يناير 23, 2025

براكسيس رمادي

حيث الفكرة الحرة تقود التغيير

التجريد.. الجمال.. والرياضيات

محمد العجمي

في تعليم الرياضيات؛ يتعلق التجريد بإكساب المتعلم صنعة الخيال، وذلك بتخليص المحسوسات من ماديتها لدى المتعلّم، ومن ثم البدء في التعامل معها ذهنيا. لا يتم ذلك في بادئ الأمر بدون حفظ قدر من الرموز والعلامات والأرقام والمعلومات الأساسية. فبعد استخدام مواد معينة كالحصى أو الكرات أو حبّات الفواكه؛ لجمع أربعة إلى خمسة مثلا، فتكون الحصيلة هي تسعة، يتم لاحقا استخدام الأرقام والرموز (4 + 5 = 9). بحيث عندما تصبح الأعداد كبيرة أو عندما تتكرر كثيرا، فلا داعي لإحضار الحصى والمواد الملموسة في كل مرّة لمعرفة الناتج، وإنما يتم الاكتفاء بالرموز وبالورقة والقلم. ما يجري في حقيقة الأمر هو أن المُخيّلة هي التي تُجري العمليات، وما نستعمله في الاتصال فيما بيننا هو الرموز والعلامات والأرقام. فنحن نعلّم أطفالنا وندربهم ليفكّروا على نحو تجريدي. وهذا التجريد هو ما يجعل الرياضيات مادة غير محبوبة من الكثير من التلاميذ. إذ تتطلّب تدريبا مستمرا ومتواصلا للتعامل مع الرموز، والانتقال إلى أمثلة أكثر تعقيدا لرفع قابلية المخيّلة على إجراء الكثير من العمليات التي يستحيل تنفيذها على مستوى الواقع.

التجريد مهم جدا في تطوّر العلوم، إذ أن المشاكل التي تستطيع الرياضيات التعامل معها لا تعود محدودة بالملموسات فقط، فعبر المُخيّلة المدرّبة بشكل جيّد يمكن حل قضايا أكثر تعقيدا كبناء الجسور وقياس أحجام الكواكب والمسافات بين النجوم وتوقّعات الطقس والأسعار وهندسة الأجهزة الدقيقة. وهذا يُفسّر لماذا الرياضيات في أحيان كثيرة تستبق الكثير من الحقول العلمية وتمهّد لها عبر قدرتها على اختبار الحالات القصوى التي لا يمكن للبراهين العلمية أن تبلغها إلا بعد مدة طويلة. الكثير من الإنجازات العلمية بدأت كتنبؤات رياضية صرفة؛ ظل العلماء لعقود يحاولون إثباتها، فيأتي البرهان العلمي بعدة مدة زمنية على صدق الأرقام التي تقدمها الرياضيات. ومن ذلك اكتشاف الكوكب نبتون، ووجود أمواج الراديو، والنيوترينو، والمادة المضادة، والثقوب السوداء، وأمواج الجاذبية، وبوزون هيجز. يكفي أن نعرف أن النماذج الرياضية هي التي تقود علماء الطقس في تحذيراتهم، وخبراء السوق في تحليلاتهم المالية، وعلماء البيولوجيا في تتبع نمو ورم سرطاني ما. حتى العلوم الاجتماعية اليوم تحاول أن تبحث عن رياضيات خاصة بها تساعدها في التنبؤ بسلوك الكائن البشري [١]. فالتجريد الرياضي في غاية الأهمية لتقدم العلوم، وهو في نفس الوقت ما يصنع التعقيد في الرياضيات.

هذه الصعوبة في تعليم وتعلّم الرياضيات وممارستها ترجع بشكل أساسي إلى أنها تعتمد كليّا على عمليات الذهن، وما لم يفطن المتعلم إلى ذلك، فستظل الرياضيات مادة معقّدة وصعبة ولا يكاد يجد أمثلة مباشرة على المهارات التي يعمل عليها. السرّ الذي يمكن أن أقترحه هنا في هذا المقال؛ هو في ضرورة ربط الرياضيات بالمخيّلة. فتحسين أداء المخيّلة يتبعه وبشكل مرجّح جدا تحسّن في القدرة على التجريد وبالتالي ممارسة الرياضيات والعمل مع الرموز والأرقام بسلاسة أكبر. ولكن كيف يمكن تنمية المخيّلة وتحسين أدائها؟ من المهم قبل ذلك أن أشير إلى أن التجريد هو انتقال من مستوى معيّن له نظامه الخاص في المعالجة والتعامل؛ إلى مستوى متعالي وذهني؛ له أيضا معاييره وشروطه الخاصة في العمل. فعلى مستوى الواقع نحن نلاحظ الأشياء من حولنا ونرسم عنها صورة خاصة، ونقترب ونبتعد عنها بالمكان والزمان، ونستطيع أن نحرّكها ونلعب بها ونجرّبها. ولكن بعد تجريدها من خواصها الفيزيائية وتحويلها إلى رموز داخل الذهن؛ تفقد قدرتها في التأثير على الدماغ البشري الذي لن يعود يتصل بهذه المواد والمكونات، إذ سيكتفي بالتعامل مع الرموز.

