أبريل 19, 2024

براكسيس رمادي

حيث الفكرة الحرة تقود التغيير

مستقبلنا النيتشوي

بول ماهوني – مجلة الفلسفة الآن العدد 137 (رابط المقال الأصلي)
ترجمة: محمد العجمي

مبعثرةً داخل كتابات نيتشه؛ تلك التصريحات بأنه جاء في الوقت غير المناسب، معبّرةً عن إيمانه العميق بأنه سيولد بعد وفاته. إنه يرى أن قليلين في عصره من لديهم آذان تسمعه، وأن عليه أن يعوّل على الأجيال القادمة لفهمه، فهو يكتب لذلك الجمهور المستقبلي. ومع هذه التصريحات تسير نبوءته بأن اسمه سيرتبط يوما ما بأزمة غير مسبوقة في تاريخ البشرية. إنه يقترح؛ فيما يبدو؛ أن أعماله قد تساعد في تعجيل المراحل الأكثر حدّة لهذه الأزمة، ويضع نفسه أيضًا كمرشد للبشرية أثناء وبعد الانقلاب القادم.

ما هي طبيعة هذه الأزمة المتوقعة؟ أعتقد أن القراءة الأكثر شيوعًا لها تمثّل فهما خاطئا أو استخفافا بطبيعتها ومجالها. هذه الفكرة الشائعة هي أن نيتشه يتحدث عن التآكل التدريجي لإيماننا بأي قيم ملزمة ومتسامية بين البشر. تتجسّد عملية التآكل هذه؛ على سبيل المثال لا الحصر، في تراجع الإيمان الديني. بدون المعتقد التأسيسي بوجود جزاء إلهي في أيّ نظام أخلاقي بشري، وبدون الإيمان بمكافأة ما على سلوكنا بعد هذه الحياة القصيرة؛ تصبح الفكرة بوجود مغزى من حياة المرء وأفعاله (وخاصة محاولاته ومعاناته)؛ من الصعب جدا قبولها. والنتيجة هي العدمية: التخلي ليس عن المعتقدات الدينية فحسب؛ بل أيضًا عن القناعات المتوارثة للقدماء في أن ما توفّره إيمانيّاتهم من ازدهار مستمر للمجتمع يحدّد النهاية المناسبة للإنسان بحسب أفعاله.

يمكن القول بالتأكيد أن هذه النزعة من العدمية قد انتشرت فعلا، ويمكن للمرء أن يدرك بقوّة أن هذا الإنكار الجماعي للقيم المتوارثة كان قد بدأ بالفعل منذ زمن نيتشه كما أقرّ بذلك. في الواقع، نيتشه هو واحد من أكثر المؤرخين ذكاءً لهذا التوعّك وتطوّره. ولكن يحتاج المرء فقط إلى قليل من القراءة لتشخيصات نيتشه وتكهّناته حول ذلك، ليدرك أن ما يصفه هو عملية حتمية إلى حد ما، وبالتالي بطريقة ما؛ هي مستقلة عن نيتشه. يمكن اعتبار نيتشه اليوم مهماز التراجع الغربي عن الإيمان الديني، ولكن بعد قراءة كتاباته الخاصة حول هذا الموضوع، قد تستنتج جيدًا أن هذه العملية كانت ستستمر على أية حال؛ حتى بدون إسهاماته. هذا يعني أن المرء قد يتفق مع إحدى تقريراته الشهيرة من كتابه (إرادة القوة، المقدمة، الشذرة رقم 2) أنه في صعود العدمية؛ الضرورة هي التي تعمل [الإشارة هنا إلى أن إنكار الإله سيؤدي بالضرورة إلى العدمية]، وأن تراجع إيمان البشرية بالقيم المتعالية هو مجرد تمهيد. فالأزمة الحقيقية التي تلوح في الأفق والتي يدرِّب نيتشه عينيه عليها ستكون أكثر تحطيمًا.

