في فلسفة السفر
* محمد العجمي
في السفر إيقاظ وتنشيط وإعادة توليد للروح؛ ليست تلك الروح التقليدية الخاضعة لسلطان المكان؛ فتدخل وتخرج من الجسد، وتصعد إلى السماء وتهبط، ولا تلك التي هي من نفخ الإله، ولا الجسم الشفاف الذي يطوف في المكان. وإنما تلك الروح التي تجعل من إنسان ما إنسانا. إنها التعريف للإنسان. إنها تلك الوحدة المطلقة التي لا نستطيع أن نتعامل معها سوى لغويا، وكلما بالغنا في وصفها كلما أصبحنا عنها أبعد، ذلك ﻷن اللغة تأخذنا في عوالم التجريد التي لا تطاق، والروح أقرب إلينا من كل قريب. ولا تدرك إلا بالصمت والتأمل الذي نركن إليه في لحظات ترقب الجمال؛ لحظات الدهشة واللذة والحب والرحمة. هي الروح التي نضطر أن نشير إليها لأنها أقصى ما يمكن أن يتجرد في هذا الوجود، فلا مطلق أكثر إطلاقا منها، ومن صفات المطلقات أننا نتمثلها صوريا أولا، ومن ثم ننزلها من عرشها لتعيش بيننا ككائن يتحرك من حولنا لنطلبه، فساعة يقترب وساعة يبتعد. ولو تخلصنا من هذا الميول الفطري في تنزيل المطلقات؛ لوجدنا أن هذه الروح هي نفسها اللغة، وهي نفسها الوعي، بل وهي نفسها هذا الجسد الذي يبلى ويفنى، إذ لا يوجد شيء زائد يمكن أن نسميه روحا. ولو وجد فسوف لن يكون سوى هذه الروح التي تتولد وتتكثف في لحظات الترقب.
في السفر يصبح الإنسان فجأة كائنا روحيا بامتياز، إذ تتجلى له ويعيش كل اللحظات التي تتقاطع فيها هذه الروح مع عالم الزمان والمكان الذي نعيشه. ففي السفر دهشة تتجلى في كثرة ما يكتشفه الإنسان ﻷول مرة، ولذة يستمتع بها الإنسان من كونه يستمثل ويضيف ويعجب ويلتقط مشاهد وأصوات وأذواق وثقافات يكتشفها عيانا بجسده الحي. في السفر يتعلم الإنسان تماما بنفس الطريقة القديمة التي كان يتعلم بها وهو طفل؛ بالمشاهدة والصمت ثم التساؤل. الأطفال كائنات روحية من الطراز الأول، وهكذا يصبح الإنسان في السفر؛ يعود طفلا يلفت انتباهه أي شيء. وكل شيء يراه ويسمعه سيبدو لديه أنه يستحق التجربة. السفر رحلة روحية ومعراج إلى الملأ الأعلى القابع في مثاليات الكائن البشري.
لم ألتفت إلى ذلك عندما خضت تجربة السفر ﻷول مرة في صيف 2005، ذلك أني كنت ذهبت إلى السعودية أكثر من مرة قبل ذلك، فارتبط السفر لدي بالسفر الديني ضمن جماعة مؤتلفة تجعلك أبعد ما تكون عن السفر الذي جربته ﻷول مرة في رحلتي الدراسية القصيرة إلى أستراليا ذلك العام. السفر يجب أن يكون قرين الغربة، وبدون الغربة فلا يكاد يسمى سفرا إلا من حيث الشكل. الغربة عندما تعاشر أناسا لا تعرفهم من قبل ولا يشبهونك في شيء إلا كونهم بشرا مثلك. هذه الغربة هي التي تجعل الإنسان يقترب أكثر من عالمه الداخلي الذي يجده في السفر. في تلك السنة كان كل شيء بالنسبة لي جديدا. ﻷول مرة أركب الطائرة، ولأول مرة أسكن في فندق، وﻷول مرة أقيم مع عائلة أجنبية، وﻷول مرة أزور سنغافورة وأستراليا ونيوزلندا، وﻷول مرة أجرب مطارات عالمية، ولأول مرة أستخدم القطار والسفينة والنقل العام، وﻷول مرة أتحاور مع مسيحي ولاديني حول الدين، وﻷول مرة أجرب ثقافة المدينة الغربية، وﻷول مرة أدخل كنيسة ومعبد بوذي، وأزور مدرسة خاصة مسيحية وأشاهد نهرا. أشياء كثيرة جدا أشاهدها أو أجربها للمرة الأولى.
