أبريل 20, 2024

براكسيس رمادي

حيث الفكرة الحرة تقود التغيير

القراءة في درجة الصفر

محمد العجمي*

تبدأ الكتابة من لحظة الصمت؛ لحظة اللاشيء، حيث يكون الفكر فيها متعاليا جدا، ولكنه يضطر وتحت ضغط دوافع معينة أن يهبط من عليائه، لتدخل الكتابة في لحظة التأمل، وهي لحظة يتخير فيها الفكر ويتراوح بين اللغة وبين الوعي، بين التشكل والتجريد، وذلك قبل أن يدخل تماما في لحظة الفعل والتي يتلبس فيها الفكر ثوب اللغة بشكل كامل. ما يحصل في هذه اللحظة هو أن الفكر يتكثف في اللغة فتولد الكتابة. الكتابة بذلك ستحمل مكونين: مكون اللغة ومكون الفكر. وما من كاتب إلا ويتراوح بين هذين المكونين، مكون الشكل والقالب ومكون المعنى والروح.

اللغة كما يعبر عنها رولان بارت؛ خط الأفق الذي تلتقي عنده السماء بالأرض، فهي الوسيلة والمقياس الذي نرسم ونحسب به حدودنا. كما لو أن الفكر يتنازل عن حريته عندما يتشكل ويتقولب في اللغة، وهو يفعل ذلك اضطرارا في سبيل التمدد  والوصول إلى الكونية، فاللغة تضمن له الانتشار لأنه سينزل عن عرشه المطلق. قارئ اللغة هو قارئ لسجن محكم الإغلاق، سجن مضبوط تاريخيا وجغرافيا، وفي هكذا مناخ؛ يكون القارئ أقدر على التخلص من قبضة الكاتب، ولكن عليه أن يفكر في قبضة اللغة، لأن سجن اللغة يتبعه بالضرورة اعتبار اللغة نفسها كائنا حيا يلزم محاورته بدون أي تأثير إيجابي أو سلبي من منتج اللغة.

مع فقدان الحرية داخل السبك اللغوي؛ لا تعود اللغة معنية؛ تحت أي عنوان؛ بأي شكل من أشكال الإلتزام الإجتماعي. وعلى ذلك فالقارئ للكتابة سيكون قادرا على اختبار اللغة بدون أن يضطر لإبداء أي التزام تجاه الكاتب. سيستمتع بلغة الكاتب ويندمج فيها ويصنع عوالمه من خلالها أو سيمجها؛ بدون أن يعني ذلك موقفا ما تجاه الحرية التي أنتجت هذه اللغة؛ أي تجاه الكاتب. وهنا عليه أن يكون متسامحا ومنبسطا بل ومبتهجا وهو يتعامل مع مكون اللغة في الكتابة، ﻷنها لغة بلا روح، وهو؛ أي القارئ مسؤول عن إعطاءها شيئا من روحه. كما لو أن اللغة تخلق الفضاء، ونحن كقراء من يملأ هذا الفضاء. وإلى هذا الحد ما يزال القارئ بعيدا عن درجة الصفر في القراءة، ذلك لأنه ملتزم تجاه السجن الذي وضعته فيه اللغة. ولو أراد أن يعيد إنتاج النص ففي الغالب سينتج نصا بعيدا كل البعد عن ما يريد كاتب النص أن يقوله.

طبعا كل ذلك عندما يقف القارئ في حدود لغة الكاتب، وربما هو يقف متعمدا لأنه يريد اللغة ولا يريد كاتبها، ولو جلس مع أترابه فسيتحدث عن هذا الشكل الذي أحبه أو لم يحبه، ولن يتحدث عن الكاتب كوعي تاريخي متراكم. أما لو أراد أن يندمج أكثر مع فكر الكاتب، ويسبح مع روحه؛ فهذا يعني أنه ينتقل من مستوى حدود الشكل إلى مستوى الفراغ المحدد بالشكل؛ أي إلى ذلك التعالي والسمو الذي يستضيف الأرواح التواقة للحقيقة، وهي أرواح لا تستطيع أن تنفذ إلى فكر الكاتب إلا بعد أن تتخلى عن اللغة. هنا يبدأ القارئ في استدعاء روح الكاتب ليملأ الفضاء، وربما لن يستطيع إلا أن يضيف هو الآخر إلى هذا الفضاء، ولكن سيحاول جاهدا أن لا يسبق الكاتب في ملء هذا الفضاء.

