أبريل 26, 2024

براكسيس رمادي

حيث الفكرة الحرة تقود التغيير

مفهوم التسامح مع الالتباس وتطبيقاته

محمد العجمي*

تحدّثت فرانكل برونشفيك في (1949) عن مؤشر استخدمته في دراسة قابلية الأطفال للتسامح والتساهل مع الغموض والالتباس، وقياس مدى تمركزهم على ذواتهم عندما يوضعون في مواقف تتسم بالغموض [1]. استخدمت برونشفيك المؤشر في كتابها المشترك مع تيودور أدورنو والصادر في (1950) عن “الشخصية الاستبدادية”. وقد توالت الدراسات بعد ذلك بشكل مكثف على مفهوم “التسامح مع الالتباس” [2]، وأصبح مدخلا لدراسة العديد من الظواهر في حقول علم النفس؛ كعلم النفس المعرفي وعلم النفس الاجتماعي وفي الادارة والتسويق. بالاستناد إلى أعمال فرانكل؛ سيطوّر ستانلي بدنر مقياسا للتسامح مع الالتباس في (1962)، وسيستخدم هذا المقياس للتمييز بين الشخصية المتسامحة مع المجهول التي تميل إلى اعتبار الالتباس شيئا مطلوبا ومرغوبا، وبين الشخصية المتشددة مع المجهول والتي ستميل إلى اعتبار المجهول تهديدا لها [3]. تتمايز الشخصيتان في أمور كثيرة، فالشخصية المتسامحة مع الالتباس في بحث مستمر عن اليقين، وتميل إلى تبسيط المعقد عبر التصنيف إلى مجموعات، وتكون قلقة تجاه الأبيض والأسود؛ إذ يجب أن تكون التمايزات واضحة، كما أنها تلتفت إلى التناقضات عندما تجتمع في الشخصية؛ لهذا تحذرها بنفس القدر الذي تحرص على الاهتمام بها. وهكذا تكون منفتحة ومغامرة وتندفع لتجربة الخطر، وتستطيع التعايش مع الأوضاع الغامضة لفترات أطول. وعلى النقيض من ذلك؛ الشخصية المتشددة مع الغموض والالتباس، فهي ترفض هذا التردد، وتعتبر الالتباس خطرا على تعريف الأشياء، وبالتالي على إعادة استخدامها. تميل للحتميات، ولا تنشغل بالأبيض والأسود لأنها لا ترى إلا أحدهما. تمتدح الثبات واليقين، وتخشى الاحتمالات والترجيحات.

يستخدم جيروم كيغان مفهوم التسامح مع الالتباس في كتابه “الثقافات الثلاث”؛ وهو يناقش اختلاف الحالات النفسية بين المشتغلين بالعلوم الطبيعية والاجتماعية والانسانية، حيث يتحدث عن التفاوت الطبيعي بين الناس في مدى تسامحهم مع الابهام والغموض، فيشير إلى أن هذا يؤثر في خياراتهم وقراراتهم، ففي الوقت الذي لا يشكل الابهام إزعاجا لبعض الشباب فتجده يستقر في خياراته المتعلقة بالمهنة والأسرة والدراسة والمستقبل؛ نجد آخرين يتّسمون بالحساسية تجاه الغموض فيتنقّل كثيرا بين التخصّصات والاهتمامات ويميل لتجربة خيارات أكثر ووظائف متنوعة [4]. قريبا من ذلك ما نجده في التفاعل مع الاختلافات في الحياة الاجتماعية اليومية، حيث نستطيع أن نميز بين نمطين من السلوك؛ السلوك الراضي المحافظ والسلوك الرافض الثائر. في الأحوال العادية التي يعيش فيها كل فرد خصوصيته بدون تدخلات وتقاطعات؛ الجميع تقريبا محافظ، ولكن ما إن يبدأ التفاعل الاجتماعي حتى ينقسم الفعل الاجتماعي إلى هذين النمطين من السلوك؛ الموافق والمعارض. النمط الموافق يرفض التغيير لأنه يحذر الأسوأ في القادم، فهو لا يستطيع التعامل مع الغموض، والنمط المعارض يريد التغيير لأنه يرى الأسوأ في القائم، ويريد اختبار أوضاع جديدة. في واقع الأمر أن الجميع يتغير في نهاية المطاف؛ ولكن يتغير وفق هواجسه. لهذا يقع التصادم؛ يبدأ كتصادم أفكار وتصوّرات، ولكن قد يتحول إلى عنف متبادل عندما لا يكون الحوار بديلا متاحا.