لا توجد إرادة حرة: إما القوّة وإلا العكس

يتم الإشارة إلى طبيعة الأزمة المتوقعة عبر قناعة تتخلّل كتابات نيتشه: وهي عدم إيمانه المطلق بحرية الإرادة البشرية. وعلى الرغم من الجدل حول المقصد الدقيق من عدم إيمان نيتشه بالإرادة الحرة؛ فإن المؤكد هو أن نيتشه لم يتصوّر البشر بأي حال من الأحوال كفاعلين أحرار ومسؤولين عن تصرّفاتهم. إن أفكارنا ووعينا هي وظائف لعمليات أعمق تتجاوز نطاق معرفتنا، وإرادتنا الحرّة مجرّد وهم. هناك أشكال مختلفة لإنكار الإرادة الحرة، العديد منها يمكن أن نجدها في كتابات نيتشه، ولكن لا شيء منها يسمح لنا باستنتاج مفهوم للحرية؛ جوهريٍ بما يكفي ليمنحنا المسؤولية عن خياراتنا وأفعالنا. دعونا نلقي نظرة على ثلاثة أشكال هنا؛ سهلة الفهم ولا تتطلب تدريبا فلسفيا، ولا حتى قراءة نيتشه على الإطلاق. أكثر من ذلك؛ أنها يمكن ملاحظتها والتفكر فيها بواسطة أي إنسان ذكيّ بما يكفي.

الملاحظة الأولى ببساطة هي أنه لا يمكننا أن نكون مسؤولين عن ما نحن عليه، لأنه لا رأي لنا في خلقنا. نحن لسنا مسؤولين عن أي شيء من جيناتنا أو أجهزتنا البيولوجية أو كيمياء أجسامنا أو وظائف أدمغتنا أو بيئة التنشئة التي نولد ونشبُّ فيها. ونظرًا لأن هذه العوامل متجذّرة جدًا؛ تذهبا عميقا في جعلنا الشخص الذي نحن عليه؛ بالرغبات وعمليات التفكير التي لدينا؛ لذا لا يمكننا القول في الواقع أننا مسؤولون عن خياراتنا وأفعالنا. هذا هو موقف نيتشه بحسب غالن ستروسن [1]؛ والذي يؤيد نفس الموقف أيضا. يلخّص غالن هذه النقطة بالقول أننا لا نستطيع أن نخلق أنفسنا. توضح ذلك دراسة دنيدن [2]؛ أشهر دراسة تنموية طويلة الأمد عالميا، حيث أثبتت كيف أن التحكم في متغيرات مثل الطبقة الاجتماعية، وضعف التحكم في الدافعية عند الأطفال [3]؛ هي أكثر المؤشرات موثوقيةً عن النتائج السيئة في الصحة والثروة والجريمة بعد مرحلة البلوغ. تشير الدراسة أيضا إلى أن البحث الحالي يؤكد كيف تلعب العوامل الوراثية ووظائف الدماغ أدوارًا مهمة جدًا في التحكم في الدافعية، وكلاهما خارج نطاق سيطرة الشخص الطبيعي؛ الذي لم يخلق نفسه.

