أبريل 26, 2024

براكسيس رمادي

حيث الفكرة الحرة تقود التغيير

عن الرحلة الاسكندنافية (يوليو 2015)

* كتبت هذه المقالة في وقت من 2015 ولكن لم أنشرها

التخطيط للرحلة
ثقافة المكان
المزاج الاسكندنافي
الدين في اسكندنافيا
حقائق مثيرة عن اسكندنافيا

لا أظن أن السفر يحتاج إلى فكرة يجب أن تولد، فالسفر والتنقل والهجرة كل ذلك جزء من تركيبة البشر الجينية، غير أن الثقافة التي أصبحت هي السمة الغالبة في السفر في ظرفنا الزماني والمكاني في مقابل الحاجات الأساسية الطبيعية للإنسان كالغذاء والأمن والإنتماء؛ ذلك ما يجعلني أطلق على السفر لفظة “فكرة”. فالثقافة هي مجموعة أفكار، والسفر له ثقافته الخاصة، وبالتالي هو فكرة تولد في الذهن ولكن نتيجة حاجة من الحاجات العليا حسب هرم أبراهام ماسلو. في 2013 قمنا نحن الثلاثة (أنا وأخي حمد وصديقنا أحمد) برحلتنا السياحية الأولى والتي شملت ألمانيا والنمسا بشكل أساسي وسويسرا والشرق الفرنسي بشكل ثانوي، ونظرا لنجاح تلك الرحلة جعلنا هدفنا التالي الدول الاسكندنافية الأربع على أن نقوم بها بعد سنتين. ربما السبب الأول الذي جعلنا نختار هذه الدول هو الرغبة في الكون ضمن الدائرة القطبية الشمالية للمرة الأولى، وهو فضول قديم كان لدي منذ زمن أطول. كنت في تشناي الهند في أحد أيام ديسمبر 2014 عندما كنت أرسم المسارات الأولى للرحلة، ثم أشاركها مع حمد وأحمد. لا أخفي أني أستمتع وأنا أرسم خطة السفر، بل في بعض الأحيان مجرد رسم خطة السفر إلى منطقة معينة؛ هو في حد ذاته كاف لإشباع بعض الفضول للسفر. وفي حالة هذه الرحلة، كانت الرغبة في رسم خطة سفر معينة هو المحرك الأول للفكرة. إن عملية تعبئة الفراغات بمحتوى ما تخلق في النفس رضا عجيب وإحساس بالنشوة؛ كتلك النشوة التي يشعر بها الرسام وهو يملئ لوحته البيضاء بالألوان والخطوط والأشكال، ثم يتسائل في نفسه: هل هذا يكفي؟

التخطيط للرحلة

التساؤلات المتتالية ومحاولة تحديد إجابة للسؤال الحالي للإنطلاق إلى السؤال التالي؛ يصنع حالة من الإثارة في تلك اللحظة. وهذا ما شعرت به وأنا أفكر في نقطة الإنطلاق. من أين سنبدأ؟ حسنا لو جربنا نبدأ من فنلندا؛ سننطلق بطبيعة الحال من هلسنكي. هل سنتجه بعد ذلك إلى شرق فنلندا ثم شمالها أم إلى الغرب ثم الشمال أم إلى الشمال مباشرة؟ كم من المدة سنحتاج للبقاء في العاصمة الفنلندية؟ هل الأفضل زيارة أكبر قدر ممكن من المواقع في وقت قصير أم من الممكن أن البقاء فترة أطول مع زيارات خفيفة في كل يوم؟ هذا سيعتمد على ماذا سنفعل فيها وما الذي سنزوره. إذن يجب أن أعرف ما الذي يُزار عادة في هلسنكي. وبطبيعة الحال سيكون محرك البحث جوجل هو المصدر المهم لكل هذه المعلومات الضرورية لتعبئة الفراغات الكثيرة. وهكذا أشعر بالبهجة وأنا أشاهد المسار يكتمل شيئا فشيئا. إنه كما لو أنك تشاهد البذرة التي زرعتها تتفتح وتنمو تدريجيا إلى أن تكتمل ومن ثم يحين موعد الحصاد. في تلك الليلة لم أنم من الإنهماك في رسم مسار الرحلة التي ما تزال افتراضية، إذ يجب أن يوافق حمد وأحمد عليها لكي تتم، ولكن كنت أبذل قصارى جهدي لأجعل العمل تاما بحيث لا أترك لهما أي فرصة للتردد. فقد كنت أحسب كل شيء. مدة البقاء في كل مدينة، والمسافة من مدينة إلى مدينة، والزمن اللازم للتنقل بين المدن بالسيارة، وأسماء الشوارع الأقرب بين كل مدينتين، والبرنامج المقترح للزيارات في كل مدينة أو على الطريق، ونقاط استلام وتسليم السيارة، وإحداثيات المواقع التي سنمر عليها، ومواقع الشركات لحجز التذاكر والسكن. بطبيعة الحال سيأخذ كل ذلك وقتا أطول ولن أستطيع أن أنجزه بمفردي، لذلك اكتفيت برسم المسار العام للرحلة مع تحديد الأيام والمسافات والتكلفة المبدأية، ووجدتني في الصباح الباكر أشارك حمد وأحمد هذه المعلومات عبر الواتساب، وحيث أني تشبعت بالمعلومات اللازمة، وكنت متفوقا عليهما في المعرفة التي جمعتها؛ فلم أحتج لبذل جهد كبير لأقنعهما بالمسار. وما إن حصلت على موافقتهما حتى بدأت في الحجوزات الأولى عن طريق الانترنت، وذلك حتى لا أترك لهما فرصة للتراجع.

استغرق الأمر بضعة أيام أخرى متفرقة لمراجعة المخطط المبدأي، وقمنا بتعديله عدة مرات. في البداية كانت خطتنا أن نصل إلى أقصى الشمال الفنلندي، ومن هناك ندخل على السويد ثم النرويج ثم نهبط إلى الأسفل وندخل على السويد مرة أخرى من الوسط، لنعود من جديد إلى النرويج وأخيرا الدانمارك. اعترض أحمد على هذا المسار الذي سيكون طويلا جدا، وسيجعل معظم رحلتنا هي قيادة سيارة في الطرق وسيفوت علينا سحر الطبيعة في غرب النرويج. وهكذا عدلنا المسار ليمر عبر مدينة فازا الفنلندية التي سنخرج منها بحرا إلى السويد، ومن ثم نكمل رحلتنا عبر الشرق السويدي نزولا إلى استوكهولم التي سنخرج منها لنقطع السويد إلى الجانب الآخر على حدود النرويج، حيث سنزور عاصمتها أوسلو التي سننطلق منها عبر الطيران الداخلي إلى أرخبيل سفالبارد، ومنه إلى أوسلو مجددا، ثم تستمر الرحلة لتصل إلى الغرب النرويجي مع دورة كاملة تقريبا نمر بها على جنوب النرويج لننتهي إلى السويد مجددا ولكن من جهة الغرب هذه المرة. سيكون مرورنا الأخير على السويد للوصول إلى مدينة مالمه التي سندخل منها على الدانمارك حيث سندخلها عبر عاصمتها كوبنهاغن ثم أودنسه وأخيرا آلبورج. سيكون طول كامل المسار أكثر بقليل من سبعة آلاف كيلومتر سنقطع معظمه بالسيارة بالإضافة إلى النقل البحري والجوي.

غالبا ما ارتبط التخطيط لهذه الرحلة بمعرفة ما الذي نستطيع أن نفعله. وهذا السؤال هو الذي سيحدد برنامج الزيارات في كل مدينة ومحطة ننزل بها أو نتوقف عندها. لم يكن لدينا أحد نزوره أو نعرفه بشكل مباشر، لهذا كان دافع التعرف على أناس من سكان تلك المناطق مهما جدا، وقد كان ذلك واضحا منذ اللحظة الأولى التي كنت أتواصل فيها مع أصحاب المنازل عبر موقع الإستئجار والحجز للسكن Airbnb. أغلب الحجوزات كانت تُرفض إما لأسباب مرتبطة بالوقت المبكر جدا، أو لتغييرات تحصل لدى أصحاب الممتلكات، وأحيانا لأسباب لا نعرفها. المرة الوحيدة التي حجزنا فيها في فندق كان بجزيرة سبيتسبيرغن، وذلك لأننا لم نتمكن من الحصول على منزل خاص. والحق أنه يجب الإعتراف بأن تجربة السكن في ممتلكات خاصة كانت مهمة وجميلة جدا، وربما كنا سنخسر الكثير فيما لو كان الاعتماد كليا على حجوزات الفنادق. غير أني هنا أودّ الحديث عن المفاضلة بين نمطين في السفر غالبا ما يكون التخيير بينهما؛ وهما الاستكشاف والاستجمام. سفر الاستكشاف في الغالب يكون سفرا مرهقا يصاحبه تنقلات كثيرة مع إقامات قصيرة جدا في كل محطة، وهو سفر يروم الاستفادة القصوى من المبلغ الذي حدده المسافر لرحلته عبر زيارة أكبر قدر من المواقع. سفر الاستجمام هو السفر الذي يروم منه الشخص الهدوء وتخفيف الأعباء وتغيير الجو وأحيانا إنجاز المهام الخاصة. يستقر المسافر في هذا النوع فترات أطول في المواقع التي ينزل بها، ولا يشغله كثيرا استكشاف الأمكنة بقدر ما يهتم براحته النفسية والخلوة وتفريغ الضغوطات.