هذا التفاوت السيكولوجي يؤثر في اتجاهاتنا حيال النقد، فالبعض منا لا يشعر بوجود الغموض أو ما يستدعي التدخل إلا في حالات خاصة جدا ونادرة، وإذا ما لاحظ الالتباس انتفض ثائرا وغاضبا لإعادة الأوضاع إلى حالها من قبل، في مقابل آخرين تكون قابليتهم لاكتشاف الالتباس والتناقضات أعلى بسبب فضول الواحد منهم تجاه المجهول، فيميل للاعتراض على القائم والرفض للسائد. إن إدراك هذه الفروقات يعزز قابلية التنوع الذي يصنعه النقد، وفي نفس الوقت يجعل الاتجاه العام نحو التعامل مع الالتباس والكشف عن الغموض؛ أمرا ممكنا، وشيئا فشيئا يتحول الاختلاف إلى حركة نقدية تدفع بالمجتمع إلى الأمام. النقد يستدعي أن يستطيع المرء البقاء في حالة التباس لفترات أطول. يعيش مع الأسئلة أكثر مما يعيش مع الأجوبة. ينتقل من القلق بخصوص الغموض إلى الاستمتاع بالغموض. يدرب حواسه وينمّي ملكاته على أن الشك هو كل الطريق أو معظمه، وأن اليقين هو حالة افتراضية موجودة فقط بنهاية الطريق. بنهاية الرحلة. ولا نحتاج إليه إلا بمقدار ما يساعدنا على المزيد من البحث عن اليقين. النقد ينمو في ظل التسامح مع الالتباس، ويخبو في ظل عدم التسامح مع الالتباس. هذا التسامح مع المجهول يسمح بتعدد الاجابات ويشجّع على البحث عن طرق جديدة للحقيقة. التفكير بطريقة الاحتمالات غالب عند الأشخاص ذوي المستوى العالي في مؤشر التسامح مع الالتباس، والعكس صحيح. وهذا ما يجعل المفهوم أو المؤشر مرتبط بالإبداع بشكل وثيق؛ كون الابداع لا يتحقق ما لم تكن البيئة متسامحة مع التعدد؛ البقاء في المنطقة الرمادية بين الأبيض والأسود.

وليكون الفرد متسامحا مع المجهول، فإنه يحتاج ليكون قادرا على البقاء محايدا لفترة أطول؛ يؤجّل إصدار الأحكام قليلا. يركز اهتمامه على البيانات المتوفرة أو التي يمكن توفيرها. كذلك يدرّب صبره على التعامل مع اللخبطات، ويعوّد نفسه على البقاء في ظل الفوضى واللانظام؛ رفض ومقاومة إرادة إخضاع الأشياء للترتيب الضروري. الابداع يتولّد في هذه اللحظات أكثر مما يحصل عندما تكون الأشياء منتظمة ورتيبة بشكل قهري. الوقت هنا عامل حاسم؛ فالعجلة والضيق بالوقت يقلل من قدرتنا على التسامح مع الغموض. لذا يجب التعامل مع الوقت بأريحية؛ لا بأس بالانتظار والتريّث، فالمزيد من الأفكار ستأتي مع الوقت. تجربة الأسئلة واللعب مع الأفكار يحتاج للمزيد من الوقت. نحن مجبولون على التفكير مع الجماعة ورفض الغموض، ولكن تجربة الخروج على ذلك ومحاولة ملاحقة المجهول؛ مما يستحق التجربة فعلا، فلا إبداع بدون قليل من الغموض. التسامح مع الالتباس مرتبط أيضا مع الفضول؛ لا بدّ أن نبقى فضوليين إلى أكبر قدر ممكن لكي ترتفع قابليتنا للتساهل مع المجاهيل الكثيرة فينا ومن حولنا. ليس الالتباس وحده ما يبعث على الفضول. التعقيد في بعض الأحيان يشكل محفّزا للفضول، وغير المألوف أيضا يثير الفضول. الفضول نفسه مدخل مهم جدا في النقد، إذ لا يتأتى لنا أن نوجّه أسهم النقد لموضوع ما؛ ما لم يسبق ذلك فضول معين. الفضول نفسه شكل من أشكال الرغبة في أن يكون هناك معنى واضحا أمامنا للأشياء؛ غير أن هذا الفضول يتأثر بالظروف المحيطة، فقد يزيد أو يخبو تبعا لهذه الظروف. فمثلا ليس من السهل أن نستمر في فضولنا مع وجود ضغوطات خارجية أو داخلية مزعجة؛ كما هو الحال عندما نحاول إجراء تجربة في المختبر في ظل أصوات خارجية تتحدث عن كارثة ستقع، أو كأن يكون الوقت المعطى لنا للتفكير ضيقا جدا؛ يجب بعده تسليم العمل. أو ما يقع أحيانا عندما نعاني أنفسنا من مشكلة ظرفية أو إرهاق أو مرض؛ فيضغط لتقليص الوقت المتاح للتفكير. وهكذا فلا يكون الوقت كافيا لنموّ الفضول واعتماله داخليا للدفع بالمزيد من الوقت لإنضاج المعنى الذي سنمنحه للأشياء.

