أبريل 19, 2024

براكسيس رمادي

حيث الفكرة الحرة تقود التغيير

العقلنة كإشكالية نقدية

*محمد العجمي

يمكن أن نتخيل العقلنة ونحن نلاحظ بعض الممارسات داخل المجتمع، وليكن مثلا النشاط الثقافي. فمع انتشار التعليم وازدهار المواهب؛ ستظهر داخل المجتمع فئة مهتمة بالجوانب الثقافية وتعمل على جعلها مظهرا عاما للحياة في المجتمع؛ من قبيل الأمسيات والفعاليات والمسابقات. ستكون الممارسة في البداية حرّة عفوية، لا تخضع لشروط معينة أو قواعد مشتركة مضبوطة، ولن تخلو من الأخطاء وهي منطلقة ببساطة وبعيدا عن التعقيد. مع انتشار النشاط الثقافي وكثرة الممارسين له ستتولد الحاجة لضبط النشاط ووضع مجموعة من القواعد التنظيمية التي سيشرف على مراقبتها أفراد عاديّون من الممارسين أنفسهم؛ ممن يتّصفون بالحكمة والتجربة الأطول. قد لا يكفي ذلك مع زيادة النشاط وانتشاره في أكثر من موقع ومجال، وربما ستظهر مشكلة التمويل وإيجاد مقرّ دائم لإدارة شؤون النشاط الثقافي. وستظهر بالتأكيد دعوات لتدخل الدولة لتوفير ذلك وإدارته، بل ووضع قانون رسمي لهذا الغرض. كل ذلك من أجل تجاوز الأخطاء المحتملة وضمان ألا يأتي النشاط الثقافي على حساب قواعد وأعراف عامة سابقة لظهوره. لاحقا؛ سيتم وضع النشاط تحت إدارة الدولة التي ستنشئ مؤسسة داخلها لإدارة وضبط هذا النشاط، وستموّله في مقابل أن يلتزم الجميع بالقانون الذي سيتم إصداره بعد تداولات ولجان استشارية إلى أن يتم إقراره من قبل أعلى هيئة تنظيمية داخل الدولة. كل هذه المسيرة الطويلة من بداية ظهور النشاط وحتى وضع قانون صارم لضبطه؛ هي مسيرة العقلنة، وستكون ذروتها في إصدار مرسوم على مستوى الدولة يبيح إرسال المخالفين إلى قاعات المحاكم تمهيدا لمحاسبتهم.

عقلنة السلوك البشري هي بربطه بغايات منطقية واضحة، يتجاوز حالة العفوية والعشوائية التي تصاحب السلوك الوليد في العادة. ولا يمكن لهذا الربط المنطقي أن يجد طريقه إلى قلب العادة والعرف بدون أن يسبقه نقد يستمر لفترة ما، ويؤدى بالتالي لبناء قناعات جديدة قائمة على التفكير المنطقي البعيد عن المشاعر والتقاليد والقيم كمحفزات للسلوك. يفترض بالعقلنة أن تؤدي إلى ما هو أفضل، ولكن هذا ليس ضروريا. إذ أن الافراط في الضبط المنطقي للظروف قد يفسد علاقات الناس ليجعلها أكثر مادية وأداتية، حيث سيسلبهم تلك الروح المستمدة من البساطة وقلة الاكتراث بالمادة وحسابات الربح والخسارة. ما تفعله العقلنة في حقيقة الأمر هو تحويل العلاقة الاعتباطية الاتفاقية إلى علاقة منطقية مخططة وتؤدي وظيفة وتحقق غاية محددة مسبقا. وهي تستمد مبرراتها من تراكم أخطاء العلاقات القائمة على العواطف والعادات، دون الأخذ في الاعتبار أن تلك الأخطاء ليست بالضرورة مدمرة؛ لتعود الناس على عدم الاكتراث بها أو حتى عدم ملاحظتها؛ لأنها ذائبة في السياق، وما يجعلها بارزة ومثيرة هو مجموعة من التغييرات التي طرأت، كالاحتكاك بشعوب وجماعات عقلَنَت بعض ممارساتها، أو التسبب في خطر يهدد حياة الجماعة ورفاهيتها، أو التغيرات التي تصاحب استخدام وتوظيف التقانة والأدوات الجديدة. متى ما أصبحت الأخطاء واضحة ومتمايزة، وتعيق تقدم الجماعة فعلا؛ تبدأ الممارسة العقلانية تشق طريقها لتحديث الجماعة. العقلنة في حد ذاتها ليست معقلنة، بل هي اتجاه اعتباطي في الغالب. فالمجتمع لا يتبناها كمسار واعي بضرورة التحديث، بل هو يحاول تجاوز الأخطاء لا أكثر. والتقانة لا الأفكار هي الأداة الأكثر تأثيرا في التحديث باتجاه العقلنة، بمعنى آخر؛ نحن نعقلن الأدوات، وليست الأفكار. وهذا ما يجعل العقلنة مشروعا غير مكتمل على الدوام، ويُدرك بالتراكم؛ أي بعد أن تمر أجيال عديدة، قبل الاعلان نظريا عن ولادة مرحلة جديدة من حياة الجماعة أكثر عقلانية من سابقتها.

