أبريل 27, 2024

براكسيس رمادي

حيث الفكرة الحرة تقود التغيير

موسيقى الوجود

من كتاب أوراق الوعي – محمد العجمي

لا العلم ولا الفلسفة يمكن أن يصلا إلى استقراء الموسيقى التي تملأ الوجود. إنها موسيقى ليست من جنس الذبذبات والموجات الصوتية التي تشرحها الفيزياء، ولا من جنس التصورات العقلية التي تقدمها الفلسفة. هذه الموسيقى بلا صوت، ولكن مفعولها في وجدان الإنسان هو نفس مفعول الموسيقى المسموعة، حيث يستشعر الفرد أن هناك روحا تملأ الوجود وتخاطبه، وتمنح عقله أجنحة ليحلق معها، وليطير بمخيلته إلى عوالمها اللامتناهية. تدعوه لأن يندمج فيها بمشاعره وأحاسيسه لينال اللذة الأبدية.

هذه الموسيقى الصامتة التي في الوجود يغفل عنها الكثيرون، فلا تصيخ آذان قلوبهم إليها. ولا يستنطقونها بلحظات التأمل والخطاب الوجداني، ولا يعيشون لحظاتها، فهم محرومون من الاستمتاع بجمالها. ذلك الجمال المنساب مع ضوء النجوم وانسياب السحاب ولهيب الشمس وحركة المياه وفوضى التجمعات النجمية وتوهج النار وهدوء الجليد وتفجر البراكين وألوان الطبيعة وأصواتها وجريان تيارات الهواء والماء وكل مظاهر الوجود التي تتشكل في لوحات فنية تأسر القلوب خوفا وطمعا.

إن موسيقى الوجود أهم من كل فلسفات الميتافيزيقا ومن كل النظريات الفيزيائية التي تحاول تفسير الوجود، بل أن الميتافيزيقا الحديثة التي دفنت وراءها ميتافيزيقا أفلاطون وأرسطو غايتها هو الوصول إلى موسيقى الموجود، ونظرية الأوتار وهي آخر ما توصلت إليه الفيزياء المعاصرة لتفسير الوجود ما هي إلا نوتات موسيقية على وتر صغير مهتز وأن الوجود ما هو إلا سيمفونية كونية كما عبر عنها ميتشيو كاكو.

إن هذه الموسيقى مفتوحة ومباحة للجميع، إذ لا تحتاج لعقل جبار وإنما لنفس شفافة. وهي أعظم أثرا وأعمق نفعا بما تستثيره من أنغام الجمال في نفس الإنسان، فتروض فيه ذلك الوحش الأناني الذي تصدر منه كل الشرور. ولا شك أننا في حاجة ماسة إلى تأمل الوجود وتدريب وتحفيز حواسنا على متابعة وملاحقة موسيقى الوجود، في أحلامنا وفي يقظتنا، في صلواتنا وفي خلواتنا، وبما أن الوجود كتاب مفتوح فإن أحدا لا يستطيع أن يمنع غيره من قراءته وتأمله.

ولا يعني هذا أننا نتحدث عن موهبة موسيقية منتظمة في الوجود، بل هي موسيقى فوضوية وعشوائية ولكن هذه الفوضى والعشوائية تنتظم في وحدة واحدة تخلق نظاما متشبع بالجمال الموسيقي، فحركة البشر في السوق قبل يوم عيد مع ما فيها من تناقضات وعشوائية إلا أن هناك انسجام ينتظم كانتظام الغيوم المتبعثرة لحظة سقوط المطر. وقس ذلك على توزيعة النجوم في ليلة صافية أو في أعمدة الدخان المتصاعدة من النار أو في أمواج البحر وهكذا.

يدرك الإنسان بمشاعره وأحاسيسه وتفكيره أنه منفصل عن باقي العالم، وهذا الإدراك هو ما يشكل لديه الوعي بالمسافة الفاصلة بينه وبين الوجود، أي الوعي بذاته. إن هذا الوعي مخادع بشكل من الأشكال، فاﻹنسان هو جزء من هذا الوجود ومندمج فيه ولا ينفصل عنه، فلا يمكن أن يتخيل أن لديه وجود غير هذا الوجود، ومجرد هذا الوعي المخادع يكفي لأن يصبح سجنا يسجن ذات الإنسان فيه، إذ تتوجه المشاعر إلى حالة الانفصال هذه التي يعبر عنها بالأنا، ومن هنا يصبح لزاما على الشخص أن يحرر نفسه من هذا السجن، وذلك بإخراج هذه المشاعر والأحاسيس وإطلاقها لتسبح في الوجود، وتتأمل الجمال المنتشر خارج الذات، وتستمتع بتلك الموسيقى الصامتة في الوجود، فتتحول غاية الإنسان في الوجود إلى أن يجد ذاته في الوجود. إن هذا التطلع وهذا البحث عن موقع الذات الدنيا في الوجود هو اندماجٌ في الذات العليا، ذاتٌ من نوعٍ إلهي تُسبغ على النفس ألطافا ومدارك أشمل وأوسع، فيتحول ذلك الوعي الضيق الذي يحبس اﻹنسان في سجن نفسه؛ إلى وعي مترامي الأطراف، وعي يتجاوز الجغرافيا وربما يتجاوز حتى الزمن، وعي وجودي يقتحم آفاقا أوسع.

إن مما يجب الالتفات إليه أن موسيقى الوجود التي يدعيها هذا المقال لا تعني إلغاء الذات أو التقليل من شأنها، على العكس من ذلك؛ إذ أن المذاهب التي أعلت من شأن الوجود على حساب الموجود لم ترق بأصحابها إلى مستوى الكمال المنشود في الوجود، فانتهت إلى مجموعة من الحتميات التي حولت الإنسان إلى آلة ميكانيكية. فليس المطلوب هو إلغاء الذات، وإنما تأكيدها وتعظيمها عبر حثها على استقراء الانتظام والفوضى في الوجود والموجودات.

هناك تكامل وانسجام ووحدة في الوجود، تكامل عبرت عنه الفيزياء الحديثة بالذبذبات، حيث الكون عبارة عن موجات من الطاقة، وعبرت عنه الرياضيات في صورة أشكال هندسية بديعة وتناغم عددي ملحوظ، ومن هنا فالمأمول من الإنسان الفرد أن يتطلع إلى هذا التكامل والتناغم ليكون جزءا منه وليس خارجا عنه. فيستشعر قيمة وعظمة ذاته من قيمة وعظمة الوجود. وتصبح كل حركاته وسكناته بهدف الوصول إلى أفضل وأسمى موقع له في الوجود، ويتعدى الوعي لديه وعيه بالمسافة بينه وبين الوجود ليصبح وعيا بموقعه داخل الوجود. والسؤال الذي يأتي بعد ذلك هو: كيف؟ كيف ندرك موسيقى الوجود وكيف نصل إليها ونتذوقها ونحدد موقعنا في الوجود من خلالها؟


التعليقات:

[1] توصل علماء الفيزياء الكونية في السنوات الأخيرة إلى أن الكون ليس صامت كما نتخيل، حيث تمكنوا وبمساعدة الحاسوب إلى محاكاة أصوات من الكون – محاضرة لـ Janna Levin على موقع TED

[2] Michio Kaku فيزيائي أمريكي وأحد مؤسسي نظرية الحقل الوتري – تسجيل فيديو على موقع Big Think

Visits: 91