هذه الدهشات كانت تمر علي فأكتشف عوالم جديدة؛ عوالم بشر كثيرين لهم حياتهم الخاصة، وطرقهم في التربية والتعليم واحترام الوقت والنظام والنظافة العامة، وأنماط حياة وعلاقات اجتماعية مختلفة، وأساليب ترفيه وتسلية منزلية ومدرسية وعامة. ثقافة الكتاب والمكتبات كانت مدهشة، الفعاليات السياحية الثقافية كانت كذلك، وبالمثل مع ثقافة المشي وركوب الدراجات الهوائية واستخدام النقل العام والبحري، والحدائق العامة والمنتزهات الطبيعية. كل هذه المواقف والمناظر والحالات كنت أقارنها مباشرة بثقافتي المحلية وبعادات وممارسات وتقاليد بلادي. وهذه المقارنات كانت كفيلة بأن أعرف ما الذي ينقصني، وكيف أعالج هذا النقص؟ المقارنة نفسها نمط بدائي في التفكير. أن تقارن يعني أنك تقيس شيء بشيء مثله وليس بمعيار منطقي سليم، ولكن أهمية المقارنات أنها هي التي تنتج؛ وبعد طول مران وتجارب وخبرة؛ المعيار الناجح. المقارنات البدائية تكون مقارنات دهشة؛ أيها أفضل؟ بماذا يمتاز طرف على طرف؟ أيها أجمل؟ إنها مقارنات لا تخرج عن نطاق وصف الشكل الخارجي. ومع ذلك فإنها جميلة بسبب براءتها.
ما الذي تعنيه الغربة بالنسبة للروح؟ إنها تعني أن الأبواب التي ننطلق منها نحو الواقع أصبحت مغلقة. منافذ إخراج المشاعر والأحاسيس والحاجات والرغبات لم تعد كما كانت، فهناك عوائق جديدة أصبحت تحول دون تفعيل قنوات الاتصال مع العالم الخارجي. لا يعود الطفل يسأل بنفس الأمان والإلحاح عندما يكون في بيئة جديدة، وعندما يتجاسر على الطلب فسيكون طلبه ملفوفا بإيحاءات ورموز ورسائل غير مباشرة تلفت الإنتباه إلى أنك أيهذا الذي أسألك؛ أنت أهم بالنسبة لي من الطلب نفسه. الغريب يخاطب عاطفة الناس أكثر من حسهم المنطقي والعقلي، وهو يحتاج من اهتمامهم أضعاف ما يحتاجه من عطاءهم المباشر والقصير، ولهذا يتردد كثيرا؛ إذ يعلم أن الناس لن تندمج معه هذا الإندماج الذي يطلبه إلا بعد أن تختبره وتجربه مرات ومرات. لهذا يعتاض عن ذلك بأن يعيش أكثر مع ذاته، ويقترب من وعيه. الغربة رد فعل انعكاسي على الذات، ومحاولة للإستعاضة عن إخراج المشاعر بإدخالها. المشاعر تعبيرات الحياة، والنهاية السلوكية والمادية لسلسلة من التفاعلات الداخلية الناتجة من احتكاك وعي الإنسان بالخارج. هذه المشاعر تصل بين الذات والواقع، وعندما تنكفئ على الداخل فإنها تصل بين مكونات الذات نفسها.
