أبريل 20, 2024

براكسيس رمادي

حيث الفكرة الحرة تقود التغيير

عن فضيلة كلمة “رُبّما”

تخيّلتُ فيما مضى أن أتتبع استعمال كلمة “ربما” في (1000) ساعة صوتية من مواد يوتيوبية لمحاضرات يمكن تصنيف مقدميها إلى: فلاسفة، رجال دين، صحفيين، سياسيين، علماء طبيعة، محامين. وذلك كمحاولة لاكتشاف أيّة أنماط معينة يمكن أن نشير إليها عن توزيع اليقين واللايقين عند كل من يتحدث إلى جمهور. طبعا لم أقم بذلك؛ لأنه يحتاج إلى وقت طويل؛ لحساب تكرارات استعمال الكلمة وأغراضها.

لا أخفي تعلّقي بهذه الكلمة. لست متأكدا لماذا، ولكن ربما للمرونة الواضحة في استعمالاتها. فيمكن استخدامها في بداية الكلام أو في الوسط أو في النهاية. يمكن استعمالها لوحدها، أو متصلة بالجملة. وتحمل زخما واضحا من النهايات المفتوحة، فغالبا ما تخفي كلاما ما يزال هناك ولم يُقل بعد. تحتضن داخلها كذلك تشابكا بين متناقضات. فالثقة مشتبكة مع التردّد، والموافقة يتخلّلها الرفض، والماضي يتداخل مع المضارع، والأمل يتسرّب إلى اليأس، وهي في جميع استعمالاتها تشير إلى وفرة تصطرع مع ندرة.

‏”رُبّ” حرف جرّ، فإذا دخلت عليه ما الزائدة؛ كفّته عن الجرّ. إن “ما” ليست زائدة كما تبدو، فهي وإن كانت لا تغيّر شيئا في المعنى؛ غير أنها أحسنت إلى حرف الجر بأن جعلته يدخل على الأسماء والأفعال، وجعلته يقبل المعرّفات والنكرات، ولم تعطّل قدراته على التعامل مع الكثير والقليل. و”رُبّ” الحرف لا يبتعد كثيرا عن “رَبّ” الفعل، والذي يفيد القليل الذي يجري تكثيره أو إصلاحه وتجويده أو تملّكه، غير أنه من كثرة الاستعمال صار حرفا، وبدخول “ما” عليه تعاظمت فضيلته.

المعنى اللغوي الإجمالي لربما كما في أغلب المعاجم هو “من المحتمل”، ولعلّ هذا ما دفعني ذات مرّة في بداية الشباب أن أمضي إلى أحد المشايخ الكرام بسؤالي عن الآية في بداية سورة الحجر: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ}؛ هل الله تعالى غير متأكّد من هؤلاء الكافرين ليقول أنه من المحتمل أنهم يتمنون كذا وكذا؟! هناك لفت الشيخ انتباهي إلى الباء المخفّفة بحسب بعض القراءات، والتي وإن كانت لا تغيّر كثيرا من المعنى؛ غير أنها تُضعّف الترجيح من جهة وتجعله يميل إلى الكثرة الشديدة. كان على الشيخ أن يفتح تفسير الميزان للعلّامة الطباطبائي للمزيد من التأكيد، ولكن العلّامة لم يركّز كثيرا على “ربما”، كما لو أن المعنى مفروغ منه داخل السياق، فهؤلاء الذين يؤذون النبي ويتهمونه بالجنون، سيأتي عليهم زمان في الدنيا أو في الآخرة سيندمون على ذلك، فاصبر أيها النبي وما عليك إلا أن تنتظر.

معنى الاحتمال في “ربما” وإن كان هو على الإجمال؛ غير أن هناك تفصيلا يشير إليه آخرون، ومنهم الزمخشري [1] الذي يؤكد أن التقليل وارد في استعمال العرب؛ على نحو ما يميل إليه العقلاء في إحراز السلامة حتى مع القليل من الندم، فكيف إذا كان كثيرا، ولهذا عندما نقول: لعلّك ستندم على فعلك؛ فهذا التقليل لا يعني بالضرورة اللايقين، فنحن نقوله على سبيل أن الشكّ القليل يستدعي التأمّل والتفكّر، وهو بشكل ما مساوقٌ للكثير، فلا تستهين بهذا القليل. فـ “ربما” أكثر من مجرد إمكان واحتمال، فهي لا توهن الخطاب أو الرأي؛ بل العكس. تجعله أقوى؛ ليس عبر ممارسة اليقين، بل عبر اجتذاب مستمعين متذوقين لفضيلة “ربما”.

من هنا أجد لـ “ربما” فضيلة سيكون لمحاولة التنقيب فيها جمال؛ ربما. دون أن أدّعي أن ما أورده هنا هو مما ينتمي لحقل معرفي بذاته، بل هو على سبيل طلب الحكمة في تهذيب النفس وهي تدّعي العلم والمعرفة بحقائق الأشياء.