يمكن أن يكون هناك إفراط وتسريع في العقلنة يفرضها حزب سياسي حاكم أو قائد يحوز على كاريزما وقبول واسع، فيتم تحفيز الجماعة واستثارتها وفق إدارة فعالة وموجهة باحترافية لحرق المراحل، ولكن في الغالب هذه العقلنة ستنتكص بنفس الطريقة المتسارعة التي فُرضت بها على المجتمع، وخصوصا عندما تفقد الجماعة روحها الثقافية الخاصة، والقادمة من أعماق التاريخ. إذ أن العقلنة بما تنتجه من مؤسسات تدير كافة أوجه النشاط البشري للجماعة، ستكتسح معها كل ممارسة عبثية لا تنضبط ضمن أية قوانين تدير وتنظم عمل هذه المؤسسات. وهكذا تقسو الديناميكية على الأفراد للدرجة التي تصبح فيها ضروبا من اللاعقلانية تحاول العودة مجددا إلى المجتمع في صور غير متوقعة مطلقا؛ كالتطرف والعنف أو الجنس أو عبادة اللذة أو تعذيب الجسد، وربما في أحسن الظروف؛ في صورة حركات فنية وثقافية متمردة. بالمختصر؛ سيكتسب نقيض العقلنة مبررات وجوده من تراكم أخطاء المؤسسات، لتظهر مجموعة من العادات والدعوات لرفض سيطرة مؤسسات العقلانية، والعودة إلى الروح السائمة لأشكال التجمع البسيطة والعبثية، ولكن مع إدراك بلاعقلانية هكذا أنشطة. بمعنى عدم انتظامها ضمن غاية منطقية يمكن ضبطها عبر قانون مدني معين.

ما يجب أن نفهمه في هذا السياق أن العقلنة ليست نقيض التفكير الغيبي والأسطورة كما قد تبدو في الوهلة الأولى، بل هي نقيض كل عمل وسلوك وممارسة لا تنتظم ضمن نسيج له مبرر منطقي يمكن إخضاعه لتنظيم قانوني معين. وعلى ذلك فنقد الخرافة لا يعني بالضرورة أن التفكير أصبح منطقيا وسليما، إذ من الجائز للخرافة أن تكتسب بعدا منطقيا عندما توضع في سياق فني معين، أو تخضع لمنهج علمي في التناول والتعاطي. فيتم الحفاظ على الخرافة كموروث شعبي يحقق غاية منطقية. وفي المقابل؛ قد لا تحظى حتى أكثر المؤسسات المجتمعية تنظيما وضبطا قانونيا بأبسط مستويات العقلنة، وذلك عندما لا تحقق غاياتها ولا تؤدي وظيفتها؛ تحت وطأة الفساد وانتشار المحسوبية والأمراض الادارية المختلفة. يمكن أن نلاحظ ضمن سياقاتنا العربية جدليات تكشف عن فهم ضيق للعقلانية، ومن شأن إعادة النظر في هذه الجدليات وتقييمها؛ أن يلفت انتباهنا إلى أن انحرافا ما قد يكون متعمدا؛ وقع لتوجيه مسارات الضبط العقلاني في غير اتجاهه، أو بإشغال المجتمع بجدليات ثانوية جدا في عقلنة المجتمع. كجدلية النص والعقل، أو جدلية القرآن والسنة أو جدلية الدين والأسطورة.

