أبريل 27, 2024

براكسيس رمادي

حيث الفكرة الحرة تقود التغيير

هل يجب على الدولة الليبرالية أن تحظر البرقع؟

براندون روبشو – مجلة الفلسفة الآن (العدد 135)
ترجمة محمد العجمي (رابط المقال الأصلي)

منذ بضع سنوات؛ كنت أدرس الفلسفة لطلاب السنة السادسة بإحدى الكليات (المستوى أ من عمر 16 إلى 18 عامًا، لغير البريطانيين)؛ عندما دخلت طالبة ترتدي ثوبا أسودا طويلا ووجهها مغطى بنقاب، تاركة فتحة ضيقة فقط لعيونها تتطلع من خلالها. لقد دُهشت، إذ بدت لي الطالبة ببساطة أنها لم تكن تتقيّد بالقوانين. لو دخل أي طالب آخر يغطى وجهه بوشاح ما أو بقناع الوجه؛ كنت سأطلب منه إزالته.

ومع ذلك؛ فالنقاب هو ثوب ديني، ويشعر المرء بحساسية معينة تجاه التدخل في الواجبات الدينية للآخرين. استمرّ الفصل هكذا؛ حيث بدأنا بوحدة حول قيمة التسامح، وهذه كانت فرصة ذهبية لممارسة ما بشّرت به؛ تطبيق “مبدأ الضرر” الشهير لجون ستيوارت ميل، وهو فكرة أن المبرر الوحيد لتقييد حرية الناس هو لمنعهم من إلحاق الضرر بالآخرين. ولم تكن تلك الطالبة تؤذي أي شخص بأية طريقة يمكنني رؤيتها. لذلك لم أقل شيئًا، واستمر الدرس.

ولكن مع ذلك؛ فعند التفكير في الأمر لاحقا؛ بدا لي أن هناك مشكلة ما هنا. فاختيار الطالبة لتغطية وجهها جعل التواصل معها صعبًا (ولا غرابة في ذلك؛ إذ أن هذا هو الغرض من البرقع والنقاب). في أي مناقشة فلسفية؛ تعد تعبيرات الوجه مهمة، فأنت بصفتك معلمًا؛ يمكنك رؤية الحيرة ومدى الاستيعاب والاعتراض الجزئي كل ذلك ظاهرا على الوجوه. (برتراند راسل قال مرة عبارة مشهورة؛ أنه عندما كان يحاضر في كامبريدج؛ كان يعلم أن الشاب فيتغنشتاين هو الطالب الوحيد الذي فهمه لأنه الوحيد الذي بدا متحيرّا). هذه الإشارات البصرية كان من المستحيل معرفتها، وهذا لا يؤثر عليّ أنا فحسب؛ ولكن على الطلاب الآخرين أيضًا.

سألتُ إدارة الكلية إذا كان لدينا قانون معين حول تغطية الوجه في الفصل. قيل لي أننا لم نفعل ذلك، ولن نفعل ذلك أيضًا؛ فالقضية مسألة تنوع، والكلية لا ترغب في التمييز ضد أي مجموعات ثقافية أو دينية. أستطيع أن أرى أهميّة ذلك، ومع وجود طالبة واحدة تغطي وجهها؛ لن يخرج الفصل بأكمله عن مساره. ولكن ماذا لو لم يكن هنالك طالبة واحدة فقط، بل ستة أو ثمانية أو اثني عشر طالبة تغطّي وجهها؟ سوف تتضاعف صعوبات الاتصال إلى الحد الذي تصبح فيه المناقشات الجماعية والعمل الجماعي شبه مستحيل. وستكون هناك مشكلات في تحديد الهوية أيضًا.

