحية على أعلى درجة من الإتقان بحيث يصل معها الخالدون إلى قمّة اللذة، فيصابون بالجنون. سيؤكّد المسنّ بأن هذه المسرحية موجودة عنده، فهو يحفظها ع ظهر قلب، ولكنها ليست كاملة، إذ أن نهايتها ليست مثالية كما يجب، فهي لن تنقذهم سوى لساعات. لأنها تشبه تلك النهايات المفتوحة على غرار “ألف ليلة وليلة”؛ حيث يكمن السرّ في تلك الليلة التي يبحث عنها الجميع لمعرفة النهاية ولكن لا يصلون؛ لأنها ممتدّة إلى ما لا نهاية، فهي ترياق الألف ليلة. هذه الليلة الأخيرة هي الجزء المفقود من المسرحية التي لدى المسنّ، وهي التي تبطل السحر.

سيواصل المسنّ الإجابة على أسئلة الحاضرين حول الجزء المفقود من مسرحيّة المسرحيّات، فسيذكر بأن المسرحية كتبها أحدهم لينقذ طفله الذي سينقله الخالدون إلى عنبر آخر، فقام بحذف نهاية المسرحية التي كتبها في مكان ما لا يعرفه الرجل المسنّ بعد. وهنا سيتكلّم الطفل الذي معهم في العنبر بأنّه هو المقصود الذي يتحدّثون عنه. سيلتفت إليه الجميع ليسألوه عن تكملة المسرحية؛ أين كتبها أبوه. هنا سينزع الطفل ملابسه ليؤشّر إلى ظهره، إذ أن أباه حفر الجزء الأخير من المسرحية على ظهر الطفل، وحيث أن الأطفال أعداء الخالدين، فإنهم لن يجرؤوا على قتل الطفل.

لم يكن الطفل يعرف ما الذي كتبه أبوه على ظهره، فقد أوصاه أبوه وهو يكوي ظهره بأن يحفظ السرّ في أن نجاة الجميع ستكون على ما كتبه على ظهره. يقوم هنا المسنّ بإكمال المسرحية التي ستنقذهم بنقل ما هو مكتوب على ظهر الطفل، وعندما يكتمل النص؛ يعلن ذلك للجميع، فيعترض عليه الكاتب بأنهم لم يعد لديهم وقت لتوزيع الأدوار وقراءة النص. هنا يعلّق العجوز بأنهم لا يحتاجون لذلك مطلقا.

مسرحية المسرحيّات التي ستنقذ الجميع من الخالدين؛ هي مسرحية بلا حوار. وبحذف الحوار سينتهي المسرح. حيث يتم استبدال الحوارات بقراءة السرد الذي سيكون بمثابة العدسة المحدبة التي تبتلع الشخصيّات والحوار والزمن. السرد هنا على عكس المسرح الذي هو مرآة مقعّرة تضخّم الشخصيات التي يقتات عليها الخالدون.

سيقوم المسنّ بعد ذلك بشرح ما سيقومون به في المسرحية الختامية، حيث سيملؤون المسرح بالمرايا الكبيرة، وفي الوقت نفسه سيؤدي الممثلون أدوارا بدون حوار؛ فقط حركات في ظل الصوت الكبير للجوقة التي سيلقيه المسنّ نفسه. الهدف من المرايا هو لتتساوى الشخصيات حتى درجة الاختفاء، فيتلاشى الحدث الذي هو كلّ ما يبحث عنه الخالدون. وعندما تكتشف العنابر هذه الطريقة؛ سوف يقومون بالأمر نفسه. وهكذا حتى تعمّ المسرحية العالم كله، بعد أن تنتقل عبر المرايا.

