أكتوبر 10, 2024

براكسيس رمادي

حيث الفكرة الحرة تقود التغيير

اللحظة بين العدمين

*محمد العجمي

ما زلت أحاول أن أنفذ إلى تلك المنطقة العميقة من إنسانيتي المعبرة عن أناي التي أتبختر بها في هذا العمر القصير. أحاول اكتشاف من أنا ولماذا أنا وأين أنا وإلى أين أنا. أتخيل هذه المنطقة كهوة سحيقة بلا قعر. شيء من اللانهاية. كلما غصت أكثر أكتشف أنها أعمق. عندما أشاهد طفلة تحمل أخاها الأصغر وهي تتسول العابرين في سوق مكتظ؛ عندما أشاهد شيخا هرما يصر رغم ضعفه أن يبسط بضاعته على الطريق ويبيع ما تيسر له؛ عندما أشاهد ذلك الذي كان حديث الساعة يوما ما وقد أصبح راقدا على سرير بمستشفى ينتظر الموت؛ عندما أشاهد صبية تخرج من غرفة العلاج الإشعاعي منهكة، عندما أتردد بين هذه المشاهد وأنا أحفر ذاتي؛ ما الذي يعنيه أنا أحيا ستين أو سبعين سنة؟ ما هو الممكن ألا يكون لو لم أكن؟ لماذا عليّ أن أكون لحظة بين عدمين؟ لماذا كل هذا الوعي وكل هذا الخيال وكل هذه الذاكرة؟ لا أجد أجوبة ولن أجد؛ لأنها من جنس تلك اللانهاية التي لا نستطيع الوصول إليها.

في تلك الهوة العميقة التي نسميها الإنسان؛ ترتفع إلينا مع تلك الأسئلة؛ مفاهيم أخرى كالموت والحياة والمعنى والحب والألم والأمل والحرية، وتأتينا على شكل صور باهتة جدا، لا نكاد نعرف ماذا تعني، فنمارسها كما هي دون أن نعرف ماذا تعني على وجه الدقة. ماذا يعني أن أموت وأن أحيا؟ ماذا يعني أن أحب وأنا يكون لي أمل؟ ماذا يعني أن أكون حرا؟ لا شيء أبدا! إنها ليست من جنس الأوهام، بل ببساطة؛ هي مفاهيم تخرج إلينا من هذا العمق ونضطر لأن نتعامل معها مرغمين. ونظل غير قادرين على إدراك كنه ذواتنا.

بالتأكيد الإنسان ليس بجسده. لو كان كذلك لما تبرع بدمه وكليته ﻷجل إنسان عزيز عليه. هناك إنسان أعمق. يلتقي صدفة بهذا الجسد في لحظة مبهمة للغاية. هي صدفة ﻷننا لا نعرف شيئا عن تفاصيل هذا اللقاء. لا نستطيع تقسيم هذا الإنسان إلى أية ثنائيات أو ثلاثيات أو ما زاد، هو شيء واحد فقط. هو إنسان. لا نعلم من أين جاءت هذه الإنسانية؛ ولكنها موجودة فعلا. لا بد أن تكون موجودة. متى وكيف وأين وجدت؛ ليس مهما. المهم أن هذا البعد الغائر موجود. وأتوقع أن الوصول إليه يحتاج إلى صبر على ملاحقة الواقع ترحالا، ومعايشة ناسه؛ المترفين منهم والمحرومين. المترفون وهم ينفقون بلا حساب والمحرومون وهم يبحثون بيأس عن أحلامهم. الغني الذي يستطيع أن يشتري كل ما يشتهي، وينفق في اليوم ما يحصل عليه الفقير في سنة، وجل طموحه أن يراكم ثروته، والفقير الذي يصرف جل يومه باذلا أقصى طاقته ومستهلكا مشاعره وأحلامه من أجل أن يجلب قوت يومه لعياله لئلا يقتلهم الجوع أو تضطرهم الحاجة للتنازل عن هذا المجهول لتسول العابرين.

في هذا البعد يستفزني هذا التفاوت الصارخ. ما قيمة هذا المجهول الذي يسمى إنسان؟ ماذا سأجد لو غصت فيه؟ أنانية جشعة تأخذ فوق حاجتها أضعافا مضاعفة! هل هذا المجهول يدرك قيمة أن يكون مجهولا؟ مع علمي بأن في هذا الإدراك سأجد التنازل والبذل والتواضع والعطاء. ونقيضه أن يدعي الإنسان أنه يعرف نفسه، عندها سيتحول إلى أنانيته التي تزيد من بؤس الحياة. ربما يجب أن تكون الحياة بائسة لنقتنع على سبيل اليقين أنها ليست حقيقية.