الفضول كظاهرة نفسية؛ صار موضوعا بحثيا لعلماء النفس والاعصاب خلال السنوات القليلة الماضية، حيث يسعى العلماء لفك طلاسمه، أملا في الوصول إلى نظرية علمية متكاملة تجيب عن الأسئلة الكثيرة المثارة حوله. علما أن نظرية كهذه ما تزال غير موجودة [5]. ارتبط الفضول لدى الفلاسفة وعلماء النفس بالرغبة في المعرفة، وهي رغبة تشتعل أكثر مع الوعي بالجهل ونقص المعرفة. يقيم د. إلهان إنان في كتابه “فلسفة الفضول” المنشور في ٢٠١٢ رابطا بين الفضول والوعي بالجهل، فلا دين ولا علم ولا فلسفة ولا فن بدون أن يسبقها وعي بالجهل، والوعي بالجهل هو الدافع الأولي للمعرفة؛ الوعي بالجهل يحرك الفضول الذي يبعث على التساؤل، ومن التساؤل تبدأ قصّة المعرفة. الفضول يجب أن يكون متعلقا بمعطى سابق؛ وخصوصا في أشكاله المتقدمة والناضجة، وهذا الفضول المتقدم يسميه إنان “فضول الأحوال”؛ أي أنه ناظر إلى حالة ووضع وظرف معرفة سابقة، في مقابل فضول أكثر بدائية لم يتشبع بالمحتوى بعد، وهو “فضول الأشياء”؛ ينظر إلى ماهية الأشياء. فالسؤال: من فعل هذا؟ ينتمي إلى فضول الأشياء بينما السؤال: هل زيد فعل ذلك عن عمد؟ هو من فضول الأحوال. أهمية هذا التمييز يكمن في ربط الفضول بالوعي بالجهل. فإدراك أننا نجهل قد يكون في مستوى ناضج؛ نحن نعرف شيئا، ولكن ما يزال أمامنا الكثير لنعرفه. ولكن يمكن أن يكون الوعي بالجهل في مستوى بدائي، وهو أن ندرك أننا لا نعرف شيئا مطلقا. في الحالتين؛ الفضول لا يبعث على نفس التساؤلات. فأن نكتشف أننا لا نعرف شيئا، ينتج تساؤلات بسيطة وسطحية، وأن الغموض مما لا نستطيع التسامح معه. في مقابل اكتشاف محدودية ما لدينا من معرفة، وأن هناك الكثير مما نحتاج أن نعرفه أيضا، وهنا الغموض موجود والمسألة هي مسألة وقت في التفاعل مع هذا الغموض [6].