مع غياب الحوار؛ وفي ظل حركات الممثلين الذين لن يكونوا واضحين، والسرد الذي سيُحكى كصوت من الخارج، ومع المرايا التي تربك الخالدين؛ ستعود المسافة بين المسرح والواقع، تلك المسافة التي اختفت بسبب جوع الخالدين للممثلين في كل مكان. ومع عودة هذه المسافة بين المسرح والواقع؛ سيتم إنقاذ البشرية من الاستهلاك القاتل الذي يمتهنهم باسم الخلود. تنتهي المسرحية بالمسنّ وهو يؤدي الجوقة؛ عبر صوت مسجّل للمسرحية ولكن على شكل سرد خام لحكاية المملكة التي ابتلعتها المرايا ولم يبق منها سوى الأطفال الذين أخذو يحطمون المرايا وهم يضحكون فيما بينهم.

هذه النهاية التي يختم بها الكندي مسرحيّته هي الإكسير الذي يعالج به الهوس المرضي بالخلود الذي تحوّل إلى سلعة تتاجر به الشركات اليوم عبر إغراق السوق بمنتجات وخدمات هائلة تنسي الإنسان الموت. فالخالدون في المسرحية ما هم سوى نحن وقد بلغنا الغاية القصوى مع التكنولوجيا التي تساعدنا على عدم نسيان شي. وبالتالي تجعلنا في جوع مستمر للمزيد من الذكريات. وهذا الإكسير المضاد؛ الموت، سيكون هو “الفردوس المفقود” الذي لم يتوصّل إليه جون ميلتون، وهذا يجعلني أقول إن مسرحية “الموت المفقود” هي الكتاب الثالث عشر من الملحمة الإنجليزية الخالدة، فالنتيجة النهائية للفردوس المفقود هو الموت؛ لعدم قدرة الإنسان على صنع جنّته؛ بعدما جرّب كل الحيل والأفكار والأنظمة، والشيطان (الشركات) الذي هزمته انتصاراته، وعاد إلى الأرض مستعرضا عضلاته؛ بحسب فردوس ميلتون؛ يشبه الخالدين الذين صاروا يبطشون بالفانين في العنابر؛ فقط لكيلا يفقدوا آخر شعور لهم بالوجود؛ استمرار الغرق في وحل الوجود المسروق من الشيطان.

ولهذا يمكنني تخيّل الدراسات المعمّقة التي نفّذها ناصر الكندي ليكتب مسرحيّته غير العادية هذه؛ دراسة لعلّها اشتملت على قراءات موسّعة للمسرح الشكسبيري، وفلسفة المسرح عموما، ولتفكيكية جاك دريدا، ومدارس النقد ما بعد البنيوية، وفلسفة الموت لدى زيجمونت باومن، وعموم نقد مدرسة فرانكفورت، وتلك الصيغ الوجودية لجدلية الأنا والآخر كما نجدها عند سارتر وربما هايدغر. دون أن أحتاج أن أذكر لويس بورخيس، وخصوصا أن ناصر ترجم مقالتين لبورخيس عن ألف ليلة وليلة؛ صدرتا في كتاب مجلة نزوى عدد إبريل 2019.

‏هذه الصورة الفنية المبتكرة للموت؛ هي لإنقاذ الموت من ابتذالات مادّية العصر، على اعتبار أن الفن هو الذي ينجو من التحولات كما يقول أوفيد. الخلود كتلة ضباب تبتلع الأشياء داخلها، بحيث يبقى وجودها وتعريفها فقط من خلال هذا الضباب. الامر يشبه عندما يتم اختصار عدة أجيال حضارية داخل جيل ذهبي، ويختصر كل ذلك الجيل في عدد محدود من المبدعين الذين يبتلعون كامل إبداعات ذلك الجيل والأجيال القريبة منهم. ذلك الخلود الذي حصّل عليه بعض الخالدين؛ جاء على حساب الكثيرين في كل جيل. الحرية يمكن أن تكون هي هذا الضباب الذي يبتلع المتناقضات جميعا. فالموت المفقود هو هذه الحرية المستلبة التي تحاول أن تثبت نفسها في عالم مزيّف؛ يصارع لا لأجل البقاء؛ بل لأجل الفناء!

*نشرت المقالة في الفلق بتاريخ  30 مايو 2023

Visits: 19