أبريل 26, 2024

براكسيس رمادي

حيث الفكرة الحرة تقود التغيير

القراءة الفلسفية تجربة وتحديات

محمد العجمي *

كانت هذه الورقة في البداية عبارة عن مجموعة من النقاط والشواهد التي سجلتها على فترات متباعدة حول أهمية القراءة الفلسفية؛ على أمل أن أحولها في يوم ما إلى سلسلة مقالات للصحافة. ولكني لم أجد الحافز الخارجي الذي يجعلني أترجم هذه الأفكار إلى مقالات، فظلت حبيسة الأوساط الرقمية إلى أن حولتها إلى ورقة عمل كمشاركة في ندوة اليوم العالمي للفلسفة الذي نفذتها الجمعية العمانية للكتاب والأدباء بالتعاون مع قسم الفلسفة بجامعة السلطان قابوس. وهذا يدفعني للتساؤل عن مدى وجود علاقة ما بين الإهتمام بالفلسفة وبين الخارج، وهل تنطلق القراءة الفلسفية من دوافع داخلية أم خارجية؟ وهل نحن نتفلسف لأننا فعلا نحتاج لذلك ﻷجل ذواتنا أم لأجل الحياة ولأجل الآخرين؟ هذا ما ستحاول هذه الورقة أن تترجمه وتقاربه في محاور ستة.

ولا أخفي هنا أنه لا يمكن بحال من الأحوال أن ننكر تأثير الآخرين علينا ودفعهم لنا بشكل مباشر أو غير مباشر نحو القراءة الفلسفية. وخصوصا لمن اكتشف تلك اللذة بنفسه لا عن معلم أو تخصص. ما يمكن الإشارة إليه هنا هو أن درجة التحكم في الأصوات التي ينتجها العقل متفلسفا ومتأملا تحدد إلى أي مدى نحن قادرون على الإستقلال ونحن نتنقّل بين الفلاسفة وكتبهم رابطين بين أفكارهم وبين تجاربنا. ضجيج العقل بشكل من الأشكال هو إعادة إنتاج لضجيج الخارج. ولا أستطيع أن أكون قارئا فلسفيا محترفا بدون أن أضع حدا لإرادة التفلسف ذاتها والتي تجعلنا نحدد الأشياء ونحاول ضبطها ضبطا عاليا. وفقط عند تلك اللحظة تصبح الذات انعكاسا صافيا للواقع، ويصبح الهدف من القراءة الفلسفية هو ذلك المكون البسيط الذي هو موجود داخلنا وخارجنا في الآن نفسه، والذي أسميه الإنسان البلازما، أو الإنسان كمشروع وجودي لم يدخل بعد حيز الوجود.

ما هي القراءة الفلسفية؟

يمكن القول أن القراءة الفسلفية هي رحلة البحث عن المعنى عبر الكتب الفلسفية ونصوص الفلاسفة، وهذا يعني أن هناك نقصا ما أو التباسا معين استجد لدى الإنسان جعله يشعر بفقدان أو ضبابية المعنى فيما حوله، فيتوق للوصول إلى اكتشاف أمر ما غامض لديه. فهو ينطلق محملا بجملة تساؤلات وأهداف يسعى إليها. التفكير في القراءة الفلسفية ليس هو القراءة نفسها، فقراءة القراءة أمر مختلف؛ لأننا نفكر ساعتها لماذا أقرأ الفلسفة. وهو سؤال لم أطرحه على نفسي في بداية اهتماماتي بالفلسفة كمهتم هاو غير متخصص ولم يدرس الفلسفة لدى معلم ولا بالطريقة الأكاديمية المنهجية. هذا السؤال إنما طرحته لاحقا وبعد أن تعرفت على تيارات الفلسفة الكبرى وتطور الأفكار بدءا من فترة ما قبل سقراط إلى الفلسفة المعاصرة.

لم تكن الرؤية واضحة بأنني أخوض غمار الفلسفة، بل ولم يطرق في بالي أنني أتعلم الفلسفة، فالاهتمام جاء وليد الصدفة نتيجة التدرج في القراءات، فكتاب يقود إلى كتاب ومفكر يقود إلى مفكر إلى أن اكتشفت فجأة أني أحيط نفسي بكتب تصنف بأنها كتب فلسفية، وهذا الإدراك المتأخر هو الذي جعلني مقتنعا بأنني فعلا مهتم بالفلسفة، ولهذا طرحت على نفسي السؤال الذي سيشكل محور هذه الورقة: لماذا أقرأ الفلسفة؟

أتذكر جليا أن الدوافع الأولى للقراءة الفلسفية لم تكن مرتبطة بالفلسفة ذاتها بقدر ما هي مرتبطة بالقراءة كأسلوب حياة وعادة نكتسبها نتيجة الشعور باللذة والثقة عندما نتعلم أشياء جديدة. بطبيعة الحال وكما هو شأن أغلب النشاطات الذهنية؛ أننا ننسى الوسيلة ونركز على الغاية، فالقراءة كانت وسيلة والفلسفة هي الغاية. ولا ننسى هنا أن الفلسفة نفسها تتحول في مرحلة متقدمة إلى وسيلة لغاية أسمى وهي الحكمة العملية المجتناة من كل صراع الأفكار الذي نخرج به من التفلسف.