أليس في لحظات الإحباط لشاب وشابة في مقتبل العمر وبينهما حب وللكاد تخرجا من الجامعة، وأمامهما كومة الأحلام في الوظيفة والبيت والسيارة والأطفال والمشاريع؛ فيصطدمان بأنه لا وظيفة ولا بيت ولا أسرة؛ فيصرفان العمر جريا وراء السراب؛ هذه اللحظات القاسية؛ أي معنى للحب والأمل والرغبة فيها؟ ماذا يكمن في هذا الغائر الذي يكتشف أن زهرة العمر المحدود تمضي قبل أن يحقق ولو الحد الأدنى مما يأمل ويرجو؟ هل العدم أفضل له من الشقاء؟ أليس الموت أرأف به من الحياة؟ أو لنقل أليست هذه الحياة سمجة مغرورة ومتكبرة عليه؟ ففوق جهله بنفسه تصفعه الحياة مرات ومرات بأنه لا حيلة له.

ثم ماذا عن ذلك الموهوب الذي يبتكر فنا أو يصنع أداة؟ إنه هو الآخر يبحث عن مكان له على المسرح. يريد أن يكون شيئا قبل أن تنتهي فرصته. فينتزع من زهرة العمر هذه؛ لحظات يصرف فيها فكره وخياله وتعبه ليبني لنفسه شيئا يحقق له الاستمتاع بالحياة. يريد أن يستمتع بالحياة بأن يبتكر لها شيئا جديدا. لا أحد يريد أن يرحل بلا أثر ولا بصمة، حتى لو كان طفلا يذكر به من بعده. لماذا؟ لماذا كل هذا العناء؟ ما الذي في هذا العمق ما يستحق أن يستمر من بعد الرحيل؟ هل هو الاسم؟ أم ذكريات الشقاء التي لن يتلفت إليها أحد؟ هل هو الجاه والسمعة والمجد؟ ماذا تفيد الموسيقى العسكرية وإطلاق المدافع هذا العظيم المسجى؟ ماذا تفيد الملايين التي تخرج في جنازة صاحب الإنجازات الذي توفى؟ هل هو تكريم للموهبة أم للموهوب؟ وفي الحالتين؛ أين هو الإنسان؟!

لو قلت لا يوجد إنسان؛ سأقع في التناقض، ولو قلت هذا هو الإنسان؛ سأقع في بحر التساؤلات التي لا تتوقف. هذه الهوة السحيقة البعيدة التي نتدلى فيها كخفاشات الكهوف؛ لا تريد منا أن نشعل القناديل لئلا نكتشف ما فيها. هي لا تريد لأنها لا تعي نفسها، ولا تعي أننا نبحث عنها. واللاإرادة هذه أشبه شيء بقطة يافعة تريد ان تعبر الشارع دون أن تعرف أن سيارة قد تدهسها. أو كخنفساء طائرة تسقط في بيت أحدهم فيحملها بيده ليرميها خارج البيت ويعود ليغسل يده. أن تشعل قنديلا يعني أن يكون لك وعي، وأنك تريد أن تتمدد داخل هذه الهوة التي لا قعر لها، فتستوعب كل تناقضاتك التي تقفز إليك في صور أسئلة لا تتوقف. ولا هدف من هذا الوعي سوى أن تفهم من أنت ولماذا أنت وأين أنت وإلى أين أنت؟ بمعنى آخر أن تمارس المجهول. وربما هذا هو المعنى الأقرب للحياة. أن أمارس المجهول يعني أن أمارس إنسانيتي، ولتحقيق ذلك عليّ اكتشافها، ولاكتشافها؛ أنا أحب وأكره، وأحلم وأسعى، وأبني وأهدم، وأكتب وأمسح. وأصبر وأنا أدرك أن الحياة لن تبكي علي؛ إذ أن قيمتي محدودة بلحظة بين عدمين؛ عدم المبدأ وعدم المعاد.


*نشر هذا المقال في أحد المواقع في وقت ما من سنة 2013

Views: 2