العناية بالآخر

الفضيلة الأولى التي يمكن ملاحظتها في “ربما” هي فضيلة العناية بالآخر. فإيرادها في السياق أكثر من مجرد الاحتمال والترجيح كما مرّ؛ بل هي مفتاح نقدّمه لهذا الذي يسمعنا أو يقرأ لنا لكي يدخل معنا في معمعة النقاش والتداول والتفكّر فيما نطرح ونقول. فبالرغم من كلّ ما نورده؛ غير أنّه ما تزال هناك مساحة لوجهة نظرك لكي تضيفها، فأنا مستعدٌّ لأسمع ما تقول، وما لديّ هو نتاج تجربة وخبرة وممارسة، وليس علما لدُنِّيًّا ألقي في روعي من مكان خارق. ولا يخفى لما لهذه الفضيلة من أهمية في تكوين الصداقات والمحافظة عليها، وإلى ما يسميه جاك دريدا بسياسة الصداقة. فعملية إدارة الأصدقاء تستدعي أن يكون شدّا وجذبا هنا وهناك. و”ربما” تفعل ذلك بجدارة. فحمولتها من “الإمكان” تُخصّب اليقين وتجذب له الأذهان لتفحصه، ومعها تّتصل العقول وتعترك الآراء.

يقترح دريدا فكرة الطيف الذي تصنعه “ربما”؛ نوعا من الوعد ذا جانبين: فمن جهة تطرح “ربما” فكرة تحوز على أعلى مستوى يقين ممكن، ومن الجهة الأخرى تؤجل هذا اليقين إلى وقت غير معلوم [2]. إنه طيف يبدأ من الوعد وينتهي بالإنكار، فتظل العلاقة مع المستقبل مفتوحة بحسب ما يمكن أن يتوصّل إليه المتحدّث والمتلقّي. نحتاج هنا إلى نوع من العناية والتفكير بهذا الآخر الذي نتواصل معه؛ أيا كان هذا الآخر، لأن “ربما” لا تشترط أن نعرف الآخر بعينه، بل يكفي فقط أن نتصوّر آخرا ما يقف على طرف ما من الزمن المستقبل، وبما أننا لا نعرفه على وجه اليقين فنحن نعتني به، ونحاول أن نبني معه علاقة معينة؛ ستكون بالضرورة مفتوحة. العناية التي تقترحها “ربما” ليست من قبيل اللطف والمداراة والتدرج في الطرح؛ بل تلك المساحة التي ما تزال فارغة وتمنح الآخر حرية معينة لكي يملأها بما يريد.

السخرية من الحقيقة

حسنا.. ليست سخرية بالمعنى الذي يجعل الحقيقة موضع تندّر وتهريج؛ بل بما يقلل احتمالات الاستقواء بهذه الحقيقة من قبل أي طرف داخل المجتمع. وأسميها فضيلة على اعتبار أن كل ما من شأنه أن يجعل الناس سواسية؛ هو في حد ذاته فضيلة؛ بعيدا عن القوّة التي يمكن تحصيلها نتيجة جهد مبذول من أجل امتلاك الحقيقة. بحيث لا يبدأ تفوّق جماعة على أخرى من مجرّد الحقيقة التي تملّكتها بأي طريقة كانت؛ بل من الجهد المبذول. فمن يريد أن يحكم باسم الحقيقة؛ نقول له: مهلا! الحقيقة من حق الجميع. ولكي نفعل ذلك؛ نحن نحوّل الحقيقة إلى حقل نشتبك فيه عبر الشك الساخر الذي يجعل من اللاقرار فضيلة أخلاقية. في الحقيقة حالة اللاقرار ليست حالة منتهية، فما تفعله “ربما” هو أنها تجعل اللاقرار في قلب القرار؛ نحن فقط نؤجل القرار، أو نبطّن القرار، أو نصنع شيئا يشبه المفارقة paradox؛ حيث نستطيع مشاهدة التناقض قبل أن نبدأ التفكير في حلحلته.

المفارقة حالة صدام بين متقابلات ظلّت خفيّة إلى عهد قريب؛ حتى يكتشف أحدهم فجأة ونتيجة لتراكمات أوصلت الجميع إلى طريق مسدود؛ أن هناك مشكلة تناقض داخل لب الحقيقة السائدة، وهي التي تجعلها مشكلة غير قابلة للحل. وما إن نلتفت إلى ذلك التناقض؛ حتى نكتشف الحاجة إلى التفكير في الموضوع من البداية: ما الشروط التي أهملناها وأوصلتنا إلى هذه المفارقة؟ إنها نوع من الإيمان بدون إيمان؛ على طريقة نيتشه. داخل المفارقة تعود الحقيقة لتصبح طريقا؛ بعد أن كانت الغاية الأخيرة للطريق. ومن هنا تظهر الحاجة إلى مشاهدة نقيضها، وهذا يستدعي القدرة النيتشوية على اختبار القيم المضادة، وبالتالي إعادة إنتاج القيمة داخل المفارقة. أي اختبار الحقيقة عبر المفارقة [3].