تهدف العقلنة كمشروع إلى إعطاء أولوية للطرح الذي يريد مأسسة النشاط اليومي العشوائي ليكون منتجا على نحو قابل للسيطرة والتوجيه، فإذا لم ينتج عن المشروع مؤسسات عملية واقعية أو نظرية ذهنية؛ فسوف يكون قليل الجدوى والأهمية، فلا يعدو أن يكون من ترف الحياة وفراغة الوقت، أو أن مؤسساته مهلهلة؛ ديكور خارجي لا أكثر. عقلنة الدين بالتالي هي بتحويله إلى مؤسسات، وكذا مع المجتمع والسوق والعلم والفن والرياضة. نوع من التفكير المنظم الذي يعنى بتحديد مسارات وإجراءات وقوانين يمكن تغييرها في أي لحظة لتحقيق أكبر قدر من المصالح والمنافع. هناك بنية معينة في التفكير تسبق العقلنة. بنية يغلب عليها التوكل والرضا بالحال والاستسلام للقضاء والثقة بالآباء وانتظار انفراج الأمور والتقليد، ويجري التعامل مع المشكلات بأساليب نمطية لا تخرج عن المألوف، وتنتج نفس الحلول القديمة. العلاقات ضمن هذه البنية تحكمها؛ وإلى حد كبير؛ الاتفاقية والأطر السابقة، وفي الغالب تستند إلى تراث ضخم من الغيبيات؛ يتحرك واقعيا عبر عمل شبه مؤسسي ولكن مبرراته غير واضحة لعامة الناس، وبالتالي لا يستطيعون تغييرها. تبدأ العقلنة من نقد هذه البنية ومحاولة اختراقها وتفكيكها وإعادة طرح كل الحلول التي تقدمها لمشكلات الحياة، والتفكير فيها من جديد.

عندما نتحدث عن العقلنة في جدلية النص والعقل، فالمسار الشائع يأتي عبر إخضاع النص للعقل ورفض فكرة حاكمية النص على العقل، ومحاولة تجنب الطرق التقليدية في استنطاق النص. وهذا مسار بدائي يمكن أن يوصل إلى مراحل عقلنة أكثر عمقا، ولو استمر هذا المسار طويلا دون أن ينتهي بعمل مؤسسي وسلوكيات منطقية ونماذج قياسية في التفكير؛ فالأرجح أن الجدلية مصطنعة لصالح سلطة معينة. مواصلة العقلنة سيحول جدلية النص والعقل إلى مسائل أكثر خطورة وأهمية؛ كمسألة مصدر السلطات، وعلمنة القوانين، ودين الدولة. والممارسات النهائية الناتجة من الجدلية ستتمثل في ظهور فرق بحثية وجمعيات تخصصية وجوائز مهنية ومناهج علمية. فلا يكفي أن نقدم العقل على ما سواه من قوى تسير حياة الانسان؛ لكي تكون لدينا عقلنة، بل يجب أن تتحول إلى ممارسة وسلوك وفعل. فعوضا عن اجترار النصوص التي تمتدح العقل لتحقيق التغيير؛ يجب تفعيل هذا العقل في التغيير. وذلك بتوليد الفعاليات التي يمارس عبرها التفكير المؤسسي. التصويت في الانتخابات مثلا كممارسة عقلانية لها غاية منطقية كما يفترض، يمكن أن تجري بالاتفاق وبتغليب قوى خارجة عن سيطرة الانسان كالقدر والتاريخ أو للتقسيم الالهي للملكات والمواهب، ولكن أيضا يمكن أن يكون أكثر منطقية وعقلانية عبر تطبيق أدبيات واستراتيجيات مضبوطة في الدعاية والتسويق والحشد. ترتبط العقلنة بالأدوات والتقنية بشكل لصيق. فهي تنتهي بإنتاج أدوات ونظم وتقنيات تؤكد سيطرة الانسان على القوى التي كانت تسيطر عليه سابقا.

لا تتحول العقلنة إلى واقع حتى تصبح ممارسة مشاعة بين الجميع، فاحتكارها ومؤسساتها من قبل أقلية تتحكم في البقية؛ لا ينتج عقلنة حقيقية تحقق التقدم والرفاهية المتوقعة، لأن قيمها لا تتحقق إلا إذا أصبح الجميع يستطيع ممارستها عمليا. العقلنة تجعل مسارات المستقبل أكثر وضوحا، فإذا ظلت على ضبابيتها واعتمدت على فكرة الخضوع لتصورات السلطة فهذا لن يحقق سوى مستويات سطحية جدا وخادعة؛ شيء يشبه استهلاك الأدوات التي تنتجها عقلانيّات من شعوب وأمم أخرى دون أبسط فهم لكيف تعمل هذه الأدوات. هذا الوضوح مهم جدا حتى يعرف الناس الخيارات التي أمامهم ويستطيعون تطبيقها فعليا. وعلى ذلك فيمكن اكتشاف عقلانية مزيفة لا تتعدى مستوى الخطاب الموجه؛ يخادع المتلقي الباحث عن حياة أفضل لنفسه في المستقبل. أفكار معينة كالطاعة والقناعة وعدم التدخل فيما لا يعنينا والتزام الجماعة ومركزية الثقافة؛ توظف توظيفا سلبيا في الخطاب لامتصاص إرادة الناس عندما تنزع لعقلنة القوى غير المرئية تحت تأثير التقنيات والأدوات وأنظمة الفكر المصاحبة لهذه الأدوات.