التصوّر الثاني عن افتقارنا للحرية؛ وهو  مرتبط بشكل ذكي مع الملاحظة السابقة، يعتمد على التأكيد النيتشوي بأن الجسد هو الذات. بعبارة أخرى؛ أن العمليات الفسيولوجية (مع غموض فهمنا عنها) تحتوي على أو تحدد كامل شخصية الإنسان. من وجهة النظر هذه؛ فإن الوعي هو مجرد وظيفة للعمليات البيولوجية؛ خارجة عن سيطرتنا. علما أن هذا الزعم قد يجد أيضًا دعمًا في بعض الأبحاث الحديثة. على سبيل المثال، تدعم الأدلة التجريبية فكرة أن الطفيلي الخلوي الشائع التوكسوبلازما الغوندية [4] قد يعيق قدرة الجسم الذي يستضيفه على تجنّب المخاطر. بعبارة أخرى؛ فإن هذا الطفيلي يجعل الناس الذين تستضيفه أجسامهم أكثر ميلًا إلى المخاطرة. أسوأ من ذلك تلك الأدلة المتزايدة على أن بكتيريا الأمعاء تلعب دورًا في تنظيم المزاج، وتحدد رغبتنا الشديدة في الطعام. يبدو أن هذا البحث في علم وظائف الأعضاء يقوّض إمكانية الإرادة الحرة، فالبكتيريا والطفيليات التي يستضيفها جسم الواحد منا؛ تحدد مزاجه وسلوكه، وبالتالي معتقداته وحياته، حتى لو كان يتعلّق بفكرة أنه هو من يحدد مصيره. بل إن بعض الأبحاث الحديثة اقترحت أن الوعي؛ العلامة الكبيرة لإنسانيتنا، قد يكون نتيجة لارتباط قديم جدا بين الشيفرة الجينية لفيروسات ARC [5] مع الجينوم البشري.

الموقف الأخير والأقوى الذي يمكن أن يقوض حرية الإنسان هو الحتمية الكونية. تبدأ الحجة بافتراض أن كل نتيجة مادية يجب أن يكون لها سبب مادي، وأننا نحن البشر خاضعون لهذه القاعدة نظرا لأننا في النهاية أجسام، فلا يمكن استثناؤنا من سلاسل السبب والنتيجة في هذا العالم المادي. لذلك فإن كل ما نقوم به أو نعتقده ما هو إلا نتيجة لأسباب مادية سابقة، والتي هي نفسها نتائج لأسباب أسبق، وهكذا في تسلسل مستمر إلى بداية الزمان. وهذا في الحقيقة شكل مادي شديد من الحتمية، وربما يكون هو الأكثر إشكالا في تاريخ الفلسفة. (أنا أعتقد أن نيتشه يؤيد هذا الشكل الأخير والأقوى. فعلى الرغم من نفوره من الرؤية الآلية المبتذلة للكون، ومن نقده لفكرة السبب والنتيجة؛ إلا أنه في نهاية المطاف هو مؤمن بالحتمية الكونية.)

إن قبول أي من هذه التصوّرات يعني أنه يجب على المرء أن ينفي حرية الإرادة، وبالتالي ينفي المسؤولية الأخلاقية. وبالتالي يجب أن تنتهي أيضا أيُّ أفكارٍ عن اللوم أو الكفاءة، والعدالة أو الظلم، إذ لم يعد بالإمكان تحميل أيّ مسؤولية جنائية لأي إنسان. لا يمكن للمرء أيضًا أن يلتزم بأي تصوّر عن التسلسل الهرمي للقيمة استنادًا إلى أفكار نبيلة أو منحطّة، لأنه لا يمكن تحميل مسؤولية الاختيار لأي شخص؛ سواء كان شريفا أو خسيسا. أعتقد أن نيتشه لم يحل هذه المعضلة، فهي بمثابة الدودة في قلب نظامه، والتي تحكم على فلسفته العملية بعدم الاتساق. على أي حال؛ النقطة الحاسمة هنا هي أن نيتشه يتنبأ بقدوم حقبة يصبح فيها المفهوم التقليدي عن الذات البشرية الحرّة والمسؤولة عن نفسها وعن الآخرين؛ ببساطة غير قابل للتطبيق؛ مجرد أثر من الماضي يثير السخرية.