أغلب الدراسات المعاصرة التي تتناول مفهوم التسامح مع الالتباس ومفهوم الفضول؛ تتناوله في سياق التعليم الموجّه للصغار، وإن كان المفهومان يلعبان دورا مهما في دراسات الشخصية وبناء القدرات وفي حقول أخرى كدراسات الابداع وأحيانا في مجالات الاقتصاد والتسويق؛ كدراسة مؤشرات التفضيل لدى المستهلكين. ولكن الاهتمام بالمفهومين ضمن سياق النقد اليومي ونقد المجتمع نادر جدا؛ ما خلا الربط الذي شهد ولادة مفهوم التسامح مع الالتباس عند فرانكل وأدورنو وآخرين في مؤلَّفهم عن الشخصية الاستبدادية. غير أني أجد أن الرابط قوي جدا، وإن كان غير واضح على نحو حاسم. فعدة اختصاصات علمية تجتمع على نحو معين في هذا المفهوم، غير أن القدر الذي يمكن أن نركز عليه هو ما أشاره إليه رشيد أبو طيب وهو يتحدث عن ثقافة الالتباس، فيقول: “إن ثقافة الالتباس تقوم على تعدد المعاني والحقائق والمراجع وتعايشها، بشكل لا يسمح لأحد بادعاء امتلاكه للحق والحقيقة ووصم الآخرين بالباطل؛ بل إنها تقبل بتجاور معايير متناقضة في الآن نفسه”[7]. فهذه الثقافة المصاحبة للتردد والحيرة واللايقين أهم بالنسبة لنا من المقاييس المختلفة للتسامح مع الالتباس، وهي أدوات مصممة على نحو يقابل خصائص التفكير ضمن حقل معين كالتوظيف أو دراسات الابداع أو دراسات التثاقف والتبادل الثقافي. هذه الأدوات رغم أهميتها في اكتشاف الخصائص العامة لأنماط التفكير والحالات الابداعية، بتحويلها إلى أرقام وكميات يكون التعامل معها أسهل، غير أننا لا نغفل أنها محاولات مفرطة في عقلنة السلوك البشري، فلا بد وفي لحظة معينة أن نعود إلى السياقات التي يتم اشتقاق هذه المقاييس منها، وهي ثقافة الالتباس التي تعزز قيم التسامح وتقبل الآخرين وتقدير الاختلافات في سياقات الجدل الاجتماعي الكثيرة. من الممكن في يوم ما أن تؤدي عمليات العقلنة المستمرة إلى إنتاج وصفة طبية على شكل حقنة أو دواء؛ يجعل الانسان متسامحا مع الالتباس، ولكن سنظل في كل لحظة نسأل: هل السياقات الاجتماعية تعكس حالة التطور الحقيقية للأفكار بالمجتمع؟

المصادر والتعليقات:

* المقال منشور في كتاب داخل العقل النقدي، محمد العجمي، ص107-114

[1] Frenkel-Brunswik, E. (1949). Intolerance of ambiguity as an emotional and perceptual personality variable. Journal of Personality, 18(1), 108–143

[2] يترجم المفهوم Tolerance with Ambiguity في الغالب إلى “تحمّل الغموض” وأحيانا إلى “التسامح مع الالتباس”. ونحن نفضل الترجمة الثانية كونها أقرب للدلالة على سمة الشخص أو الجماعة. الترجمة الثانية أكثر استعمالا في السياقات المعرفية والتعليمية.

[3] UDNER, S. (1962). Intolerance of ambiguity as a personality variable. Journal of Personality, 30(1), p 29

[4] لجيروم كيغان، الثقافات الثلاث، ترجمة صديق محمد جوهر، عالم المعرفة 2014، ص59

[5] Celeste Kidd and Benjamin Y. Hayden, Neuron 88, November 4, 2015, p449

[6] Ilhan Inan, Curiosity and Ignorance, Croatian Journal of Philosophy, Vol. XVI, No. 48, 2016, p285-303

[7] مجلة منبر ابن رشد، العدد السادس عشر، شتاء 2014/2015، موقع إلكتروني، تاريخ الرجوع: 2/4/2018 (http://www.ibn-rushd.org/typo3/cms/index.php?id=328&L=2)

Visits: 11