يشكل نبذ الخرافة والسحر والأساطير جزء مهم في العقلنة الكلاسيكية، ولكن الأمر لا يتوقف عند ذلك، إذ لن يقدر لهذه المنابذة والرفض أن تستمر وتؤدي إلى حفظ المجتمع والانتقال به إلى أحوال أفضل بدون التفكير المؤسسي. ولعل هذا يفسر سبب عدم قدرة التيارات العقلانية في أن تتحول إلى محركات فاعلة على أرض الواقع، إذ سرعان ما نلاحظ أنها تتوقف في حدود الخطاب ولا تحقق انتشارا وحضورا في مجتمعاتنا. أغلب التيارات العقلانية تفشل في التجمع حول مركز، فتندثر كتشكيلات فاعلة ومؤثرة سياسيا واجتماعيا، وإن كانت تستمر كأفكار وطرائق في التفكير. يمكن تبرير ذلك بمعرفة أن الاعلاء من شأن العقل وإعطائه الأولوية في فهم وتفسير العالم في أي نظام وتشكيل؛ يتناسب عكسيا مع تبعية الأفراد داخل النظام، وطرديا مع حجم الاختلافات الداخلية فيه. فالاستقلالية الفردية التي تنتج عن العقلنة تضعف من ولاء الفرد إلى مركز يشكل بؤرة التيار أو المدرسة أو التجمع، وهكذا لا تنجح العقلانيات المختلفة في الحفاظ على ولاء أعضائها؛ إذ كل واحد منهم سرعان ما ينتهي إلى تطبيقاته الخاصة ويكون مستقلا في معاييره ونتائجه، وهكذا تكثر الانقسامات ويسهل ﻷي نظام يعتمد على تبعية الأطراف المجردة للمركز أن يوجه ضرباته القاتلة إلى تيارات العقلانية فيحد من تأثيرها وحضورها. علاوة على أن زبائن العقل قلة، فالغالبية يفضلون الانحياز إلى تفكير الجماعة لأنه الأقل ضررا على المدى القريب. وهكذا تظل العقلانية مجرد أفكار متناثرة هنا وهناك، تعود للسطح بين فترة وأخرى دون أن تنجح في خلق حالة اجتماعية مؤثرة ومستمرة.

السبب الرئيس لهذا الضعف في العقلنة هو ما ذكرته من ربطها بنبذ السحر والخرافة، والتوقف عند ذلك، فالعقلنة لا تتطور لتنتج مؤسسات وفعاليات ومشاريع خدمية واجتماعية ليس لها أدنى نية في استلام السلطة بالقوة. هذا لا يعني ضرورة أن تتحول إلى نوع جديد من المركزية في الفكر، بل إلى إحلال كل مركز غير معقلن بمجموعة مراكز منطقية وذات غايات وبرنامج واضح. بمعنى تشتيت مركزية مرحلة ما قبل العقلنة وخلخلتها بإنشاء مراكز أقل شهية في التحكم والسيطرة. هذه المراكز الصغيرة التي ستنشئ في البداية في الهامش قبل أن تفتتح لها أفرع ونسخ في مواقع عدة؛ هي تلك المشاريع والفعاليات التي نقصدها كامتداد واستمرارية للعقلنة. بعبارة أخرى؛ سيكون الأقرب والأنجع لنجاح العقلنة؛ هو أن تستمر في بث الأفكار التي تصنع جدلا في المجتمع، مبتعدة عن أي محاولة للتمركز اجتماعيا أو سياسيا في بؤرة أو مركز واحد؛ سواء معرفي فكري أو قيمي سلوكي. يستمر هكذا بدون يأس، بحيث يصنع حاجة مستمرة ومهمة لتكوين المشاريع الاجتماعية والمعرفية أمام الناشطين الذين سيأتون في المستقبل معتمدين على وقود العقلنة.

*هذا المقال جزء من الفصل الرابع من “داخل العقل النقدي”، تحت عنوان تحديات العقل النقدي. دار سؤال 2019

Visits: 18