كانت سفرتنا من النمط الأول؛ وهو السفر الاستكشافي، وحيث أننا ثلاثة شباب في العقد الرابع من العمر؛ فالإرهاق ليس واردا ضمن المعايير التي نحدد بها المدة التي سنبقى بها في كل موقع ننزل به. فشغلنا الشاغل كان اكتشاف أكبر قدر من الأماكن والمواقع، كما لو أن الإستكشاف علاقة ينصبها الإنسان مع مكان واسع جدا، بينما الاستجمام علاقة مع مكان محدود جدا. الفارق هنا دقيق جدا بين حالة معرفية تتطلب الاحتكاك بطائفة كبيرة من البشر ولكن بدون الغوص في تفاصيلهم الدقيقة، وبين حالة معرفية يكون الاحتكاك فيها بعدد أقل من الناس مع التركيز على العمق في العلاقة معهم. السفر ضمن مجموعة من ثلاثة فأكثر يتطلب قدر من التنسيق والتناغم بين روح الفرد وروح المجموع، وهو قدر يمكن تحقيقه عندما يكون العدد ثلاثة ولكن يتعقد أكثر كلما زاد العدد. والفارق بين نمطي الاستكشاف والاستجمام يسهم في هذا التعقيد بشكل مهم، لهذا توصلنا إلى ما يشبه الاتفاق على أن رحلات الاستجمام تحتاج إلى فردانية أكبر لذا يقوم بها كل فرد بنفسه أو مع زوجته وأطفاله، أما رحلات الاستكشاف فهي التي تتطلب تجمعا من ثلاثة قادرين على الاتفاق بسهولة حتى لو اختلفت أمزجتهم كما هو حالنا نحن الثلاثة. ولا أخفي أنني استخدمت هذا المبرر لإقناع زوجتي وأطفالي بذلك، ولهذا قصة طريفة سأتحدث عنها بعد قليل.

يتطلب السفر الاستكشافي بشكل ملحّ جدا وسيلة نقل تكون تحت اليد في أي لحظة. يميل البعض إلى استخدام وسائل النقل العام بالدول والمدن التي ينزل بها، ولكن نحن فضلنا أن تكون لدينا وسيلة النقل الخاصة. فهذا يجعلنا أكثر حرية في التنقل والتفاوض مع الأمكنة والمواقع لاختيار أين سننزل وكيف نوزع اليوم والليلة بينها. جرّبت ذلك للمرة الأولى في رحلة لثمانية أيام في 2012 قمت بها إلى مدينة تورنتو بكندا لزيارة صديق كندي كان قد قضى حوالي عشر سنوات في السلطنة، وكانت فاعلة جدا. الارتباط بالنقل العام ممكن في حالة أن الشخص لا يحمل معه أكثر من حقيبة الظهر، ولكنه يصبح صعبا جدا عندما تكون هنا حقائب كثيرة. التفاوض مع المكان هو قصة أخرى مهمة، حيث أن زيارة كافة المواقع المحتملة أمر ليس بمقدور أحد في ظل العمر القصير ومحدودية الميزانية، لهذا لا مفر من الدخول في سلسلة مفاوضات مع الأمكنة والمواقع لاختيار الأفضل، وهكذا فلا بد من التضحية ببعض المواقع لصالح البعض الآخر، وربما تظل هناك حزّة في النفس على تفويت مكان ما، وهو أمر لا بدّ منه في الأسفار الاستكشافية. التفاوض مع الأمكنة لا يخلو من تحيّز يعود لميولات واهتمامات كل شخص، وربما تطلب ذلك إقناع وسرد للمبررات التي ترجح موقع على موقع، وهذا أمر طبيعي يجري مع الإنسان كلما أراد الإنتقال من مكان لمكان، غير أن التجربة الجميلة التي أشير إليها هنا هي تلك اللحظة التي يتهيئ الشخص فيها لمخاطبة المكان ومحاورته. هنا أستعين أنا بخرائط جوجل ومايكروسوفت وأحيانا ويكيمابيا، مع الدخول على المواقع الرسمية لكل مدينة أو موقع، وربما احتجت أن أزور قائمة اليونسكو للتراث العالمي، وكذلك الإطلاع على أية مراجعات أو مدونات قد يتركها المسافرون حول العالم عن تجاربهم وآرائهم. كل ذلك من أجل معرفة كيف يمكن لمكان معين أن يقنعني حتى أزوره وأتوقف عنده.

ثقافة المكان

إن المكان ينادي الإنسان ويخاطبه بأكثر من طريقة. الثقافة والتاريخ والتراث إحدى الطرق المهمة التي تتحدث الأمكنة بها معنا. المكان هنا كأنما يخاطب الإنسان فيقول له: أنظر إلى مَن مرّ من هنا. وانظر إلى آثارهم وما تركوه. أنظر إلى مصطلحاتهم وأكلاتهم وعمرانهم وأزيائهم. لاحظ وسائل التنقل لديهم والأسلحة التي استخدموها وكيف كانوا يخططون مدنهم ومساكنهم. تعرّف على من صنع لهذا المكان تاريخا. تعرّف على حروبهم وطقوسهم وأناشيدهم. كيف جاؤوا وكيف رحلوا؟ المكان هنا يتحدث عن الإنسان بكل إجلال وتقديس، فالإنسان هو الذي يعطي المكان معنى وقيمة. قد تقف أمام شاهد قبر ضمن مقبرة ملحقة بكنيسة مدينة معينة؛ فتلاحظ التاريخ المسجل على الشاهد للولادة والوفاة، وتجد أنه قبل مئة سنة؛ أقل أو أكثر. سيأخذك ذلك في رحلة تخيلية عن صورة هذا المكان حتى ذلك التاريخ. كيف عاش هؤلاء الناس يوما ما؟ ماذا كانت أحلامهم وآلامهم؟ لقد ذهبوا فما تركوا شيئا غير شاهد القبر هذا الذي تقف أمامه. ماذا تعني حياتهم للمكان؟ أين ذهبت حواراتهم وسهراتهم؟ كيف انتقلت أفكارهم إلى الساكنين اليوم بهذا المكان؟ وكيف تنتقل إلى هذا الزائر القادم من أمكنة أخرى؟

يحاورنا المكان أيضا عبر عناصره ومكوناته الطبيعية التي تصنعه أو تميزه. الأشجار والصخور والممرات المائية أو الجبلية والتكوينات الرملية والكتل الجليدية والحفريات العتيقة. تاريخ المكان الطبيعي أطول بكثير من تاريخه الثقافي المرتبط فقط بوجود الإنسان عليه، لهذا المجهول يكون أكبر بكثير، فإلقاء نظرة على فترة زمنية تحسب بملايين السنين ليست كالنظرة التي تحسب بمئات وآلاف السنين. وكلما ازداد المجهول ازداد نشاط الخيال لدى العقل لإكمال النقص في المعرفة، وأصبحت المعرفة أقرب للفن. كما لو أن النظرية التي تشرح الطبقات الجيولوجية لكتلة صخرية هي مشهد سينمائي ممتد من أقدم لحظة ممكنة لتاريخ الكتلة إلى الفترة الحالية، وبطبيعة الحال كل ثانية في هذا المشهد تعادل عشرات الآلاف من السنين، إذ أن التاريخ الطبيعي للمكان لا يتحدث على مستوى السنوات. وهكذا كلما غاص الإنسان في عمق المكان؛ كلما أصبح الألف سنة لديه يعادل بضعة ثواني. إنه كالفرق بين الوقوف إلى جنب شجرة أولد تجيكو بالسويد ذات التسعة آلاف سنة، والوقوف إلى جنب برج إيفل بباريس الذي بالكاد يتجاوز عمره قرن وربع القرن. ما الذي تستطيع تلك الشجرة أن تقوله لنا، وما الذي يستطيع برج إيفل أن يقوله لنا؟