في السفر يخاطب الإنسان عاطفته أكثر من عقله، يحاول الإقتراب منها والإستئناس بها، ويطلب منها أن تمده بالأمان والحضن. إنه يريد أن يحضن نفسه أكثر. وهذا التفرغ للذات يكشف مجاهيل كثيرة كانت غائبة عن الوعي، فيصبح الإنسان فجأة شاعريا وأن لديه فيض طاقة يريد أن يصدرها ويبثها من حوله. في السفر؛ لا يجد الإنسان متسعا من الوقت ليلوم نفسه ويوبخها، فهو أكثر استعدادا ﻷن يمنح نفسه ما تريد كنوع من مكافئته لها. كما تكون سلطة العامل الثقافي عليه في مستواها الأدنى، وهذا يجعله يعيش حقيقته وذاته كما هي أو يكاد؛ كائنا حرا لا يحب كثرة القيود واللاءات، ويعشق الإستكشاف والمغامرة والأسئلة. وهكذا يخترق الإنسان أعماقه ويعيد بناء الجسور الداخلية التي تحطمت بفعل الضربات والصدمات مع الخارج، ويدخل في رحلة سلام داخلي نادر، لا يعكره إلا الأحكام المسبقة والتأثير الثقافي. كما لو أن مستوى العائد على وعي الإنسان بذاته والمترتب على السفر؛ يتدرج في مستويات ثلاث: سفر مادي ثم سفر ثقافي إلى أن يصل إلى السفر الروحي.
في السفر المادي تكون الغاية غالبا متعلقة بتحقيق مكاسب مادية على شكل صفقات وإشباع غرائز مؤقتة، وفي السفر الثقافي تكون الغاية تبشيرية وتمدد لسلطة الجماعة المسيطرة على الوعي. أما السفر الروحي فهو مغادرة كل هذه الغايات المؤقتة والمرتبطة بالمحتوى المكتسب من الوسط، وتوجيه الذات نحو الإكتشاف والتعلم والتجربة للجديد، وهذا السفر وحده هو الذي يجعل الإنسان طفلا؛ أي يجعله كائنا روحيا. وهنا فقط؛ تتجسد الحرية في صورتها الحقيقية كوحي يقود الإنسان من يده ليأخذه في عوالم الدهشة. ولكن؛ ما الذي تمثله الحرية في هكذا نوع من السفر؟
عندما وقفت عند تمثال أسد البحر؛ الرمز السياحي لسنغافورة في سفري الأول؛ طافت بمخيلتي كل النوافير التي شاهدتها من قبل، وفي الوقت الذي كان عقلي يعقد مقارناته بين هذه النافورة التي تخرج من فم هذا التمثال العجيب ذو السمكة برأس الأسد؛ كانت هناك آلة سينمائية داخلية تنشط في داخلي لترسم صورا جديدة عن عمال كانوا يشتغلون في ذلك الموقع يوما ما قبل سنوات، وعن عشاق كثر طافوا بهذا المكان قبلي والتقطوا صورا هناك كما كنت أفعل، وعن أعمال الصيانة التي تمت وتتم لهذا التمثال، وعن الأطفال الذين كنت شاهدتهم للتو تحت الجسر الواقع قبل الشارع المؤدي لبوابة حديقة ميرلايون التي ينتصب فيها هذا التمثال؛ إذ كانت تلك اﻵلة السينمائية الافتراضية ترجع الزمن لتجعل أولئك الأطفال يطوفون بالمكان حيث أقف مدهوشين تماما بهذا التمثال الغريب ويتسائلون كما كنت أتسائل عن سر هذا الأسد بجسم السمكة وقصته. هذه الآلة السينمائية بالنسبة لي هي الحرية.
الحرية ليست لحظات الإختيار التي تمر علينا عشرات المرات يوميا، ولا لحظة اتخاذ أي قرار، بل هي لحظة توليد هذه الخيارات. هي ما يرتسم أمام الذهن بلا وعي ولا شعور في كل لحظة نشاهد أو نسمع أو نتذوق أو نتفكر. نحن لسنا أحرار عندما نختار من بين عدة اختيارات؛ بل أحرار عندما تستطيع أدمغتنا إنتاج هذه الإختيارات، واللحظة التي نعتقد أنه لا يوجد أمامنا أية اختيارات؛ سندرك حينها أهمية الحرية بالنسبة لنا. تقييد الحرية يبدأ من اللحظة التي نبرمجه بحيث لا ينتج إلا عدد محدود جدا من الإختيارات لكل قضية حياتية تهمه.