الحرية ماتت ونحن من قتلها

دعونا نفترض أن إحدى الحالتين التاليتين تحقّقت في لحظة ليست بعيدة جدًا في المستقبل: إما أن يتم تقديم دليل علمي حاسم على أن حرية الاختيار عند البشر مجرّد وهم، أو في حالة عدم وجود هكذا دليل قاطع على ذلك؛ فإن تكافؤ الأدلة سيعزز هذا الاقتراح. في كلا الحالتين؛ يجب التخلي عن فكرة حرية الارادة والمسؤولية الأخلاقية من قبل أي شخص صادق ورصين وهو يزن الأدلة. لنتخيل لاحقا أن تصبح هذه الحالة هي العقل السائد؛ تنتشر بشكل لا يقاوَم إلى أن يتأقلم جميع البشر معها، مما يجبرنا على إعادة نظر غير مسبوقة لطبيعتنا. فقط في تصوّرٍ كهذا؛ يبدأ المرء في التفكّر في الأزمة التي تنبّأ بها نيتشه؛ رابطا اسمه بها. إن العالم الذي أصبحت الأفكار الحتمية فيه مبادئ أخلاقية؛ يؤمن بها ويعيشها الغالبية العظمى من البشر؛ هو الذي يحدد أبعاد الأزمة النيتشوية. وهنا تكون القناعة بأنه من غير الممكن عمليّا أن يُحاسَب الإنسان على أفعاله؛ هي المعيار، فلا يعود لمفهوم المسؤولية الجنائية أي وجود في هذا العالم، ولا يمكن بالتالي إلقاء لوم أو امتداح جدارة. إن المهمة التي تواجه البشرية ككل هي أن تتصارع وتعيد الحسابات مع عواقب هذه العقلية الجديدة. هناك أسباب وجيهة للاعتقاد بأن الإنسانية التي تواجه هذا الدحض لأوهامها العالقة والمستمرة؛ ستدمر نفسها في نهاية المطاف. فما الذي يجب فعله إذا أراد البشر البقاء على قيد الحياة في عصر نيتشه؛ حيث لا يعود هناك أي إيمان بحرية الإرادة؟

مستقبل الفلسفة

لا شكّ في أن التخلي عن فكرة الحرية سيمثل تحطيمًا لا رجعة فيه للبشرية كما نفهمها اليوم، مما يؤدي إلى نوع من دوار الرأس لنوعنا البشري. إن مثل هذا الإنكار قد يكون أمرًا لا مفر منه، والإيمان بالحرية أمر يتعذّر استعادته، وليس من الصعب على الإطلاق تخيل ذلك. فكيف يمكن للشخص أن يعيد توجيه نفسه في هذا المناخ المضطرب؟

يجب أن يُقال أولاً أنه على الرغم من أن هذا السيناريو المستقبلي قد يبدو محفزًا لليأس؛ إلا أنه من الوارد أيضًا وبعد فترة من التعديلات أن يكون دافعًا للتحرير من المسؤولية ومن التسلسل الهرمي ومن الخوف. من لا يخاف يكون أكثر استعدادًا للمراهنة على فعل ما، وفي هذا المستقبل سيمتلك الكثيرون من البشر بشكل افتراضي تلك الفضائل النيتشويّة من الجرأة والصدق؛ والتي ستميزهم كأنواع صاعدة؛ لا يضعون أي اعتبار لموقف أو فعل من اختيارهم الخاص، أو أنهم يستحقون الثناء أو الجدارة بسببها، وبالتالي تزيد فقط من حدّة الشعور بالخوف والالتزام.

في ظل هذه الظروف؛ سيكون المفهوم المناسب للحياة هو أنها لعبة: جزء من مسرحية كبيرة وشاملة ومستمرة بلا هدف أو غاية، كل شخص فيها ليس لديه قابلية أكثر من تلك التي لقوالب الصب أو لكرة بلياردو قادمة. الكون كلعبة هو المجاز الذي كان نيتشه مولعا به. إن النظر إلى الكون على أنه لعبة هو بالتحديد ذلك النوع من العين الإلهية المناسب للفيلسوف وهو ينظر إلى الخليقة من وجهة نظر تتجاوز فكرة الخير والشر. هذه الفكرة؛ إلى جانب فكرة أن الوهم وليس الحقيقة ما يحافظ على الحياة، بارزة في كتابات نيتشه المبكرة وغير المنشورة من سبعينيات القرن التاسع عشر (على سبيل المثال في مقالته “الفلسفة في العصر المأساوي للإغريق” و”كتب الفلسفة المهجورة” [6]). تتكرر هاتان الفكرتان أيضًا بشكل بارز في عمل نيتشه الرصين “ما وراء الخير والشر (1886)”، والذي يسميه “مقدمة لفلسفة المستقبل”.