فكرة التفاوض مع المكان هي نفسها فكرة ما الذي يستطيع المكان أن يقوله لنا، والحزن والأسف الذي يتولد في النفس على عدم القدرة على إضافة مكان معين ضمن خطة الرحلة؛ هو من ذلك النوع الذي يصاحب الإنسان طيلة مسيرة حياته وهو يدرك أنه محدود. وهنا لا أخفي أني أستخدم هذا الأسف المتصل بنهائية الإنسان في مفاوضة زوجتي لإقناعها بالموافقة على السفر بدونها. هنا يجب أن أعترف أنني من النوع الذي يهتم بمشاعر المقربين منه لئلا يكون السبب في انزعاجهم، وغالبا ما يكون سفر وتنقلات الرجال مصدر إزعاج لزوجاتهم، وخصوصا في بيئتنا المحافظة. لهذا لا أنفك أبحث عن المبررات التي أعلم يقينا أنها لا تقنع زوجتي، فهي في النهاية تستسلم لإرادتي على أن يكون ذلك ورقة ضغط بيدها في أي تفاوض مستقبلي قادم. غالبا ما تتسم العلاقة بين الرجل والمرأة فيما يتعلق بالسفر بالشك والريبة، وهي عموما لدى المرأة أكثر وضوحا منها لدى الرجل، فالرجل عموما لا ينزعج من سفر امرأته كما هو الحال لدى المرأة. والأمر في ذلك سيان تقريبا في جميع الثقافات، مع الاحتفاظ بفارق من ثقافة لأخرى يتعلق بحجم الخصوصية في كل رحلة.

المزاج الاسكندنافي

المرة الأولى التي سمعت باسم اسكندنافيا عندما اقتنيت مجموعة بطاقات الأسئلة سين جيم عندما كنت في المرحلة الإعدادية بأواخر الثمانينات من القرن الماضي. كان أحد الأسئلة عن الدول الاسكندنافية ما هي، والجواب الذي ترسخ في ذهني هي الدول الأربع: النرويج والسويد والدانمارك وفنلندا. اليوم أعلم أنه تاريخيا الدول الاسكندنافية هي فقط ثلاث، ففنلندا ليست كذلك. ولا آيسلندا التي يُنظر إليها كدولة اسكندنافية أيضا، فالمصطلح الصحيح الذي يجمع هذه الدول الخمس هو دول الشمال. المصطلح اسكندنافيا يعود في الأصل إلى اسم المقاطعة السويدية الجنوبية سكانيا، وهو اسم أطلقه الرومان على هذه المنطقة حوالي القرن التاسع الميلادي عندما كانت تحت حكم الدانمارك. إسم الشركة السويدية الأشهر لصناعة الشاحنات سكانيا هي نسبة لهذه المقاطعة. تحوز الدول الاسكندنافية عموما على أفضل المؤشرات العالمية في الأداء الحكومي والاقتصادي وفي التعليم والصحة والرفاهية والبطالة وفي العدالة الاجتماعية. حوالي ستين من حملة جوائز نوبل هم من هذه الدول الأربع؛ نصفهم من السويد. وفي مؤشرات الثروة؛ غالبا ما تكون هذه الدول ضمن الدول الأفضل في ضيق الهوة بين الأغنياء والفقراء، وفي نفس الوقت هي من بين الدول الأعلى في الضرائب. فهذه الدول تتبع نموذج اقتصادي يصفه البعض بأنه النموذج الرأسمالي الأقرب إلى الإشتراكية، أو كما يسمى في أدبيات الاقتصاد بنموذج الشمال أو النموذج الاسكندنافي، وهو نموذج يمزج بين تحرير السوق وبين اقتصاد الرفاه الاجتماعي حيث يكون الأغنياء مسؤولون عن رفاهية الفقراء. ومع أن هذا النموذج ينتقده البعض بأنه غير مشجع على الإبداع والإبتكار وقاتل للبحث العلمي الذي ينتهي بمنتجات تعبر الأسواق والحدود؛ إلا أن هذا النقد غالبا ما يصدر في ظل فلسفة أخلاقية مفرطة في الليبرالية.

كان الفضول أحد الدوافع المهمة لدي لاكتشاف هذه المنطقة من العالم. كنت قد قرأت الكثير عن الدول الاسكندنافية وشعوبها وأساطيرها، وعن شعوب الفايكنج الوثنية الذين ظلوا يهاجمون أوروبا والجزر البريطانية لثلاثة قرون اعتبارا من القرن الثامن وحتى القرن الحادي عشر حيث دخلوا في المسيحية تدريجيا. لذا كان الفضول ورغبة التعلم عن هذه الدول واستكشافها قويا، وبهذا الطابع اصطبغت رحلتنا هذه، فما إن نصل إلى منطقة معينة حتى يشغلنا التاريخ والثقافة والعمران أكثر من أي شيء آخر. هناك الكثير والكثير مما يثير الدهشة لكونك تشاهده أو تقرأ عنه للمرة الأولى في الدول الاسكندنافية، وهو قد لا يتعلق بهذه الدول وحدها، ولكن لكونك تشاهده لأول مرة فيها، فيظل مرتبط بها. كما هو شأن مقبرة الحيوانات المنزلية على الطريق إلى مدينة تامبره في فنلندا، حيث تنتصب شواهد مجموعة قبور يسجل فيها اسم الكلب وعمره وربما عائلته البشرية. وسأفرد بعض الذكريات عن علاقة الإنسان بالكلاب في البيوت التي نزلنا بها. وهو مما يستحق الحديث عنه.

المزاج الاسكندنافي هو مما يمكن الحديث عنه كانعكاس لهذا الفضول الذي يدفع بالإنسان لكي يلاحظ ويفهم ويهضم ما يراه، والحقيقة أن هناك أشياء كثيرة تلفت الانتباه في الدول الاسكندنافية، والكثير من هذا الكثير يعلق في الذاكرة ويصبح جزءً من الذات المتمددة. ولكن تظل هذه الأشياء متفرقة ومتقطعة ما لم تجمّعها الذات في عناوين عامة تختزل بعض التفاصيل. وربما هذه هي وظيفة الوعي المتعالي الذي يسبق أي خبرة واقعية حسب فلسفة إيمانويل كانط؛ أي ذلك الوعي الذي سيجعل الذات تحاكم هذه الخبرات وتفسّرها وتربط بينها بما ينتج قضية أو كلية لا تلبث أن تصبح جزءً من الذات نفسها. والمزاج الاسكندنافي هو من هذا القبيل، وعموما أقصد به تلك الروح الخاصة بالناس والمتصلة بتاريخهم وبالجغرافيا فتنعكس في ثقافتهم بشكل واضح. فهو تلك الخصوصية التي تميز الشعب وتصنع علامات لدى الزائر لتكون هي خلاصة الزاد الذي خرج به من احتكاكه بالبيئة. الخفة والبساطة هو أوّل ما تلمسه في الشعوب الاسكندنافية. قلة العناصر والاهتمام بالفراغ واللون الأبيض واعتبار وظيفة التصميم جزء من جماله مع تركيز على الصلابة والجودة ليبقى العمل لأجيال أطول، واستغلال ملحوظ لمكونات الطبيعة المباشرة وغير المعالجة في الديكور والزينة والساحات العامة والمنازل والمباني والمواقع التاريخية. اللون الأبيض وتدرجاته هو الغالب على المنازل في الدول الاسكندنافية، ولعل هذا بسبب فترات الظلام الطويلة خلال السنة وقلة الضوء.

جدران البيوت من الداخل غالبا ما تكون ذات لون باهت صمّ، مع اهتمام بقضية الإضاءة المنزلية بحيث لا تفسد الظلال المنعكسة على الجدران، ولهذا يتم تحاشي الزوائد والامتدادات الناتئة في قطع الأثاث أو في الرفوف أو في هيكل البيت. الإضاءة نفسها يجب تحاشي التوهّج فيها، وهذا يكون باختيار أنواع من المصابيح التي لا تشع مباشرة في العين؛ بل تكون ضبابية الإطار الزجاجي. وغالبا ما تكون مصابيح الطاولات والزوايا تضيء إما للأعلى أو الأسفل لتفادي الإزعاج الذي تسببه الإضاءة المتوهجة وانعكاسها، وهي مكوّن مهم جدا ضمن ديكور المنزل الداخلي. الحدود يجب أن تكون مستقيمة مع تركيز واهتمام بمسألة التوازي في الديكور الداخلي بين أطقم الجلوس والخزانات والرفوف والمحتويات الداخلية فيما بينها ومع هيكل المنزل وجدرانه. وليس من الصعب أن يلاحظ الزائر عنصر الجودة والصلابة في قطع الأثاث والتحف والبناء الخشبي والتوصيلات بحيث تصمد لأجيال أطول مع الزمن، مع حرص على المنحوتات والموروثات القديمة التي تنتقل من جيل إلى جيل، ولا أكونا مجانبا للصواب أن بعض البيوت التي نزلنا فيها مشيدة منذ مائة سنة كما أفاد ساكنوها. ومن الأشياء التي تلفت الانتباه في المزاج الاسكندنافي هي فكرة التخزين بالمنازل، فهناك اهتمام عجيب ومثير للدهشة بالخزانات والتي ما إن تفتحها حتى تجدها ممتلئة، وغالبا ما تكون متناغمة مع الجدران والزوايا والممرات الضيقة بالمنزل بحيث لا يمكن ملاحظة وجودها، ولعل هذا متصل بالتقليلية التي تتميز بها البيوت، حيث غالبا ما يكون هناك اهتمام بأن تكون العناصر ضمن المنزل لا تفسد الفراغ الذي له أهمية كبيرة جدا ضمن مساحات الغرف والصالات والرفوف.