لا يكبر الإنسان حتى تتعمق له جذور بالأرض التي نشأ عليها، ولطالما تحدّث معي أصدقاء من أبناء أعضاء السلك الدبلوماسي بأن جذورهم في الأرض ليست مثل الآخرين، ذلك ﻷنهم قضوا معظم طفولتهم متنقلين بين بلاد مختلفة؛ فلا تكاد تنمو لهم جذور بأرض حتى يغادروها، فإذا انتهى بهم المطاف إلى أرض الأجداد؛ أصبحت فكرة الجذور هي همهم الأول. لا يكون للسفر طعم يصنع لدى الإنسان فرقا مالم تكن له جذور بأرض معينة، بل ولا يكون للحرية معنى بدون أن تكون مقيدة بالجذور. حتى الحب؛ هو الآخر مدين لجذور الإنسان كمصدر أساسي لطاقته وقوامه. تلك الجذور التي يمتص الإنسان منها كينونته؛ تتحول لتصبح بوصلة يحملها الإنسان في روحه لتشير دائما إلى الجهة التي ولد وترعرع وشب فيها. وبالقدر الذي يجتهد الإنسان في حياته في طلب الحرية والتخلص من القيود؛ هو يمد جذوره أكثر وأكثر في أعماق أرضه، تماما كما لو أن سفره وترحاله هو تثبيت لجذوره أكثر. وحتى لو هجر موطنه الأول فسنجد أنه يجتهد في أن يستنسخ ما يستطيع من وطنه الأول في وطنه الجديد، فهو حر بمقدار ما يشعر بمركز الدائرة التي يجول ببصره منه، ولو حاول يوما أن يطير كملاك ويتخلص من قبضة مركز الدائرة؛ فسيخسر أول ما يخسر؛ متعة أن يطأ الأرض وأن يشم هواءها ويلمس أشجارها، ومن ثم سيخسر كل لذة كانت تسري في روحه من حب وشوق ورغبة وعناق وتملك وذكرى.
يرتبط السفر كذلك بشعور آخر عميق لدى الإنسان لا يفتأ يتردد عليه، ويزداد هذا التردد في السفر. وهو الإحساس بالنهاية. يتضاعف هذا الشعور خلال السفر لأنه مرتبط بفكرة الحافة التي يجب أن يعود الإنسان أدراجه بعيدا عنها. وبالرغم أن الحافة غالبا ما يطل الإنسان منها على مشهد واسع وعريض، إلا أنه لا يمكن أن يستمر في البقاء هناك، فهو النهاية يجب أن يعود إلى مركز الدائرة التي رسمها له القدر أو ربما استطاع هو أن يتدخل قليلا في رسمها. مركز الدائرة ذاك هو الوطن. كما لو أن الإنسان في كل مرة يدفعه الفضول للوصول إلى حدود الدائرة ثم لا يلبث أن يعود، وهو في كل مرة يصل إلى جزء معين من طرف الدائرة، ولا يفكر في العودة إلى ذلك الجزء لأن هناك أجزاء أخرى يحتاج أكثر للوصول إليها. عندما سافرت للمرة الأولى في حياتي، قضيت في تلك السفرة سبع أسابيع في مدينة بريزبان الأسترالية، كنت أفكر بشكل جاد جدا في أن أعود إليها بالسنة التالية مع زوجتي وابنتي التي أنتظر ولادتها. مضت الآن أكثر من عشر سنوات ولم أعد لتلك المدينة، فدائما هناك أمكنة أخرى تجتذبني أكثر. لهذا أؤمن كثيرا بقاعدة السفر التي تقول: عندما تسافر إلى مكان بعيد تزوّد وتشبّع من ثقافة ذلك المكان قدر ما تستطيع فإنك لن تعود إليه. إنها النهاية التي تجعل الإنسان يتلبّس بعمق بفكرة أنه محدود، فالعمر والمال والصحة لا تسمح بتكرار السفر لنفس المكان. ولا تتضح هذه النهاية كما تتضح في لذّة التقاط الصور، والشعور بأن كل لحظة وكل مشهد هو صالح للإلتقاط كصورة. وهنا تشتبك الذاكرة بالنهاية، فالذاكرة التي ستتبخر بعد الموت يجب توثيقها عبر الصور.
*كُتب هذا المقال في وقت ما من 2015، ولكن لم ينشر من قبل.
About Author
Visits: 217