تلك مرحلة سيكون على القارئ أن يتحرك من العدد الطبيعي باتجاه درجة الصفر. أي الدرجة التي يكون عندها محايدا تماما. ليس محايدا بالمعنى الذي يحاول أن يقف في المنتصف؛ بل محايدا بحيث لا يخلط بين روحه كقارئ وروح الكاتب، فهو يعيش لحظة الكاتب بتفاصيلها الدقيقة. سيصبح عليه أن يفحص فضاء الفكر الذي يعيش فيه الكاتب، وهذا يصنع إلتزاما اجتماعيا وتفاعلا موجبا أو سالبا تجاه الكاتب. ذلك ﻷن حرية الكاتب تحتاج إلى استجلاء واختبار ومقارنتها بحريات أخرى للبحث عن الحقيقة. القارئ هنا يجلب روح الكاتب ويلصقها في النص، وهنا إما أن يبحث عن هذا الكاتب ليجلس معه في مقهى أو جلسة سمر، أو أن يستدعي الكاتب من أعماق كتبه وما كتب عنه وما أحاط به من تاريخ وجغرافيا. وهكذا يستطيع أن يعرف ماذا يريد الكاتب فعلا أن يقوله، وما المدلول الذي يرمي إليه وهو يستخدم العلامات لرسم حدوده. فإذا كانت الكتابة في درجة الصفر تعني التخلص من الانزياح الذي يمارسه الأديب وهو يبعد الدال عن المدلول، فإن القراءة في درجة الصفر تعني التخلص من الانزياح الذي يمارسه القارئ وهو يبعد مدلول الكاتب عن داله.

طبعا هذا إن أراد أن يفعل ذلك؛ أي أن يلتزم اجتماعيا تجاه الكاتب؛ وإلا فيستطيع أن يتلذذ مع النص كما يشاء بدون أن يقع تحت سيطرة روح الكاتب. أما لو أراد أن يسبح في روح الكاتب وفكره ويجرب سلطانه عليه؛ فعليه أن يتخلص من قبضة اللغة ما يستطيع، أي أن يتجاوز فكرة اختبار الحدود والربط الأفقي بين لغته كقارئ ولغة الكاتب، لصالح أن يكون هناك تزامن متواصل بين الحدود والمحتوى، فالمضمون والمعنى والروح تشكل هي الأخرى اللغة بنفس القدر الذي تفعله اللغة وهي تحدد وترسم قالب الفكر. وهنا سيعود القارئ بالكتابة إلى لحظة التأمل؛ بل وإلى لحظة اللاشيء. وهناك فقط؛ يستطيع القارئ فعلا أن يصبح هو الآخر كاتبا؛ أو مشروع كاتب، بحيث عندما يعود القارئ إلى لغة الكتابة فسيجد نفسه محملا بالروح التي أنتجتها، وما القراءات المتشوهة والمتأزمة إلا نتيجة لتوقف القارئ عند لغة الكتاب؛ وفي نفس الوقت؛ يريد أن يصف روح كاتبه ويلتزم اجتماعيا تجاهه سلبا أو إيجابا.

أتحدث هنا عن القراءة في درجة الصفر تماما كما تحدث رولان بارت عن الكتابة في درجة الصفر. كلما اقترب الكاتب من درجة الصفر في الكتابة كلما أنتج لغة مدهشة وأخاذة؛ يفعل ذلك بالقدر الذي تكون فيه اللغة بسيطة وقريبة من مضمونها، وبالمثل كلما اقترب القارئ من درجة الصفر في القراءة كلما اكتشف أشياء مدهشة وأخاذة؛ يفعل ذلك بالقدر الذي يحاول فيه إزالة الفواصل بين اللغة والمضمون؛ بين الشكل والروح. يحصل لدى هكذا قارئ رغبة شديدة في أن يعيد إنتاج الكتاب أو أجزاءا منه بلغة جديدة، وذلك ﻷنه ينجح في اختراق لحظة العدم التي تنتج اللغة. باختصار شديد؛ عند مستوى اللغة تنشط اللسانيات والهيرميونطيقا والسيميائية، وعند مستوى الفكر تنشط الميتافيزيقيا والأنطولوجيا والميتات الكثيرة. والقدرة على الإنتقال من العلامة إلى ميتاتها والعكس تمثل أهم مستوى نجاح يمكن أن يحققه كاتب ما وقارئ ما.