في نحو ذلك الوقت تقريبًا (2010) عندما أصدرت حكومة ساركوزي في فرنسا قانونًا يحظر ارتداء البرقع والنقاب في الأماكن العامة. بدا لي ذلك القانون خطوة مُبالَغ فيها جدا. في بعض المواقف التي يكون فيها الاتصال أو تحديد الهوية أو الأمن مسائل مطلوبة؛ قد يكون من المشروع طلب إزالة غطاء الوجه بشكل مؤقّت، ولكن ليس حظرًا شاملاً، بحيث لا يستطيع الناس حتى السير في الشارع أو انتظار الحافلة أو الخروج إلى المتاجر مع البرقع. كلا النهجين غير صحيحين بالمرّة؛ لا سياسة عدم التدخل كما في كلّيّتي ولا سياسة التدخل القمعي لدى الحكومة الفرنسية.

لذلك قررت دراسة السؤال لنفسي. لقد التحقت لدراسة الدكتوراه بأطروحة عنوانها “هل يجب على الدولة الليبرالية أن تحظر البرقع؟”، وأريد هنا أن أشارككم بعض أبحاثي واستنتاجاتي. ما يلي هو بالضرورة استعراض موجز، إذ لا توجد المساحة الكافية لمناقشة قضايا مثل قيمة الاستقلال الشخصي أو مواءمة التفضيلات أو النظريات المتنافسة للتعددية الثقافية. ولكن في خطوطه العريضة؛ سيكون هذا العرض مناسبا للموقف الذي توصّلت إليه. سوف أستخدم البرقع كمصطلح عام ليشمل كل من البرقع والنقاب. البرقع هو ثوب من قطعة واحدة يطوّق الوجه وترتديه النساء المسلمات (وتحديدا؛ النساء الوهّابيات)، والذي في بعض أشكاله يغطي العين بشاش رقيق، أما النقاب فهو حجاب للوجه يترك شقًا للعيون وعادة ما يتم ارتداؤه مع غطاء الرأس والعباءة. يتم ارتداء كلا القطعتين لأسباب دينية بشكل أساسي، كما يمكن ارتداؤها أيضًا لأسباب ثقافية أو سياسية. كلاهما يقع ضمن مجال بحثي، فكلاهما يخفيان الوجه. الملابس التي تغطي الشعر فقط كالحجاب؛ ليست ذات صلة بسؤالي. وفي الحقيقة؛ لا تبدو لي أنها مشكلة بأي حال من الأحوال.

ما هي الدولة الليبرالية؟

“الليبرالي” مصطلح مُبهم في الفلسفة السياسية. يمكن للمرء أن يكون ليبراليًا كلاسيكيًا، أو ليبراليًا سياسيًا، أو ليبراليًا مساواتيًّا egalitarian، أو ليبراليًا مثاليًا. سأستخدم الكلمة بمفهومها الواسع الذي يشمل جميع التصورات المتصارعة. لهذا باختصار؛ الدولة الليبرالية هي الدولة التي يكون فيها جميع المواطنين أحرارًا ومتساوين من حيث الحقوق. والحرية واسعة إلى أكبر قدر ممكن؛ بما يتوافق مع عدم انتهاك حريات الآخرين.

يصنع البرقع معضلة لليبرالية بشكل لا يصنعها لدى أية مواقف سياسية أخرى. فعلى سبيل المثال؛ لا يبدو السؤال “هل يجب على الدولة الثيوقراطية [الدينية] أن تحظر البرقع؟” مثيرًا للاهتمام، لأن الإجابة ببساطة تعتمد على أي نوع من الثيوقراطية نتحدّث. إذا كانت الثيوقراطية إسلامية سلفية؛ فلا بالطبع، وإذا كانت مسيحية أو هندوسية أصولية؛ فيجب الحظر بالتأكيد. وكذلك بالنسبة لـلسؤال “هل يجب على دولة محافظة (غير إسلامية) أن تحظر البرقع؟”؛ فمن المحتمل أن يكون الجواب نعم، على أساس أن ارتداء البرقع لن يتماشى مع ثقافة وتاريخ وتقاليد مثل هذه الأمة، والمحافظون بحكم تعريفهم يثمّنون ويدافعون عن ثقافتهم وتاريخهم وتقاليدهم. وسواءً إذا كانت الدولة ماركسية (أو تدعّي الماركسية)؛ فمسألة حظر البرقع ستكون موضع جدال. إذ لا تشترط الأيديولوجية الماركسية أي التزام محدد تجاه التسامح الديني، ولا يبدو أن البرقع ينهض بقضية الصراع الطبقي أو بالمساواة الاقتصادية، لذلك لا يوجد سبب مبدئي لعدم حظره. ربما سيعتمد ما إذا كانت الدولة الماركسية قد تحظر البرقع أم لا؛ على المصلحة العامة بدلاً من المبدأ. وهكذا ففي معظم الحالات؛ فإن مجرد تسمية نوع الدولة يعطي فكرة قوية عن المسار الذي ستتخذه الدولة تجاه البرقع.