عند التأمّل في الدور الممكن لفيلسوف المستقبل بعالم خالٍ من الحرية؛ فسوف لا يكون مفاجئا جدا أن نعلم أن نيتشه؛ وهو العدو العظيم للمسيحية، يتمسّك بتقدير كبير للطبيعة الدينية الأصيلة؛ تلك الغريزة الملتزمة لصناعة الأسطورة عند الزعيم أو المؤسس الديني. ومن غير المفاجئ أيضا أنه على عكس الصورة التقليدية؛ ففيلسوف المستقبل لن يكون خادماً للحقيقة، بل هو أقرب إلى الفنان. إن الطبيعة الدينية مدرجة بالفعل بين أعلى مراتب الفن، وسيستعين فيلسوف المستقبل بأي آثار دينية لا تزال تحاصر معاصريه، وبالروح الدينية بشكل عام. يجب على فيلسوف المستقبل أن يتحرك في عالم تم فيه نشر وقبول المعرفة الأكثر فتكًا، فهو لم يعد مستودعا لأي حكمة خطيرة أو لا يمكن تحملها كما كان في السابق. يقول نيتشه أن فيلسوف المستقبل سيكون مُغْويا ومُجربًا بين البشر، وهل يمكن أن يكون غير ذلك عندما تكون اللعبة كل شيء؟ بطبيعة الحال، سيتعين عليه أن يتنافس مع بقيّة العازفين والفنّانين، فهكذا فقط يمكن تصوّر الحياة كلعبة؛ بريئة وبلا هدف، تؤدى بشكل فردي أو جماعي، وتتّجه لأن تكون نظاما. مجموعة من الرؤى والتفسيرات وأشكال اللعبة والفرص؛ تتنافس لوهلة دون أن يدعّي أي منها أنها أكثر من مجرد أوهام.

لا يوجد سبب يستدعي عدم قدرة هذا العدد الكبير من أشكال اللعبة على التعايش معا. قد يكون بعضها جديدًا، وبعضها متعصّبا عن وعي. يمكن للمرء أن يتخيل جماعة تتحد معًا لعبادة أودين [7] والعيش كالفايكنغ، واعين تمامًا ولكنهم ملتزمين بالتمثيلية، دون أن تكون هناك أي تمثيلية لديها شرعية أكثر أو أقل من غيرها. فإذا اندلع عنف بين فصيل وآخر؛ فسيكون هذا بحد ذاته مجرد شكل من أشكال اللعبة: الحرب كلعبة، كتجربة في الحياة، أو كتجربة يجب أن تكون. يجب على فيلسوف المستقبل أن يقف في هذا العصر النيتشوي كبائع متجوّل لنسخة مغرية من هذه اللعبة؛ واصفا سردا أو رؤية تجبر على الالتزام. وبلغة ستبدو بالتأكيد غامضة في ذلك الزمن المستقبلي؛ يخلق قيمًا جديدة أو يعطي معنى للوجود. ما يمكن تخيّل أن تقدّمه فكرة “الحياة كلعبة” للفرد هو الدعوة: “اختر وهمك”. اختر مع العلم الكامل أن ما تختاره ليس سوى وهم، واعيًا تمامًا أنك لست في الحقيقة من يقوم بالاختيار على أية حال. تقول فلسفة المستقبل بالتالي: استسلم للعبة، وتخلّى عن كل الاستياء. تبنّى أو أرفض المواقف كما يحلو لك، أعبر هذا الحياة الوجيزة بخفّة، مدركا بأنك والحياة لديكما الجوهر الكامل للنار الحمقاء [8].