فكرة موت المؤلف عند البنيويين تعني ممارسة اللغة كما هي؛ علامة وإشارة ودالة على الوعي بشكل مباشر، والكتابة في درجة الصفر تعني إنتاج لغة تكون أقرب ما يمكن من الوعي. القارئ لهذه الكتابة سيقرأ وعيا حيا متمثلا في اللغة المتوحدة مع الروح، لا حاجة لفهم مقاصد المؤلف ورؤاه وطبائعه؛ إذ أنه يكتب وعيه مباشرة بدون أن يفكر أنه يشيد سياجا وسجنا لنفسه. والقارئ هنا يمخر عباب هذا الوعي بدون أن يحتاج إلى عدة خاصة بالمؤلف يفك به شفراته وخصوصياته أكثر مما في اللغة نفسها، فوعي الكاتب تحول إلى لغة وفقط؛ ولكن أي لغة؟ ليست اللغة كحدود من حولنا؛ بل اللغة كمحتوى لا تتضح حدوده إلا أثناء قراءته. فالقراءة في درجة الصفر هي القراءة التي تتجنب معرفة أو صنع أية حدود إلا خلال القراءة نفسها، وهي تفعل ذلك بشكل تدريجي بدون نية مسبقة بضرورة وجود هذه الحدود؛ بل تولد الحدود طبيعيا باحتواء المحتوى.

ولو أردت إيجاز كل ما سبق في كلمة واحدة فسأقول: القراءة في درجة الصفر هي الإبحار في خيال النص؛ لا خيال المؤلف ولا خيال القارئ. إنها كمشاهدة لوحة فنية أو استخدام تصميم لجهاز وابتكار ما؛ المشاهد هنا لا يستدعي الفنان أو المصمم تماما كما لا يحتاج لاستدعاء وعيه وروحه. فقط روح العمل الذي بين يديه. هذا لا ينفي أنه يحتاج لمعرفة منتج العمل الفني؛ ولكنها معرفة منفصلة تماما عن تذوق الإبداع. إن الكتاب ما إن يخرج للعلن؛ يتحول إلى كائن آخر له هويته الخاصة به التي هي عبارة عن هويات جزئيات تراكمت من المؤلف ومصمم الغلاف والمراجع اللغوي والناشر والمخرج والموزع والمشتري. فلا يكاد يصدق عليه أنه كتاب فلان إلا في اللحظة التي ذكرتها آنفا؛ أي لحظة القراءة في درجة الصفر، وهي لحظة لن يكون الكتاب فيها موجودا؛ إلا بالقدر الذي تكون روح النص حاضرة وتصنع معظم مشهد القراءة.

أخيرا يمكنني القول أن الإنسان وعبر الكتابة؛ يخلق كائنات، بمعنى أنه يقتطع شيئا من هويته صانعا من ذلك كائنات منفصلة ومستقلة تجوب الآفاق مثله. وهي وإن كانت لا تستطيع أن تتخلص من الدمغة التي تحمل إسمه؛ إلا أنها بالهوية التي انطلقت أولا من كاتبها، ومن ثم تشكلت من هاهنا وهاهناك؛ أصبحت كائنا آخر. فمن يقتني كتابا فإنه يقتني تاريخا وسلطة ونظاما أخلاقيا وشكلا من أشكال الحرية. وهنا فإنه على وشك الدخول في عالم جديد سيكون نتاجا لتفاعل بين هوية الكتاب المبتكرة وبين هوية القارئ، وهذا يجعلني أدعي وبكل ثقة؛ أن القراءة هي الأخرى صناعة لهوية جديدة يمكن أن نقول أنها قيد التأسيس. وأنها خطوة نحو ما يعتبره رولان بارت “الكتابة كمؤسسة” وذلك عندما يقول في كتابه “الكتابة في درجة الصفر”: “إن الكتابة التي أركن إليها هي الكتابة على شكل مؤسسة مكتملة، وذلك عوضا عن لغة حرة بشكل مثالي، غير قادرة أبدا على التعبير عن شخصي، مخلفة في غياهب المجهول تاريخي وحريتي. إنها تكشف عن ماضيي واختياري، وتمنحني تاريخا وتشهر موقفي، وتدفعني للإلتزام دون أن اضطر إلى إعلانه بالقول”.

*نشرت في مجلة شرق غرب في أغسطس 2015

Visits: 3