لكن بالنسبة للدولة الليبرالية فإن القضية أقل وضوحاً. البرقع هو رمز ديني، وينظر إليه الكثيرون إن لم يكن معظم الذين يرتدونه على أنه واجب ديني. الليبرالية تشترط التزامًا قويًا تجاه التسامح الديني؛ بل من هنا بدأ كامل التقليد الغربي لليبرالية. الحرية الدينية هي حجر الزاوية في الحقوق الليبرالية، وعلى الليبراليين أن يتعاملوا بجدية مع أي تهديد لها. في المقابل؛ تشترط الليبرالية أيضًا الالتزام بالمساواة، بما في ذلك المساواة بين الجنسين. ويبدو أن ارتداء البرقع من قبل النساء فقط؛ يمكن أن يتسبب بأضرار ما عليهن، وهذا هو سبب القلق الليبرالي. هناك أيضًا مسألة التأثير الذي قد يخلّفه تغطية الوجه في الأماكن العامة على أفراد المجتمع الآخرين. وهكذا يسلط هذا الموضوع الضوء على ذلك التوتر بين مجموعة من المبادئ الليبرالية المهمة.

ما يجب التفكير فيه حول الموضوع

سرعان ما وجدت أن معظم المواد المكتوبة حول هذا السؤال كانت صحافة على مستوى جدلي استقطابي؛ معنية أكثر باستدعاء أجندة المعارضين وليس للنظر في حججهم بنية حسنة. وتبدو لي هذه الطريقة غير فعّالة وغير فلسفية أبدا للمضي قدمًا في القضية، فإذا قدّم شخص ما حججًا تؤيّد حظر البرقع؛ فتستطيع تسمية ذلك إسلاموفوبيا لو أردت، وقد تكون على حق، ولكن لن يجعلك ذلك مشتغلا بتلك الحجج. وحتى لو جرى تقديم الحجج بسوء نية؛ فلا يزال يتعين الحكم عليها من حيث حيثيّاتها الموضوعية. يستطيع شخص آخر غير متحيّز أبدا ضد الاسلام؛ أن يأتي ويدفع بنفس الحجج، فماذا يمكنك أن تقول؟

جاء الحظر الفرنسي في أعقاب تقرير من (650) صفحة تم إعداده من قبل لجنة خاصة، ويشتمل على مقابلات مع فلاسفة ومحامين وعلماء أنثروبولوجيا وعلماء اجتماع وعلماء مسلمين وممثلين عن جماعات نسوية. كان التقرير مليئًا بالحجج والأفكار والأدلة والتحفّظات والخطوط العريضة للمواقف والنقد الموجّه لتلك المواقف. وكما جرى؛ فإني أعتقد أن استنتاج التقرير لصالح تأييد حظر عام؛ كان خاطئًا. ولكن رفض هذا التقرير على أنه مجرد تحيز ضد المسلمين هو كسل فكري. وافتراض أن الاعتراض على الحظر هو تأييد للمسلمين؛ مع تجاهل حقيقة أن المسلمين أنفسهم لديهم وجهات نظر مختلفة حول الموضوع، هو أيضا تجنُّب عن مناقشة الأسباب الفعلية لإمكانية أو عدم إمكانية تبرير قرار الحظر. لهذا السبب وعبر رسالتي للدكتوراه؛ قرّرت النظر في هذا السؤال على المستوى التجريدي بعيدا عن أي تسييس وبدون أي محاولة لتخمين أجندة خفية ما وراء وجهة نظر معينة. كما قال ت. إس. إليوت: من الممكن دائمًا فعل الشيء الصحيح للأسباب الخاطئة، ولكن هذا لا يعني عدم وجود أسباب صحيحة. خلال بحثي اتخذت المسار الذي يجعلني أتلقّى الحجج وأناقشها وأقيّمها بنية حسنة.