يمكن القول إجمالا أن كل ذلك ليس بعيدا عن طبائع الشعوب الاسكندنافية التي يبرز فيها عنصر التروّي والصبر والدقة في الحركة مع اهتمام بالحدود الفاصلة بين الذات والآخر. من النادر جدا أن يستعجلك شخص يقود سيارة خلفك إذا ما كنت تمشي ببطء في شارع جانبي أو مسلك بين المباني، كما أنه من النادر أن يتضايق من يقف ورائك أمام طاولة الحساب في مركز تجاري لأنك لا تعرف كيف تستخدم آلة التخليص الآلي. وغالبا ما يكون هناك اهتمام شديد بالمسارات في الطرق، فهناك مسارات للمشاة وأخرى للدراجات الهوائية وأحيانا مسارات خاصة بباصات النقل الجماعي وسيارات الشرطة والإسعاف، ولا تجد ذلك فقط في المدن الكبرى، بل حتى في الأحياء والقرى والضواحي. يتّضح ذلك أيضا عندما تتمشى في الطرقات والساحات العامة والمواقع السياحية وأسواق نهاية الأسبوع، حيث لا تجد ذلك الصخب الناجم من الحوارات المرتفعة وأبواق السيارات، بل أكاد أجزم أنه ليس من التهذيب أن ترفع صوتك في مكان عام. إن الهدوء ومراعاة الفراغات التي هي جزء من طبيعة المكان في المنازل حتى لا يصطدم الساكن بالأشياء والمحتويات؛ ينعكس على البشر في العلاقات فيما بينهم.

وقريبا من ذلك ما لاحظته من اهتمام بالزجاجيات في المنازل، بل تعتبر اسكندنافيا موطن للعديد من الأيقونات الزجاجية التي أصبحت تُقلّد في مناطق كثيرة من العالم، كما هو الحال مع مزهرية سافوي التي صممها المعماري الفنلندي الأشهر ألفار آلاتو. وبطبيعة الحال البيت الذي تكثر فيه الزجاجيات من تحف ومزهريات وأيقونات سيتطلب بالضرورة عناية وخفّة لدى الساكنين. هذا ما كان يتطلب مني جهدا حذرا من تحطيم زجاجية ما بالخطأ، ومع ذلك بضربة واحدة غير مقصودة حطمت مزهريتين كانتا تنتصبان عند مدخل البيت الذي أقمنا فيه بكوبنهاغن. المزهريتان كانتا من ذلك النوع الذي صممه المصمم السويدي كييل بلومبيرغ في خمسينيات القرن الفائت. في الحقيقة لا أعرف كيف تصمد هذه الزجاجيات مدد أطول، وما لا أفهمه كيف يستطيعون الاحتفاظ بهذه الزجاجيات حتى في ظل وجود أطفال بالبيت!

يمكن إلى حد ما مقاربة المزاج الاسكندنافي بشكل عام بعد طرد بعض التفاصيل الدقيقة؛ من خلال معرفة تاريخ الدول الاسكندنافية في الحرب العالمية الثانية، وهو دور يبدو غريبا إلى حد كبير، فكل من الدول الأربع كان لها موقف منفصل تماما عن الأخرى خلال سنوات الحرب الست. بطبيعة الحال ذلك الموقف يعكس إرثا تاريخيا طويلا من الصراعات السياسية والعسكرية فيما بين هذه الدول، وانعكس ذلك في مواقفها خلال الحرب. فالدانمارك خضعت لألمانيا في فترة وجيزة ولم تبد مقاومة معتبرة للإحتلال النازي فكانت خسائر الدانمارك من ضمن أقل الخسائر خلال الحرب، وكذلك السويد التي اتخذت موقفا حياديا ولم تعتبر نفسها معنية بتلك الحرب باستثناء بعض المتطوعين الذين حاربوا ضد النازيين من جهة وضد الاتحاد السوفيتي من جهة أخرى، غير إنها في آخر سنتين قدمت الكثير من الدعم للضحايا والمساجين من الدول الاسكندنافية في معتقلات النازيين. النرويج على خلاف السويد فقد دخلت الحرب ضد النازيين واحتلتها ألمانيا، ما جعل المشاعر سلبية بين النرويجيين والسويديين، وذلك قبل أن تحاول السويد أن تصلح خطئها. فنلندا لعبت الدور الأغرب خلال الحرب، فهي دخلت في حربين ضد الاتحاد السوفيتي خسرت خلالهما ثمن أراضيها التي لم تعد إليها إلى اليوم، وقد تحالفت مع القوات الألمانية وسمحت لهم بالدخول إلى النرويج عبر أراضيها من الشمال، ثم دخلت حربا ثالثة ضد النازيين لطردهم من شمال البلاد، وبالمجمل فإن فنلندا هي صاحبة الخسائر الأكبر من حيث عدد الأرواح والأراضي بين الدول الأربع خلال الحرب.

فنلندا هي الدولة الأحدث تكوينا بين الدول الأربع، فالقومية الفنلندية حديثة التكوين، وظل الفنلنديون في مناوشات طويلة مع الروس من جهة ومع السويديين من جهة أخرى منذ القرن السابع عشر، إلى أن استقلت تماما عن روسيا كجمهورية برلمانية بُعيد الثورة البلشفية في 1917، وكان صمودها المفاجئ للاجتياح السوفيتي إبان الحرب العالمية الثانية على عكس دول البلطيق الأخرى هو الذي جنبها أن تكون إحدى الجمهوريات السوفيتية طيلة الحرب الباردة. مشاركة فنلندا في الحرب كانت مستقلة تماما، فلا هي كانت ضمن دول المحور ولا كانت ضمن دول الحلفاء، فكانت معاركها معارك إثبات الهوية الفنلندية، على عكس الدول الثلاث الأخرى التي كانت عريقة كل العراقة، ولعل هذا الوعي لدى الفنلنديين بهويتهم هو الذي يجعل فنلندا اليوم واحدة من أكثر الدول نجاحا على مستوى الخدمات والاقتصاد والدخل القومي، بل وتتربع على سلم أكثر الدول تعليما منذ سنوات.

الدين في اسكندنافيا

ما زلت أتذكر العبارة التي جاءت على لسان حمد بعفوية عندما كنا نحاول تخليص بضاعة اشتريناها من مركز تجاري في أوسلو. طاولة التخليص كانت تعمل بطريقة الخدمة الذاتية، فالمستهلك يحاسب بنفسه. لم يكن هناك سوى موظف واحد يقف بعيدا يقدم أي دعم قد يحتاجه الزبائن. العبارة التي جاءت على لسان حمد هي: “الواحد يستحي من نفسه!”. لسان الحال لدى حمد يريد يسأل: أين هو الدين الصحيح؟ بطبيعة الحال؛ الدين الصحيح ليس بمحتواه، وإنما بما يتركه على الإنسان من أثر سامي وعظيم ينعكس في سلوكه وممارساته اليومية. لا يكاد المرء يجد في اسكندنافيا تلك الجدية مع الدين كما يجدها في الدول العربية وبعض الدول الأخرى كالهند وتركيا وإيطاليا وإلى حد ما بريطانيا وفرنسا. ليس ذلك بسبب خلو الكنائس من المصلين وندرة الفعاليات الدينية؛ وإن كان ذلك مؤشرا مهما على ضعف الجدية هذه؛ وإنما لأننا كزوّار لم نلمس في الحوارات والجلسات التي كانت لنا هناك أي حضور للدين في سلوك ومواقف الناس. فمع أن غالبية سكان هذه الدول هم بروتستانتيون بحكم تاريخها الديني؛ إلا أن حجم حضور ذلك متواضع جدا. نسبة الإلحاد في هذه الدول هي من أعلى النسب في العالم حسب إحصاءات مختلفة من مركز مؤشرات الاتحاد الأوربي ومركز غالوب ومراكز بحثية أخرى، ولكن تظل هذه النسبة في أعلاها بالسويد لا تصل إلى 35% مع الأخذ في الاعتبار المعنى الضيق للإلحاد؛ أي ذلك المعنى الذي يرفض كافة أشكال الألوهية والروحانية في الكون.