مستقبلنا المحتمل

لم نصل بعد إلى أزمة نيتشه بالطبع، ولا حتى لأن نحسب حسابها بالفعل. ولكن من الوارد حقًا ونحن في أوائل القرن الحادي والعشرين؛  بعيوننا وعقولنا البدائية؛ المتشبّثة بخيال الإرادة الحرة وغيرها من الخرافات؛ كوجود غاية أو قيمة للحقيقة؛ سيبدو لنا مستقبلنا النيتشوي فظيعا للغاية. ومع ذلك؛ فإن جميع نزعات العلم خلال القرون القليلة الماضية كانت تميل إلى تقويض المفاهيم التقليدية للحرية والإرادة بدلاً من دعمها، وقد اعترف عدد غير قليل من الفلاسفة – وبشيء من الاتزان عموما – بأن بعض أشكال الحتمية في المتوسّط؛ ربما كان صحيحا.

خلال الكتابة قريبا من نهاية القرن التاسع عشر؛ أكّد نيتشه أنه كان يسجل تاريخ المائتي سنة القادمة. فإذا كان صحيحًا في توقّعاته؛ فسيجبرنا التقدم المعرفي في نهاية القرن الحالي؛ إذا كنّا ما نزال على الأرض، على المرور إلى عصر نيتشه من إنكار الحرية و ودخول اللعبة الرائعة. قد نبدأ في التفكير في هذا المستقبل من خلال ترتيبه من بين المخاطر الوجودية للبشرية، إذ أن خسارتنا لأوهامنا المستمرة قد يحفز تدميرنا بالفعل. من تلك البداية المثيرة للقلق؛ قد نمضي قدمًا بالعودة إلى نيتشه الذي لا يقدم نفسه على أنه نبي فحسب بل كمرشد أيضا؛ على الأقل لمن له آذان ليسمعه.

—–

ملاحظات:

[1] Galen Strawson: فيلسوف بريطاني مادي اشتهر بأعماله عن جون لوك وديفيد هيوم وإيمانويل كانط بالإضافة إلى نيتشه.

[2] Dunedin Study: دراسة مستمرة منذ (1972) لتتبع التطوّر في نمو وتغيّر عدد (1034) فرد من مواليد مدينة دندين بجنوب نيوزيلاند بين (1 إبريل 1972) و(31 مارس 1973).

[3] Impulse Control: مفهوم في الطب النفسي يشير إلى اضطراب يؤدي إلى ضعف في القدرة على التحكم بالدافعية عند الأطفال.

[4] Toxoplasma Gondii : يترجم أحيانا إلى “المقوّسة الأرنبية”، وهو أحد الطفيليات الشائعة في أجسام الفقاريات والثدييات والطيور.

[5] ARC: اختصار لـ Activity-regulated cytoskeleton-associated، وهو بروتين قديم جدا كان جزءً من فيروسات عاشت في عصور ما قبل التاريخ.

[6] abandoned Philosophenbuch : ربما يقصد الكاتب هنا بعض مقالات كتاب Untimely Meditations المنشورة عن طريق منشورات جامعة كامبريدج في 1997.

[7] Odin: كبير الآلهة في الأساطير الجرمانية والشمالية.

[8] Will-o’-the-wisp: في الفلوكلور الغربي؛ النار الحمقاء أو وهج المستنقعات هي مصطلحات تشير إلى ضوء متوهّج كان يظهر قريبا من المستنقعات أو المقابر ويظلل العابرين أو المسافرين. والمعنى المقصود أن يسير الإنسان بأمل الوصول إلى غايته دون أن يصل، فيكون دائما في وضع مربك.

Visits: 34