الانطباع الأول عن الموقف الليبرالي من تغطية الوجه

لنفترض أننا أوقفنا التفكير في ارتداء البرقع كممارسة دينية أو ثقافية، بحيث نتعامل معها ببساطة على أنها عرف عام وتغطية طوعية للوجه. من الواضح أن الليبراليين سيعارضون تغطية الوجه بالإكراه، فهذا سيكون تعديا على الحرية الشخصية. لكن تغطية الوجه الطوعية هي تعبير عن الحرية الشخصية، فهل هناك سبب يمنع الدولة الليبرالية من حظر تغطية الوجه الطوعية المعتادة؟

قد تتسبب هذه الممارسة أحيانًا في صعوبات معينة بالمواقف التي يكون فيها الاتصال أو الأمن أو تحديد الهوية أمرًا بالغ الأهمية، كما في المحاكم القانونية والفصول الدراسية والمطارات واختبارات القيادة أو الامتحانات العامة. في بعض هذه الحالات يمكن إجراء ترتيبات بديلة لتسهيل الاتصال أو تحديد الهوية. فإذا لم يكن ذلك ممكنًا؛ فإن الإزالة الإجبارية المؤقتة لغطاء الوجه قد تبدو حلًا أكثر تهذيبا، وبالتحديد؛ أكثر دقّة في تحقيق المطلوب بالمقارنة مع الحظر الشامل. وبالتالي فإن الانطباع الأول عن الموقف الليبرالي من تغطية الوجه المعتادة الطوعية؛ سيسمح بذلك عموما مع استثناءات للظروف الخاصة، ولا يحتاج المرء لفهم هذا الموقف أن يستدعي الحجج حول التسامح الديني أو الاعتراف بالثقافات. ولكن السؤال في الواقع هو حول ما إذا كان إضافة تفاصيل أخرى يمكن أن يصنع فرقا في هذا الموقف المبدئي. تفاصيل من قبيل أن ارتداء البرقع هو ممارسة دينية ثقافية، وأن النساء فقط هن من يرتدي البرقع.

ثلاثة أسباب للحظر

عرضت الحكومة الفرنسية ثلاثة أسباب لقرارها عن الحظر: احترام الكرامة الإنسانية، وتعزيز المساواة بين الجنسين، وتلبية متطلبات العيش سويّا vivre ensemble. تتوافق هذه الأسباب بشكل عام مع مبادئ الثورة الفرنسية للحرية والمساواة والأخوة.

في عام 2014، اعترض مواطن فرنسي عُرف اسمه بـ “S.A.S” على قرار الحظر، وذهبت القضية إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (ECHR)، وبأغلبية خمسة عشر صوتًا مقابل صوتين؛ أيّدت المحكمة الحظر باعتباره قانونيًا. ليس لجميع الأسباب الثلاثة السابقة، ولكن فقط لسبب واحد استمرّ حتى اليوم. فتأييدا للدولة الفرنسية؛ وجدت المحكمة أن الحظر كان مدفوعًا بمتطلبات العيش سويّا، والتي جرى ربطها بالهدف المشروع المتمثل في حماية حقوق وحريات الآخرين. لكن الأهداف الأخرى المعلنة، وهي تعزيز المساواة بين الجنسين واحترام كرامة المرأة؛ لم يتم قبولها كمبررات للحظر. دعونا نلقي نظرة سريعة على هذه الأسباب الثلاثة.