المجتمع في اسكندنافيا مُعلمن بالكامل أو يكاد، فليست الدولة فقط التي ترفض مرجعية الدين، بل حتى المجتمع. فالدستور والقانون الوضعي هو المرجعية الوحيدة للمجتمع في تنظيماتهم وتفاعلاتهم. وهذا لا ينفي أن هذا الدستور والقانون البشري قائم على إرث طويل وضخم من تجربة الإنسان على تلك الأرض. لهذا يستطيع الإنسان المتدين أن يمارس دينه بكل حرية وأريحية، وأن يتنقل بين دين وآخر دون أن يضطر ليبرر ذلك أمام أي نوع من أنواع السلطة. المجتمع في اسكندنافيا مجتمع متنوّع ومتعدد عرقيا وإثنيا ودينيا ولغويا. مقيمون من أصول مختلفة كثيرة يقطنون تلك الأرض، وكل يحتفظ بدينه ويمارس ثقافته. في استوكهولم؛ كانت إقامتنا لدى سيدة بولندية مقيمة في السويد، ولفت انتباهنا في البداية شمعدان سباعي وضع على جنب بإحدى رفوف صالة المعيشة. في البداية اعتقدت أن السيدة يهودية؛ وهذا ما جرّنا للحوار معها عن الدين، لنكتشف أنها كاثوليكية تجد حريتها الدينية في السويد أكثر بكثير من المجتمع البولندي الكاثوليكي المحافظ. ولدى حديثنا عن المنطقة العربية؛ كانت نبرة الحزن والتبرير هي الغالبة على الطرح الذي تداولناه في تلك اللحظة، ولم يخلو الأمر في تقديري من مجاملة من السيدة تجاهنا كعرب، ولعل ذلك لضعف ما تعرفه عن الإسلام وأيضا لكوننا زبائن يهمّها أن لا تخسر رأيهم في الإقامة التي تقدمها لهم. ولكن الصورة العامة التي انعكست لدينا أنها لم تكن تحتفظ بأي أحكام مسبقة سلبية أو إيجابية عن العرب.

إن النسب المرتفعة للإلحاد واللادينية في الدول الاسكندنافية لا تعني أن هذه الشعوب ترفض الروحانية التي في الأديان بشكل مطلق، ولا تأتي في صورة محاربة وعداء للدين أيضا؛ كما هو الحال لدى الكثير من ملحدي العالم العربي. كل ما في الأمر؛ أن الدين ليس بتلك القضية المهمة التي تشغل بال الناس. فهم يحتفلون بأعياد الميلاد وعيد الفصح والبعض منهم يحرص على توثيق زواجه لدى الكنيسة، وفي العموم الطفل الذي يولد لأبوين مسيحيين يتم تسجيله تلقائيا كمسيحي في الكنائس الرسمية بكل دولة، مع وجود تشريع يتيح للمواطن أن ينسحب من الكنيسة عندما يكبر. لهذا يجب الوضع في الاعتبار أن النسب العالية للإلحاد بهذه الدول أقرب إلى عدم الجدية في التعاطي مع الدين، وكذلك لا أغفل عن المشاكل التي عادة ما تصاحب التصويتات واستفتاءات الرأي عندما يتعلق الأمر بالدين. ويمكن أن أشير هنا إلى أن التأثير الوثني في الشعوب الاسكندنافية أعلى عنه من أي شعوب أخرى تعتنق المسيحية، ولعل هذا ما يفسّر سرعة سقوط الكاثوليكية الرومانية في السويد ودول الشمال الأخرى بعد إصلاحات مارتن لوثر بالقرن السادس عشر، وتبنّي هذه الدول للوثرية كدين رسمي إلى فترة قريبة جدا حتى نهايات القرن العشرين. فإصلاحات لوثر كانت أقرب للمزاج الاسكندنافي، بل ولعل هذه اللوثرية تفسّر جزءا من الموافقة السويدية والدانماركية والخضوع لإرادة النازية وسن تشريعات في الثلاثينات من القرن العشرين تتوافق مع إرادة الحزب النازي في صنع الكنيسة الآرية لتكون قومية توحّد الشعوب الآريّة تحت قيادة الرايخ الألماني.

ومن دلالات التأثير الوثني وتعدد الآلهة عند الشعوب الاسكندنافية في المسيحية؛ فكرة بابا نويل الذي ينزل من السماء وسط الجليد ليحقق أمنيات الأطفال، فجذورها على ما تذكر بعض التحليلات تنتهي إلى الأديان النوردية (الشمالية) وما بابا نويل هذا إلا الإله ثور في الأساطير الاسكندنافية؛ بعد أن مرّ بسلسلة طويلة من التعديلات والتحسينات جاءت في صورة أدبية. تشتبك الوثنية بالمسيحية بصورة أجلى في قرية أوبسالا القديمة التي تقع على بعد خمسة كيلومترات من مدينة أوبسالا السويدية شمال استوكهولم. وقد توقفنا عند هذه القرية التي كانت مسرحا لعمليات بحث أثرية مستمرة منذ منتصف القرن التاسع عشر للتنقيب عن بقايا الديانة النوردية القديمة، فقد كانت القرية مركز دينيا واقتصاديا هاما قبل وصول المبشرين الرومان إلى السويد. ونفس القرية أيضا أصبحت مركزا دينيا للمسيحية الوافدة، بل وما زالت مدينة أوبسالا إلى اليوم هي المركز الأسقفي في السويد حيث مقر رئيس أساقفة السويد. وأكثر ما يلفت الإنتباه في هذه القرية هي التلال الملكية الثلاثة التي تنتصب متجاورة على شكل خط مستقيم، والتي يعتقد أنها قبور لثلاثة ملوك تعاقبوا على حكم السويد منذ القرن الثالث والرابع الميلادي. وهناك من يرى أن هؤلاء الملوك الثلاثة ما هم إلا الآلهة الاسكندنافية الأشهر ثور وأودين وفرير. بل والأعجب من ذلك للدلالة على التأثير الوثني هو أن كنيسة القرية التي كانت مقر الأبرشية السويدية لحوالي قرنين قبل أن تنتقل إلى كاتدرائية أوبسالا الحالية في أواخر القرن الثالث عشر؛ هذه الكنيسة ينتصب بأحد جدرانها لوحة طباشيرية تعود إلى القرن الخامس عشر، توضح القديس جورج الذي يعود للقرن الرابع الميلادي وهو ينتصب فوق حصانه الأبيض يصارع التنين ويصرعه في آخر المطاف ليحرر مدينته من الشر. ولا أنسى هنا أن أشير إلى تأثيرات المحاربين الوثنيين الفايكنغ ورمزيتهم للهوية الإسكندنافية، وما لعبوه من دور في تغيير معالم أوروبا إبان غزواتهم لها بدءا من القرن التاسع الميلادي.

الإسلام هو الديانة الثانية الأكثر انتشارا في الدول الاسكندنافية بعد المسيحية البروتستانتية، ولكن أغلب المسلمين هناك هم من المهاجرين مع قلة من أصول اسكندنافية اعتنقوا الإسلام وغالبيتهم من النساء اللاتي يتزوجن مسلمين. السويد تضم العدد الأكبر من المسلمين في اسكندنافيا تليها الدانمارك فالنرويج ثم فنلندا، وبشكل عام لا تتجاوز نسبة المسلمين في هذه البلاد مجتمعة أربعة بالمئة. أغلب المسلمين بالسويد هم من المسلمين التتار الذين نزحوا إليها من روسيا وفنلندا وبيلاروسيا، وأما المهاجرين فغالبيتهم من الشرق الأوسط؛ تحديدا من العراق وإيران بدؤوا في الهجرة خلال الحرب العراقية الإيرانية، وأكثرهم علمانيين انخرطوا واندمجوا في المجتمع السويدي. والأصول الأخرى الأكبر عددا من المهاجرين هم من البوسنة والصومال وتركيا. وعموما حسب تقديرات سويدية لا يتجاوز عدد من يواظب على حضور صلاة الجمعة من جملة المسلمين بالسويد 10 بالمئة. في فنلندا يمثل التتار المسلمين أقدم الأصول المسلمة التي قطنت في فنلندا منذ منتصف القرن التاسع عشر، ومنذ 1990 بدءت موجات من المهاجرين واللاجئين تتوافد إلى فنلندا من الصومال والعراق وإيران وتركيا، بالإضافة إلى قلة اعتنقت الإسلام بحكم الزواج غالبا. أما النرويج فأكثر المسلمين فيها هم من المهاجرين من باكستان وتركيا والعراق والصومال والبوسنة وإيران، يمثلون اليوم حوالي 3 بالمئة من مجموع سكان النرويج، وبدؤوا في الانتقال إلى النرويج منذ حوالي ستينات القرن العشرين. وتعتبر المملكة العربية السعودية هي أكثر من يموّل بناء المساجد في هذه الدول، غير أن النرويج رفضت في 2010 أن تعطي تصريحا لبناء مسجد من تمويل سعودي لأن السعودية لا توجد بها حرية اختيار الدين. وأخيرا مع الدانمارك التي يشكل فيها المسلمين حوالي 5 بالمئة من السكان، وغالبيتهم هاجروا للعمل في الدانمارك منذ سبعينات القرن الماضي من ألبانيا وتركيا والمغرب ويوغوسلافيا السابقة والعراق وإيران والصومال بالإضافة إلى بعض المعتنقين الجدد للإسلام من الدانماركيين.