داخل المفارقة نحن نجري تجربة نظرية لاختبار الحدود القصوى للتفكير. ما الذي ينتج عندما يذهب الدماغ إلى أبعد مكان ممكن عن الحقيقة القائمة. نحن نختبر الفكرة عبر البحث عن نقيضها؛ صانعين من ذلك مفارقة تشملهما معا، ومن ثم نبحث عن أية مخارج للهروب من هذه المفارقة؛ ربما عبر إعادة تعريف الفكرة أو محاولة وصفها من جديد، أو عبر مزيد من تحديد السياق الذي تشتغل فيه. الفضيلة هنا هي فضيلة الاستفزاز والتحدي الذي تصنعه “ربما” عندما تصر على تحويل الحقيقة الواحدة إلى قضيتين نسبيتين تتصارعان، وبالتالي يجب أن نحلّ التناقض الذي أنتجته “ربما”. نحن هنا نختبر قدرات التفكير لدينا لاكتشاف حقيقة أسمى وأشمل. فنحن ما زلنا نتطوّر ولم نصل للذروة. هذا ما تفعله “ربما” ربما. تضفي شيئا من سخرية الأقدار على جلال الحقيقة وهيبتها.

المخاطرة والغموض

هناك فضيلة ما عندما نعتبر الجرأة في ركوب الخطر سبيلا لتحقيق فتوحات جديدة؛ في العلوم أو الاستكشافات أو حل مشكلات قائمة. الخوف والتردد سيكونان مذمومين بطبيعة الحال. هنا.. “ربما” تصبح مفتاحا للدخول في مغامرات جديدة؛ عبر التمسّك بالاحتمال القليل الذي تضخّه في المستحيل، أو بالنفاذ إلى الفتحة الصغيرة التي تشقّها في الحجاب الصلب لليقين. نحن نتمسّك باليقين لأننا لا نريد أن نخاف. لا نريد القلق الذي يصاحب اللايقين عادة. فضيلة “ربما” هنا أنها تستوعب وتذيب الخوف داخل الاحتمال وداخل الممكن. فضيلتها أننا عندما نتمسّك بفسحة الاحتمال القليل جدا ولكن أكبر من المستحيل، أو بالاحتمال الكبير جدا ولكن أقل من اليقين؛ نحن نخفف من قبضة الخوف عبر ملاحظة أن فرص النجاة والرجعة ما تزال موجودة، وأن ما يمكن أن نخسره ما يزال لا يعادل ما يمكن أن نكسبه.

ما تفعله “ربما”؛ وهذه فضيلتها، أنها تجعل القادم محايدا كما يلفت دريدا إلى ذلك [4]. تفعل ذلك عبر نفي الضرورة؛ وهي تهيّئ الحاضر لاستقبال الحقيقة القادمة. بحيث إن ما سيأتي؛ أيّا كانت جدارته وقوّته، كان يوما ما مجرد احتمال بمقدار معيّن، وسيكون هذا القادم هو في خدمتنا ولسنا نحن في خدمته. دريدا يلفتنا إلى ما هو أعمق من ذلك؛ فالقرار الذي نتّخذه في ظلال “ربما”؛ ليس قرارا فرديا تامّا. بل فيه من قرارات آخرين الشيء الكثير. وهكذا فالحياد الذي فيه هو ما يجعل الجرأة على ملاحقة الغموض فضيلة. ففسحة الممكن التي فتحناها في قلب المستحيل؛ ما كنا لنفعل ذلك لولا أن “ربما” كانت تحاول الجمع بين تصوّرين/قرارين/إرادتين أو أكثر. فالمستحيل هو مستحيل جماعة، وليس مستحيل فرد بعينه. يمكن أن نتخيّل هنا لماذا ننهى الطفل الصغير عن لمس اللهب. الحياد في “ربما” يأتي من أننا نحاول أن نفكر أخلاقيا ونحن نتخيّل شكل المستقبل. يجب أن لا نستبق الأحداث. فـ “ربما” تفتح على عدة أحداث قادمة محتملة، ونحن ننتظر سويّة. ربما يكون لأحدنا يقين أكبر؛ ولكنه مؤجّل. إذ لا يمكننا ركوب الخطر ما لم نكن محايدين أخلاقيا تجاه القادم. أي أن المستقبل ما يزال فارغا تماما. فكل ما سيأتي منه سيكون بالضرورة فضيلة.