كرامة الإنسان

تنطلق حجة الكرامة الإنسانية من افتراض أن تغطية وجه المرء أمر مُهين له، فهي تجعله غير مرئي ومُهمّش، وغير قادر على المشاركة على قدم المساواة في التفاعلات الاجتماعية، ومحروم من أي شكل من أشكال المهن العامة. ربما يكون هذا صحيحًا؛ أو صحيحًا جزئيًا، أو صحيحًا في بعض الأحيان. ولكن ماذا لو اختار الفرد أن يكون غير مرئيًا ومهمّشًا، ضمن المجال العام أو الاجتماعي؟ قد نلاحظ أن الرهبان والراهبات الذين ينضمون إلى أنظمة مغلقة؛ ينسحبون بالتالي من الحياة العامة، ولا أحد يقترح عدم السماح لهم بذلك. كامل المغزى من الدول الليبرالية هو أنها تعددية. فليس للدولة الليبرالية أن تحدد أي نوع من أنماط الحياة يتوافق مع الكرامة وأيها لا يتوافق. سيكون ذلك أبويًا بشكل غير مقبول، بل وغير ليبرالي.

المساواة بين الجنسين

تبدو لي أن حجة المساواة بين الجنسين أقوى. فالمساواة السياسية بين المواطنين بغض النظر عن الجنس هو مبدأ ليبرالي أساسي. وليس هناك شك في أن عادة تغطية الوجه في العموم تضر الفرد بأكثر من طريقة. ولكن كما أشارت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان؛ طالما كانت الممارسة طوعية، وتم تبنيها بحرية، ويتم الدفاع عنها من قبل النساء المعنيات أنفسهن، فلا يحق للدولة حظرها. إن القيام بذلك من شأنه أن يتخطى الحقوق والحريات ذاتها التي يجب عليها حمايتها.

يؤمن الليبراليون بالطبع بالمساواة بين الجنسين، ويرغبون في تمكينها وتعزيزها وحمايتها، ويستلزم ذلك التزامًا بمنع التمييز غير العادل ضد المرأة، وتوفير الحماية القانونية ضد السلوك الإكراهي تجاههن من قبل الرجال (أو النساء الأخريات)، وضمان أن تكون النساء على اطلاع جيد بحقوقهن. ولكن الليبراليين أيضًا لا يؤمنون بأنه يجب فرض مخرجات متساوية، فإذا اختارت المرأة بحرية أن تشغل المجال المنزلي بشكل شبه حصري، أو أن تكون تابعة ومطيعة لزوجها، فإن ذلك لا يعني الدولة الليبرالية في شيء.

العيش سويّا

تختلف حجّة العيش سويًّا بشكل نوعي عن السببين الآخرين، لأنها لا تتعلق بالتأثير على من ترتدي البرقع؛ بل على نتائج ذلك على الآخرين، ولهذا السبب تم قبول الحظر من قبل المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. فقد قالت في حكمها: “وبالتالي؛ فإن المحكمة تستطيع قبول أن العائق الذي يُرفع ضد الآخرين بواسطة حجاب يخفي الوجه؛ يُعتبر من قبل الدولة المدعى عليها أنه ينتهك حق الآخرين في العيش في مجال من الحياة الاجتماعية يجعل العيش معًا أسهل”.. يتماشى هذا الرأي مع التقليد الجمهوري الفرنسي؛ الذي يُشدّد على واجبات المواطنين تجاه الدولة.

بنظرة أكثر ليبرالية، ومع تركيز أكبر على حرية الفرد؛ يمكن ملاحظة أولاً أن هناك عدّة أشياء ضرورية للناس للعيش معًا؛ إما لتشكيل علاقات بينيّة، أو لتعارف الغرباء في المجال العام، أو لإجراء المعاملات معًا بسهولة وثقة، ومن هذه الأشياء: التهذيب، والابتسامات، ودماثة الخلق، والمصافحات، وعبارات الشكر، ومستوى من إخفاء المشاعر الحقيقية، واللغة المشتركة، وغيرها. كل هذه المتطلبات ستفقد الكثير من قيمتها إذا تم فرضها بشكل قانوني. ونظرًا لأن الليبراليين عموما يقدّرون عاليا الاستقلالية الشخصية؛ فإنهم يميلون لدرجة معينة إلى الرأي القائل بأن الأمر متروك للأفراد؛ إلى أي درجة هم منفتحون على الآخرين في المجال العام. يجب أن يُسمح للأفراد قانونًا بأن يكونوا منعزلين ولهم خصوصيتهم، أو متحفّظين، أو حتى وقحين وبغيضين في تعاملاتهم اليومية مع الآخرين (إلى حد ما على الأقل)، بل وحتى أن يرفضوا المجتمع برمّته إذا اختاروا حياة النسك والرهبنة.