لم ندخل أي مسجد طوال رحلتنا في اسكندنافيا، وربما أعترف أنه لم تكن لدينا أي نية للبحث عن مسجد هناك. ولكن صادفنا خلال تجوالنا على مسجدين أو ثلاثة في استوكهولم وأوسلو، وهي عموما مساجد للصلاة فقط، وتكون مغلقة في غير أوقات الصلاة. على العكس من الكنائس التي تكون مفتوحة معظم الوقت للسياح. عدد المرتادين للكنائس لأجل التعبد قليل جدا. وجدت أمام إحدى الكنائس في أوسلوا ملصقات ولوائح دعائية تخبر عن برنامج الكنيسة وبعض الفعاليات على أمل جذب عدد أكبر من الناس. بل إن بعض الكنائس أصبحت تعرض للبيع لعدم وجود من يرتادها. وعموما الكنائس التاريخية تظل اماكن جذب سياحي بالمدن في أوروبا عموما، وغالبا ما تكون هذه الكنائس قديمة فهي تختصر تاريخا طويلا من الأجيال التي مرّت على المدينة. وفي هذه الكنائس من العظمة والأبهة ودقة التفاصيل في البناء والنقوش ما يجعل الزائر يستجيب لعظمة روح المسيح المبثوثة في هذه الكنائس، وهو نفس الشعور الذي صادفته عندما شاهدت الكنيسة الوحيدة في جزيرة سفالبارد وهي آخر منطقة مأهولة في الدائرة القطبية الشمالية. يخلق ذلك الهدوء والسكينة وعدم التزاحم والتدافع بالكنائس نوعا من الخصوصية التي يستطيع ان يستخلصها المتعبد الذي سيتحول تدريجيا إلى متأمل وهو يشاهد التماثيل والمنحوتات واللوحات ورسومات الجدران والسقف وآلة الآرغن ومنبر العظات. كما لو أن روحانية المسيحية تنتقل شيئا فشيئا من عبادة الله إلى تأمّل إبداع الإنسان. يتخلص الإنسان تدريجيا من الطقوس والتضحيات التي يجب أن يقدمها بين يدي الله ليكتفي بتأمل ما يكتشفه من الله في نفسه وفي إبداعه. ولكن في مقابل هذه الكنائس التاريخية، هناك كنائس في الأرياف والقرى البعيدة؛ تثير الشفقة، فلا هي بالجاذبة للسياح ولا الشعب متدين فيرتادها، فهي مقفرة إلا من مقبرة ملحقة بها ربما يزورها عجوز أو عجوزة تحنّ إلى شريك حياتها الراحل.

كانت إقامتنا في هلسنكي لدى مالك من أصول بنغالية، إلا أننا لم نجد في مسكنه ما يشير إلى الدين الذي يعتنقه، وبالرغم أننا لم نلتق به بشكل مباشر، لأنه لم يكن متواجدا بسكنه أثناء إقامتنا، وقد احتفظ بالمفتاح لدى شاب فنلندي يبدو أنهم كانوا على معرفة بحكم الجيرة. اللغة العربية ليست حاضرة بحيث تلفت الانتباه، ونسبة قليلة جدا من السياح يأتون من البلاد العربية إلى اسكندنافيا، ولكن ربما تصادف البعض ممن يتقن التحية باللغة العربية، ولكنه نادرا. وطوال رحلتنا لم نصادف أحدا زار منطقة عربية ما عدا السفينة التي تجولنا فيها لمشاهدة أحد أنهار أرخبيل سفالبارد الجليدية، حيث ذكر لنا مساعد القبطان أنهم توقفوا في أحد رحلاتهم البحرية عند دبي، ولكنه لم ينزل. وبالمثل مع النادل النرويجي بالمطعم الذي كنا نأكل فيه بالجزيرة، حيث فاجأنا عندما خمّن أننا عرب فأخذ يحيينا ببضع كلمات عربية كان ينطقها بشكل جيد، ولدى سؤالي إياه أين تعلمها، أخبرنا أنه عمل في ألبانيا لفترة من الزمان وكان لديه هناك صديق تركي تعلم منه بعض الكلمات العربية. وربما صادفنا بعض الكلمات العربية على بعض المطاعم العربية أو التركية أو الإيرانية مثل كلمة “حلال” أو “شاورما”، ولكن لأننا كنا نطبخ معظم الوجبات الرئيسية فكان ارتيادنا للمطاعم أقل. وقد كنا أنا وأحمد أكثر حرصا على تجربة المطاعم الإسكندنافية نفسها، على عكس حمد الذي كان يفضل البحث عن مطاعم عربية تقدم أكلا حلالا وفق معاييره. بطبيعة الحال لم يكن الأمر سهلا، فحمد يعتمد على خرائط التطبيقات التي يحمّلها بهاتفه، ولكن غالبا لا نصل إليها. فقد تجوّلنا بالسيارة لأكثر من ساعتين في هلسنكي بحثا عن مطعم عربي ولكن بدون فائدة، وقد أصبح ذلك موردا للتجاذب بيننا وبينه. في مدينة غوتنبرغ السويدية تناولنا غداء أحد الأيام هناك، واضطررنا للمشي ساعة نزولا عند رغبة حمد بحثا عن مطعم عربي، وعندما أعيانا البحث تناولنا وجبة ذلك اليوم في مطعم سويدي؛ ولكن فقط أنا وأحمد، أما حمد فقد طوى ذلك اليوم صائما.

حقائق مثيرة عن اسكندنافيا

حسب قائمة فوربس للعام 2016 للأغنياء ممن ثروتهم تزيد على مليار دولار؛ ضمت القائمة من بين (1694) شخص على مستوى العالم: الدانمارك (6)، فنلندا (6)، النرويج (13)، السويد (26). ما يقارب من (19) من هؤلاء ثروته أقل عن مليارين، وأغنى ثري في المجموعة يأتي في المرتبة الرابعة والثلاثين عالميا. وإذا أخذنا معامل جيني لتوزيع الثروة، واعتمادا على بيانات البنك الدولي، فسنجد أن ترتيب الدول الأربع عالميا للعام 2012 من حيث الأقل في المعامل: النرويج (3)، فنلندا (8)، السويد (9)، الدانمارك (16). مع الأخذ في الاعتبار أن الدول الأقل في معامل جيني ستكون الأفضل في الفرق بين الأغنياء والفقراء. وتحوز هذه الدول على أعلى معدلات الضرائب على مستوى العالم، وبشكل عام هناك عمليات معقدة في احتساب هذه الضرائب. أحد الذين نزلنا لديهم في النرويج اعترف أنه لا يعرف كيف تحتسب الضريبة الكلية النهائية، لأن هناك أنواع عدة أنواع من الضريبة، ولكنه يثق بنظام الضريبة في بلاده، فبمقدورهم كشعب أن يسقطوا أي حكومة من خلال الضريبة التي يدفعونها. الضريبة أيضا تختلف من سنة إلى سنة، وبعد الإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي أصبح هناك حد أدنى من التشريعات الضريبية مشتركة بين دول الإتحاد. ولكنها بطبيعة الحال ستختلف من دولة إلى أخرى. وأيضا الضريبة تقسم بين الضريبة المحلية والضريبة التي تدفع للولاية والضريبة التي تدفع للحكومة المركزية. الضريبة على الدخل تقسم إلى مستويات حسب مستوى الدخل، وفي حدها الأقصى حسب أرقام 2015؛ تصل في الدانمارك إلى (51) بالمئة، وفي السويد إلى (60) بالمئة، وفي فنلندا إلى (62) بالمئة، وفي النرويج إلى (48) بالمئة.