الوجود الضعيف

نقيض الوجود الضعيف هنا هو الوجود الممتلئ؛ الماضي ممتلئ والحاضر ممتلئ والمستقبل بالنتيجة ممتلئ. الحتميّات تحيط بنا من كل الجهات. وكلّ ما يمكننا فعله هو الانتباه إلى “الماينبغيّات”. على ذلك؛ فإن الوجود الضعيف هو فضيلة في حد ذاته. نحن نتخفّف من الأثقال التي تحمّلناها فقط بحكم الولادة. أثقال التاريخ والثقافة والانتماء. لهذا؛ التعبير بكلمة “ضعيف” لا يعني ذلك الضعف المبتذل الذي تسكنه الرذيلة والهوان؛ بل الضعف الذي يدلّ على الخفّة والسيولة والانسيابية والبساطة. ومن هنا تأتي فضيلته.

استعمل جياني فاتيمو مفهوم “الفكر الضعيف” للإشارة إلى عصرٍ من التحولات الاجتماعية والثقافية الناتجة عن التراكم التاريخي للتقنية؛ أدّت إلى الفصل بين اللغة والواقع، ومع هذا الفصل تفقد الحقيقة مركزيّتها الميتافيزيقية، وتتحوّل إلى جملة تأويلات محتملة تصنع معاييرها الخاصة لكيفية بناء الانسان والمجتمع والدولة [5]. ما يودّ فايتمو أن يقوله في كتابه “نهاية الحداثة” أن الكثير من الميتافيزيقا لم تعد كذلك، بل انتقلت إلى أشياء أخرى أضعفت من القبضة القديمة للوجود على الانسان. فالانسان بات يتلاشى داخل أشياء كثيرة بعد أن كان ممتلئا بعناصر عصية على الذوبان في تلك الأشياء التي يمكن أن تكون مؤسسات أو أحزاب أو اهتمامات ومواهب أو منتجات تقنية وفنية. لنتخيّل هنا انسان المستقبل الذي ستقبع مجموعة شرائح إلكترونية تحت جلده. أو لنتخيّل الفرق بين إنسان يتحرّك متجها للصلاة في مسجد أو كنيسة، وبين إنسان يستعد ليلعب لعبته المفضلة في الإكسبوكس أو البلايستيشن.

“ربما” هنا تضخّ قليلا أو كثيرا من الاحتمال داخل قلب القرار أو اللاقرار؛ مرخية قبضتيهما في نفس الوقت. وما ينتج عن ذلك وجودا أقلّ أسمنتيةً لو جاز التعبير. قد يصطدم ذلك ببعض المعايير الأخلاقية للسلوك البشري القائم على الوجود الممتلئ؛ فتبدأ مقاومة المعايير الجديدة التي صنعتها “ربما”، ولكن مرّة أخرى؛ “ربما” مستعينة بالإرث التاريخي للعلوم والتكنولوجيا وتطوّرات الفلسفات المعاصرة؛ تعود وتزجّ باحتمالات جديدة مخصّبة المقاومات القديمة؛ لتجعلها متجهة إلى إبداع معايير جديدة للسلوك. فـ “ربما” لا تدمّر الوضع القائم، وإنما تتيح الفرصة والوقت لاكتشاف الفراغات فيه وإعادة ملئها بما يتواكب وتطوّرات العلوم والتاريخ والتقنية والفلسفة؛ ومعها بطبيعة الحال الدين. وهكذا فما تفعله “ربما” للدين أنها إما أن تمنحه دينا جديدا داخله، أو تنزع عنه دينا قديما، فنصبح في كل مرة أمام المفارقة النيتشوية؛ إيمان بلا إيمان ولا إيمان بإيمان.

——

المصادر والتعليقات:

[1] تفسير الكشاف للزمخشري، بعناية خليل مأمون شيحا، دار المعرفة بيروت، ط3، 2009، ص558

[2] Josh Toth, A Certain Perhaps: Touching on the Decisiveness of Derrida’s Indecision, Mosaic: An Interdisciplinary Critical Journal, Vol. 40, No. 2, a proceedings issue: FOLLOWING DERRIDA: LEGACIES (June 2007), pp. 245-260. https://www.jstor.org/stable/44030242

[3] Rebekah S. Peery, Nietzsche Philosopher of the Perilous Perhaps, Algora Publishing, New York 2008, p158

[4] Jacques Derrida, Without Alibi, Stanford University Press 2002, p235

[5] يمكن الرجوع للمزيد حول فكرة التفكر الضعيف لجياني فاتيمو إلى مقالتنا حول كتاب “نهاية الحداثة” المنشورة في ملحق مراجعات بجريدة الرؤية لعدد أغسطس 2015.

Visits: 23