مشكلة الإكراه

لقد افترضنا حتى الآن أن ارتداء البرقع أمر طوعي. ولكن لو كان ذلك يتم بالإكراه فستكون الصورة مختلفة. عندها سيكون على الدولة الليبرالية التدخل، لأن إجبار امرأة ما على تغطية وجهها ضد إرادتها سيكون انتهاكًا خطيرًا لحريتها، وضررًا خطيرًا عليها.

لا يمكننا بالطبع أن نحدّد إلى أي مدى يمكن أن يحدث هذا الإكراه. ربما لا يوجد أي إكراه مطلقا. ولكن إذا كان هناك سبب وجيه للاعتقاد بحدوث ذلك؛ فيجب على الدولة الليبرالية أن تفعل شيئًا. ولكن ما الذي يمكن أن تفعله؟ يمكن أن يؤدي الحظر العام على ارتداء البرقع إلى عواقب غير مرغوب فيها، تاركا النساء المُكرهات في حال أسوأ. لنفترض على سبيل المثال أن المرأة تتعرض للاضطهاد من قبل زوجها أو أقاربها الذكور؛ إلى الحد الذي يرفضون السماح لها بالخروج في الأماكن العامة إذا تم الكشف عن وجهها. في هذه الحالة؛ إذا تم حظر تغطية الوجه؛ فإنها قد تجد نفسها تحت إقامة جبرية حقيقية، وستكون بالتالي مضطهدة أكثر من ذي قبل.

إن اتباع أسلوب أكثر نعومة أو تكتيكية من الحظر التام؛ قد يثبت أنه أكثر فعالية في تجاوز ارتداء البرقع بالإكراه، وأكثر تحرير للنساء المعنيات. أتذكر هنا حكاية إيسوب حول الشمس والريح اللتين تتجادلان حول من هو الأقوى. للتأكّد من ذلك؛ فقد تَقرّر معرفة من يمكنه إجبار مسافر على إزالة معطفه؛ الريح أم الشمس. حاولت الريح أولاً؛ تدفع الرجل بشراسة محاولة نزع المعطف عنه، لكن الرجل ببساطة أخذ يتشبّث به أكثر. ثم حان دور الشمس؛ فأخذت ترسل أشعّتها مدفّئةً الرجل؛ إلى أن نزع معطفه عنه طواعية.

القياس ليس دقيقًا. في حالات الإكراه؛ لا يمكن للنساء أنفسهن اختيار إزالة البرقع، ولكن أزواجهن أو أقاربهن الذكور يجب أن يسمحوا لهن بذلك. ومع ذلك؛ قد تكون الشمس اللطيفة المتسامحة هي الطريقة الأكثر فاعلية لإقناع هؤلاء الرجال. في الوقت نفسه؛ يمكن للدولة الليبرالية أن تطلب إزالة البرقع عندما يتطلب الوضع ذلك؛ في المدارس والمطارات والبنوك ومحاكم القانون وغير ذلك. وبهذه الطريقة يمكن أن يُنظر إلى البرقع على أنه قطعة يمكن وضعها وإزالتها؛ عوضا عن كونها عائقا دائما بين العالم وبين من ترتديها. وقد تصبح مهمة ثني الرجال عن إجبار زوجاتهم أو بناتهم على ارتداء واحدة منها أسهل، لأن المخاطر ستكون أقل. لن يصنع هذا الأسلوب أية مشاكل حيث إننا في غنى عن ذلك، كما يمكن أن يساعد في التعامل مع مشكلة الطالبات اللاتي لا يمكن رؤية وجوههن.

Visits: 17