وهناك أنواع أخرى من الضريبة منها غير المباشر كضريبة القيمة المضافة وضريبة البضائع المستوردة من دول لا توجد معها اتفاقية الحرية الضريبية، ومنها الضرائب المباشرة غير ضريبة الدخل كضريبة الدخل على الشركات والضريبة البترولية والضريبة على تشغيل مزارع توليد الطاقة الهيدروليكية وضريبة الشحن وضرائب للهبات والميراث وضريبة الممتلكات. بل أحيانا هناك ضريبة يدفعها أعضاء الكنيسة لتشغيل مصاريف الكنيسة، وهي (0.6) في الدانمارك، و(0.8) في فنلندا. ولكن من يدفع هذه الضريبة هم فقط الأعضاء في الكنيسة، وبمقدورهم التوقف عن دفعها بالانسحاب من عضوية الكنيسة. بطبيعة الحال أعضاء الكنائس يستفيدون من بعض المزايا التي تقدمها الكنيسة كما في حال التعميد والزواج ومراسم الوفاة، والعناية بالمقابر. ولعل هذا السر في أن المقابر الملحقة بالكنائس جميلة ومنظمة. إكرام الإنسان حيا وميتا. ينص قانون الأديان في فنلندا مثلا على إمكانية أن يستقيل الإنسان من عضوية الكنيسة التي ينتمي إليها في لحظة، وفي ظل هذا القانون تم تدشين موقع إلكتروني منذ (2003) يستطيع الأفراد التقدم بكل سهولة لطلب استقالة من عضوية الكنيسة، ومنذ ذلك الوقت لغاية (2015) أقدم ما يقارب نصف مليون فنلندي على الاستقالة من هذه العضوية. تسائلت مرة أمام أحد الدانماركيين عن الضريبة العالية؛ أليس مزعجا أن تشاهد نصف دخلك يطير من بين يديك لصالح الحكومة؟ فكان جوابه أنه إذا كنت تعرف أين ستُصرف هذه الضريبة فلا توجد مشكلة. تستطيع أن تحتج وترفض الصرف الخاطئ، وضرب مثلا في الصرف الخاطئ بالحصة المخصصة حسب الدستور للعائلة الملكية معبرا عن امتعاضه عن هذا التمييز. لماذا لا يعملون بأنفسهم؟ لماذا أنا أدفع رواتبهم؟ سألته وأنا أفكر في داخلي بضريبة (الخمس): ولكن العائلة الملكية تختصر تاريخا طويلا للدانمارك، فهي تمثل إرثا ثقافيا يعرف الآخرون الدانمارك من خلاله. فأجاب معترضا: النظام الملكي له جدوى عندما كان الملك ظل الله في الأرض، أما ولم يعد لله أي ظل، فذلك الإرث ملك لكل الدانماركيين، فهو يتبع الدولة. ثم أخبرنا عن أن الإعتراضات الشعبية تؤتي أكلا فعلا، فأغلب القصور والقلاع التاريخية تتبع الدولة، ومخصصات العائلة الملكية تقلّصت بشكل كبير.

من بين الدول الأربع؛ النرويج هي الوحيدة التي ليست عضوا في الاتحاد الأوروبي، بالرغم أن الدول الأربع كلها أعضاء في منطقة الشنغن. وفيما يخص العملة الموحدة؛ فإن فنلندا فقط هي العضو في العملة الموحدة اليورو. النرويج أيضا هي الوحيدة التي ليست في النموذج الموحد للوحات السيارات. وبشكل عام فإن اللغة الإنجليزية تفي بالغرض في إسكندنافيا، بل ربما نتحدث نحن الإنجليزية أفضل من الكثير ممن قابلناهم، وإن كنا لا نشاهد اللغة الإنجليزية كثيرا في اللوائح واللافتات على الشوارع، على العكس من المواقع السياحية حيث دائما ما تجد اللغة الإنجليزية جنبا إلى جنب مع لغة الدولة، وفي أحيان كثيرة اللغة الألمانية ولغة الدولة الجارة. كما هو الحال بالنسبة للغة السويدية في فنلندا، واللغة النرويجية في السويد. في فنلندا؛ يوجد حضور أكبر للغة الروسية والحقبة السوفيتية. وما يزال يوجد تمثالين لفلاديمير لينين بمدينتين في فنلندا، كما يوجد متحف خاص بلينين في مدينة تامبيره، وحديقة باسمه في مدينة توركو، مع العلم أن أغلب تماثيل لينين الكثيرة جدا حول العالم أزيلت بعد سقوط الإتحاد السوفيتي، وبعضها نقل من الساحات إلى المتاحف، والقليلة المتبقية ما تزال تثير لغطا سياسيا في بعض الدول.

من بين الدول الأربع تعتبر النرويج هي الأغنى بسبب الثروة النفطية التي لديها، مع العلم أن النرويج اتخذت اجراءات وسنّت تشريعات صارمة في استغلال الاحتياطي البترولي الضخم الذي لديها، وذلك حتى لا يقتل النفط الإبداع النرويجي، كما هو الحال لدينا بدول الخليج. وقد لمست نوعا من الحسد والغيرة ربما لدى السويديين تجاه النرويج. فالعامل في النرويج يتقاضى أجرا أعلى بكثير عن كل ساعة عمل مقارنة بالعامل في السويد. علاوة على وجود تسهيلات ومزايا أكبر من الحكومة النرويجية تجاه الشعب بالمقارنة مع الخدمات التي تقدمها الحكومة السويدية. كنت أقول في نفسي أثناء ما كانت السيدة السويدية التي قطنّا معها في مدينة ساندفيل وهي تحدثنا عن ذلك؛ بالرغم من أن المعيشة عموما جيدة جدا في السويد مقارنة بأغلب دول العالم؛ إلا أن الإنسان لا يقنع ودائما ما ينظر لمن هو أحسن منه. ولعل ما لفت انتباهي في الدول الأربع في هذا الجانب أن السائح يستطيع أن يكتفي بالبطاقة البنكية ليدفع كل ما قد يخطر في باله وهو يصرف، فلن يحتاج للعملة الورقية او المعدنية. فحتى مواقف السيارات وسيارات الأجرة والنقل العام وبوابات الرسوم على الشوارع والشركات السياحية يمكنك الدفع بالبطاقة. بل إن أبسط محل أو مقهى؛ ستجد لديه جهاز الدفع بالبطاقة البنكية. وقد كنا في بداية الرحلة قد صرفنا المبلغ المشترك (العزبة) باليورو، وفي نهاية الرحلة استرجعنا أكثر من نصف المبلغ، إذ أن أغلب الدفع كان يجري بالبطاقة البنكية.

ومن الأمور الجميلة التي لفتت انتباهي بالدول الإسكندنافية هي إجازة الأمومة، والتي تصل إلى سنة موزعة حسب القانون بين الأم والأب ومدفوعة بشكل كامل في الدانمارك، وبنسبة 86% في النرويج، وتصل إلى سنة ونص في السويد مدفوعة بنسبة 82 %. الشيء الجميل أن الأب هو الآخر يستحق نصيب من هذه الإجازة وهذا يعكس طريقة تنظيم الأسرة وأهمية الأطفال لدى الدولة. وتوزيع هذه الإجازة يتم بالتنسيق بين الأم والأب. بل يوجد في فنلندا تشريع يقضي بأن تحصل الأم التي ترزق طفلا صندوقا خاصا يسمى صندوق العناية بالطفولة، ويضم ملابس خاصة وأدوات وتجهيزات خاصة بالطفل مع أدلة عن الرضاعة الصحية والعناية بصحة الأم قبل وأثناء وبعد الولادة، ويمكن استبدال ذلك بإعفاء ضريبي أو بمنحة معينة، وعادة ما تبدأ إجازة الأمومة قبل الولادة بشهر. البيت الذي نزلنا فيه بالعاصمة النرويجية كانوا قد رزقوا بطفلة قبل شهرين، والأبوان كلاهما في إجازة وزعوها فيما بينهم فأوّل أربعة أشهر يأخذونها معا، ثم سيتبادلون المدة المتبقية فيما بينهما.

لفت انتباهنا ذلك، ولكن عبّر حمد عن عدم إمكانية تطبيق هذا النظام لدينا بسبب كثرة الإنجاب. الحكومة لدينا تريد من الناس أن يقللوا الإنجاب، بينما في اسكندنافيا الحكومة تشجع الشعب على الإنجاب. الدول الاسكندنافية تقع إلى حد ما ضمن الدول الأقل في معدلات الولادة، فهي حسب بيانات البنك الدولي للعام 2013: الدانمارك (1.7) طفل للأم الواحدة، وفنلندا (1.8)، وكل من السويد والنرويج (1.9). معدلات الولادة في الهند مثلا (2.3)، وفي السلطنة تصل إلى (2.8). وبشكل عام معدلات الولادة في الدول الإسكندنافية أعلى من دول مثل سنغافورة واليابان وكوريا والصين وبولندا وألمانيا وأوكرانيا وروسيا. وحسب الدراسات الدولية فإن تعليم الإناث يتناسب عكسيا مع معدل الولادة لديهن، فكلما ازدادت المرأة تعليما تناقص الإنجاب، والعكس صحيح. ولهذا نجد أن أغلب حملات تحديد النسل تكون موجهة للنساء بتعليمهن وتثقيفهن، وزرع فكرة أنهن ليست مجرد وعاء لمني الرجل.