وهكذا فبعد أن كانت المخيلة تستمد طاقتها ونشاطها من الواقع الملموس؛ يتوقّف فجأة هذا المصدر، وتصبح تعتمد كليّا على تدوير الرموز والأشكال والأرقام داخلها، فتفقد مرونتها وقدرتها على التوسّع، وما لم تنجح في اكتساب آليات مختلفة للعمل والتمدد عبر ابتكار صور وعلامات وتركيبات جديدة؛ فإنها ستظل تعاني من الجفاف والصرامة واللغة الرياضية المجرّدة. فكيف تستطيع المخيّلة تجاوز هذه الحالة؟ يمكن أن أقترح هنا فكرة الجمال داخل الرياضيات. يُلفت فريدريك هيجل في مقالة مهمة له بعنوان “من يفكر تجريديا؟”[٢] إلى نقطة بالغة الأهمية يجب أن تصاحب دائما التدريب على التجريد، وهي تحسين وتهذيب الذائقة الجمالية لدى الصغار، فالتجريد بدون الإحساس بالجمال يشوّه الشخصية، للدرجة التي قد يحوّلها إلى كائن لا إحساس له بما حوله، ذلك لأن التجريد يعمل ضد إرادة العالم بحسب هيجل. الواقع مليء بالتفاصيل، والتجريد يعمل عكس ذلك؛ يقاوم هذه التفاصيل ويعمل على حذفها حتى لا يبقى منها سوى الصورة المطبوعة في الذهن والتي يُستعاض عنها برمز. التربية الجمالية في غاية الأهمية هنا، ويجب أن تتخلل مهارات من قبيل الحساب الذهني والمنطق الصوري والنحو والفيزياء النظرية والتعليم الديني. ولكن التحدي هنا هو أنه واضح ماذا نعني بتعليم الرياضيات، ولكن ماذا نقصد بتعليم الجمال؟

التحدي في تعريف الجمال هو في ارتباطه الشديد بذاتية الأفراد، فالجمال لدى الكثيرين ليس في الأشياء ولكن في العيون؛ أي في الذوات؛ كيف ترى الأشياء، وهذا يعني أننا لا نستطيع أن نتعامل مع الجمال خارج الخبرة الشخصية لكل فرد. النقيض من ذلك هو أن الأشياء تمتلك جمالا في ذاتها بحيث يمكن أن يتّفق الجميع على أن لوحة فنية مثلا جميلة، أو أن مبنى معين قبيح. جورج سانتاينا؛ فيلسوف الجمال الأمريكي (الإسباني)، يطرح فكرة الإحساس بالكمال الباعث على تحقيق لذّة لدى المشاهد؛ أي أن الجمال هنا هو تجربة حسية تنتج من تفاعل الشعور مع الكمال الموجود في الأشياء، فهناك مجموعة من الخصائص التي يمكن تقديرها كميّا في الأشياء تجعلنا نخلع عليها صفة الكمال عندما تحقق لنا انفعالا إيجابيا [٣]. يمكننا في ضوء هذا الفهم أن نفكر في الكمال الذي تصنعه الرياضيات وما ينتجه من دهشة وشعور بالإعجاب ولذّة إيجابية. يمكن أن أضرب هنا مثالا لهذا الكمال فيما يعرف في الرياضيات بمتتالية فيبوناتشي، بتطبيقاتها العديدة في الطبيعة [٤]. وهي متسلسلة من الأرقام؛ بلغت من كمالها أن فتنت الرياضيين منذ أيام الهند القديمة، فحيكت حولها الكثير من الأساطير؛ للدرجة أنها أصبحت مقياسا للجمال والكمال في وجه الانسان.

إن الكمال في الأشياء والذي تستطيع الرياضيات أن تعبر عنه بالأرقام والمقادير والمبرهنات؛ يمكن أن يكون مدخلا من مداخل ربط التجريد الرياضي بالجمال، وبالتالي تصبح تلك الصرامة في لغة الرياضيات شكلا من أشكال الجمال فيها، والذي يمكن ربط المتعلّم به، فالتجريد بما يخفيه من تفاصيل الأشياء؛ يكمن الجمال فيه في قدرته على تطبيق النماذج الرياضية على أمثلة كثيرة، وفي اختبار حالات أكثر تعقيدا أو لم تكن تخطر في البال. فالمعنى هنا أن يتم شحذ مخيلة التلاميذ في التعامل مع المجردات بالجماليات التي تنتجها الرياضيات أو تكتشفها في الطبيعة. إنه أمر يشبه السحر القديم عند الفيثاغوريين عندما كانوا يلعبون بالأرقام لاكتشاف خصائصها السحرية وبالتالي يتم استخدامها في بعض الطقوس الدينية. فللرياضيات فتنتها الخاصة التي تتطلب مستوى مختلفا في رؤية الجمال وفي تطبيق هذه الرؤية لاكتشاف مجالات وأفكار جديدة لعمل وممارسة الرياضيات، وبالتالي صنع تلك اللذة الخاصة التي يجدها الرياضيون.

——-

المصادر والملاحظات:

[١] للمزيد حول أهمية الرياضيات في التنبؤ بالمستقبل، يمكن الرجوع لهذا المقال على الرابط: http://theconversation.com/can-math-predict-what-youll-do-next-78892

[٢] يمكن العودة إلى المقالة على الرابط: https://www.marxists.org/reference/archive/hegel/works/se/abstract.htm

[٣] جورج سانتيانا، الإحساس بالجمال.. تخطيط لنظرية في علم الجمال. ترجمة: محمد مصطفى بدوي، المركز القومي للترجمة 2011. ص74.

[٤] للمزيد عن متتالية فيبوناتشي يمكن الرجوع إلى صفحة المتتالية من مجلة العلوم الحية، على الرابط: https://www.livescience.com/37470-fibonacci-sequence.html

Views: 2