لا أظن أن المرأة يمكن أن تكون محسودة من بقية النساء عند بقية الشعوب كما هي في الدول الإسكندنافية، فوضع المرأة فيها أقصى ما يمكن أن تحصل عليه النساء على مستوى العالم من حرية وعدالة ومساواة، فلو أخذنا مقاييس العنف ضد النساء فسنجد وحسب دراسة أجرتها منظمة الصحة العالمية في 2013، يبلغ المتوسط العالمي للعنف ضد النساء (30%) ينخفض إلى (23.2%) في الدول الغنية وبينها الدول الإسكندنافية، ويرتفع إلى (37.7%) في دول جنوب وغرب أفريقيا و(37%) في دول غرب المتوسط. والدعارة بما فيها من امتهان وابتذال لجسد المرأة؛ مقننة في الدول الإسكندنافية؛ وفي أوروبا عموما؛ ضمن تشريعات وقوانين كثيرة لكي لا تتحول إلى شكل من أشكال التجارة بالبشر. بيوت الدعارة غير مسموح بها قانونيا في الدول الإسكندنافية، وكذلك القوادة. شراء الجنس مقابل المال هو أيضا يعتبر جريمة في كل من السويد والنرويج، وهو عموما أمر قبيح جدا في الدول الإسكندنافية، لهذا فالدول الإسكندنافية لا يُنصح بها لمن يبحث عن السياحة الجنسية. وفعلا لا تكاد تجد عاهرات في الطرقات الليلية في هذه الدول، وإن وجدت فغالبا ستكون من دول أوروبا الشرقية. وحسب مؤشر المساواة بين الجنسين الذي يرعاه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، جائت الدول الإسكندنافية الأربع ضمن أعلى عشر دول في المؤشر للعام 2012: السويد (2)، والدانمارك (3)، والنرويج (5)، وفنلندا (6). الحركة النسوية في السويد انطلقت منذ بداية القرن التاسع عشر، وفي النرويج بدأت منذ منتصف القرن نفسه، وفي الدانمارك بدأت منذ العام 1870. حصلت المرأة في فنلندا حق التصويت في 1906 لتكون أول دولة في أوروبا في هذا الشأن. المرأة النرويجية حصلت على حق التصويت في 1911، وفي الدانمارك منذ 1918. تمثيل المرأة في البرلمان يصل إلى (45%) في السويد في 2014، ونفس النسبة بالدانمارك في 2000. أكثر من نصف الكابينة الوزارية بالسويد للعام 2015 تعود للنساء. وبشكل عام كما قلت؛ وضع المرأة في إسكندنافيا ضمن أفضل الدول عالميا إن لم تكن الأفضل مطلقا.

التنقل بين الدول الأربع حر بدون مراكز حدودية، فلا تشعر بأنك خرجت من دولة ودخلت دولة أخرى إلا من خلال برنامج الخرائط الجغرافية في المتصفح بالهاتف النقال، وإن كنت ممن فتح الله عليهم فك الحرف الإسكندنافي؛ فمن خلال اللوائح المرورية ومسميات المناطق. المرة الوحيدة التي احتجنا أن نظهر فيها جوازات السفر كانت في السفينة التي أبحرنا فيها من مدينة فازا الفنلندية إلى مدينة أوميه السويدية عبر خليج بوثنيه. ومن الأشياء المدهشة التي قرأت عنها وجود ملعب للجولف بين مدينتي تورنيو الفنلندية ومدينة هابراندا السويدية. الملعب به 18 حفرة يقع نصفها في فنلندا والنصف الآخر بالسويد، وذلك للدلالة على تجربة تلاشي الحدود بين الدولتين بعد تشكل الاتحاد الأوروبي. شبكة الطرق في اسكندنافيا مرتبطة بشبكة الطرق الأوروبية، وهي شبكة دولية قامت بإعدادها لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأوروبا التابعة للمجلس الإقتصادي والإجتماعي للأمم المتحدة، وتضم هذه اللجنة 54 دولة. فبالإضافة إلى الدول الأوربية؛ تضم اللجنة كافة جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق وكندا والولايات المتحدة وإسرائيل وقبرص وتركيا. ويعرف هذا النظام بالشبكة (E) الدولية للطرق. وهي عبارة عن مسارات قد تمتد للآلاف الكيلومترات لتعبر عدة دول، ويتم تسميتها (E1, E2, …) وتجدها في الشوارع بشكل دائم. في بعض الدول يتم استخدام هذا النظام الدولي بالإضافة إلى النظام المحلي في تسمية الطرق، وفي بعض الدول لا يوجد سوى هذا النظام. ويتم تصنيف هذه الطرق على مستويات حسب حجمها. فالطرق الرئيسية الكبرى تحمل الأرقام من (1) إلى (129)، وعادة ما تحمل الطرق ذات الاتجاه شمال جنوب الأرقام الفردية، والطرق ذات الاتجاه شرق غرب الأرقام الزوجية. مسار الطريق لا يكون بريا فقط، بل قد يكون بريا وبحريا في الآن نفسه. فمثلا الطريق (E18)؛ وهو أحد الطرق التي استخدمناها؛ ويبلغ طوله حوالي (1800) كلم يمتد من شمال آيرلندا مرورا ببلفاست ثم اسكوتلاند وصولا إلى نيوكاسل بإنجلترا، ثم يصبح المسار بحريا ليصل إلى مدينة كريستيانساند النرويجية ويستمر إلى أوسلو ثم استوكهولم، ويعود للبحر ليصل إلى مدينة توركو الفنلندية ثم هلسنكي لينتهي عند الحدود الغربية لمدينة سانت بطرسبرغ الروسية. بطبيعة الحال المسار البحري لا يعني أن الشارع مشيد في البحر على شكل جسر طويل، بل إن السيارات يتم شحنها في عبارات بحرية تخدم الطريق في كلا الإتجاهين. إن معرفة هذا النظام في ترقيم الطرق الرئيسية في أوروبا مهم جدا في رأيي لمن يفكر في التنقل بالسيارة عبر دولها، وهي عموما طريقة محايدة في تسمية الطرق، إذا لا تحتاج إلى معرفة أسماء الشخصيات والأماكن والمكونات الثقافية للبلد كما هو الحال عندنا بالخليج وبكثير من دول العالم.

الثقافة الإستهلاكية ليست بارزة كثيرا في الدول الإسكندنافية كما قد تبدو من الخارج، ولكن عند دخول المنازل ومعايشة الأسر تكتشف أن الشعوب الاسكندنافية لا تقل استهلاكية عما لدينا نحن في سلطنة عمان وفي دول الخليج العربي عموما. ففي البيوت التي نزلنا فيها؛ عندما أدخل المطبخ أو الحمام؛ أجد فيها بضائع استهلاكية كثيرة ومن ماركات مختلفة. أنواع الشامبوهات والكريمات ومواد العناية بالبشرة تكون كثيرة بالنسبة للفرد الواحد بالمقارنة مع ما أستخدمه أنا في العادة. الأمر نفسه في المطبخ حيث تجد الكثير من الأدوات والمواد والماركات سواء بثلاجة المنزل أو في الخزانات والحاويات، والأمر نفسه مع الملابس التي عادة ما تكون ثقيلة بسبب البرد، وكذلك الأجهزة والأدوات الخاصة بالتسلية والترفيه ولعب الأطفال، بحيث لا أستطيع أن أجد فرقا مهما بين الثقافة الإستهلاكية بين هذه الشعوب وشعوب الخليج. ولو أخذنا في الاعتبار حجم النفايات التي يخلّفها الفرد كمعيار للمقارنة بين السويد كمثل وبين السلطنة فسوف لن نجد ذلك الفرق الكبير، ففي الدولتين يحوم الرقم حول (450) كيلوجرام للفرد سنويا؛ يزيد أو ينقص قليلا من سنة لأخرى. غير أن الميزة التي لدى السويد وليست لدينا هو تدوير المخلفات. ففي وقت تصل نسبة تدوير مخلفات المنازل في السويد إلى (99%) فإنها لا تكاد تذكر معنا بالخليج. مع العلم أن اللوائح الدعاية الضخمة في الطرقات وفوق أو على واجهات المباني يكاد يكون شبه معدوم في الدول الاسكندنافية، وهذا مؤشر رائع جدا على وجود إلتفاتة إلى ضرورة التقليل من ابتلاع الرأسمالية الإستهلاكية لروح الإنسان وتحويله إلى مجرد مردم لبضائع الشركات الصناعية الكبرى.

Visits: 26