هذا التحول من القراءة إلى القراءة الفلسفية ينطوي على جملة ملاحظات يمكن أن ندركها عبر الزمن. فأولا: تتطور الأسئلة التي نطرحها في كل مرة. فبعد أن نكون نبحث عن الدليل على وجود الله؛ نصبح نفكر عن معنى هذا البحث، وبعد أن كنا نفكر في الهدف من الخلق؛ نصبح نفكر في القيمة المترتبة على التفكير في الهدف من الخلق. وبعد أن نكون نفكر في كيفية تحصيل المعرفة؛ نفكر في معنى المعرفة وإمكانية تحصيلها. وهكذا هذا التسلسل والتطور في الأسئلة التي تحركنا يحول القارئ العادي إلى قارئ فلسفي.

الأمر الثاني الذي يمكن ملاحظته؛ هو ذلك التطور الناتج من الانغماس في قراءة النصوص الفلسفية، وهو التحوّل من قراءة أجزاء متفرقة إلى قراءة الكل الذي يربط بين الأجزاء. فمن الممكن أن نقرأ عن اللغة وعن المجتمع وعن الدولة وعن الثقافة؛ كل ذلك بشكل متقطع وفي أجزاء متباعدة، ولكن في مرحلة لاحقة نحاول البحث عن الرابط بين كل ذلك؛ عن رؤية كلية للغة وللمجتمع وللدولة وللثقافة، فننتقل من البحث وراء الجزئيات إلى البحث وراء الكليات.

الأمر الثالث في التحول من القراءة العادية إلى القراءة الفلسفية هو ذلك التغير السلوكي المرتبطة بالجانب العملي القيمي المترتب على اعتناق فلسفة معينة. هنا يتحول القارئ العام الذي لم يكن يُعرف له اتجاه معين إلى صاحب فلسفة في الحياة يستطيع أن يتداولها ويدافع عنها ويحدّثها في نفس الوقت. القراءة الفلسفية هنا ونتيجة التراكم ينتج عنها مجموعة قيم سلوكية يلتزم بها الإنسان بسبب القناعات الجديدة التي جربها أكثر من مرة قبل أن تترسخ لديه، على العكس من بداياته المبهمة التي تكون في الغالب استكشاف حذر وقراءات متوزّعة.

الأمر الرابع هو اكتشاف الإطار. يعني يصبح الإنسان قادر على اكتشاف الإطار الذي يعيش فيه والتأثير فيه. يستطيع تحديد المفاهيم التي تقع في مركز الإطار وتلك المفاهيم الأقل أهمية والتي تقع على أطرافه، فيفهم مثلا ويستوعب كليّات الذات الجماعية والفردية، وفي نفس الوقت كيف تتصل هذه المرتكزات بالمفاهيم الأضعف والأقل تأثيرا على الأطراف. أيضا القارئ الفلسفي هنا يصبح قادرا على ملاحظة جذور الأفكار والتبدلات فيها؛ فيستطيع مثلا أن يحدد من أين جاء إيمانويل كانط بالأفكار التي طرحها في نقد العقل المحض، وفي أي كتاب غير رأيه واعتنق فكرة جديدة.

لنجرب الآن تطبيق هذا الكلام على سؤال كان وما زال يُطرق في ساحة الفلسفة: هل الفلسفة أدب أم علم؟ يمكن أن أعتبر هذا السؤال من الأسئلة الثقافية التي يتوقع الإنسان بعدها أن يكتسب بعض المعلومات الجديدة وأن يتعلم بعض الأشياء. ولكن هذا التصور المبدأي لا يلبث أن يستبدله القارئ بتصورات أعمق مع التقدم في القراءة. فيمكن أن نلاحظ أن العلاقة بين الفلسفة والأدب قد تكون مفتاحا للدخول في علم الجمال كوسيط بين الفلسفة والأدب، والعلاقة بين الفلسفة والعلم يمكن أن تكون مفتاحا للدخول في علم المنطق بمختلف أشكاله كوسيط بين الفلسفة والعلم. فعلى سبيل المثال عندما نقرأ قصة كقصة حي بن يقضان لابن طفيل أو ديوان جلال الدين الرومي أو روايات هيرمان هيسه أو كتابات فرانز كافكا؛ فسنكتشف أننا نقف في منطقة وسطى بين الأدب والفلسفة. وبالمثل عندما نحاول مثلا الإطلاع على المذهب الذري عند ديمقريطس والمتكلمين المسلمين كالعلاف والرازي الطبيب، أو عندما نحاول فهم نظرية الكوانتم في الفيزياء المعاصرة؛ فسنجد بالمثل أننا نقف في منطقة وسطى بين الفلسفة والعلم. وهذا يجعلني أنتهي من كل ذلك بما يمكن تمثيله بالطيف المتدرج من الأدب الصرف إلى الفلسفة الصرفة إلى العلم الصرف؛ وما بين كل ذلك تقع أفكار وحقول كثير جدا.

ونفسه السؤال عن موقع الفلسفة بين الأدب والعلم يقودني إلى إجراء تصنيف معين غير رسمي يخص القارئ؛ وهو لمستوى الصعوبة في الكتابات الفلسفية. بحيث إذا اقترحت لقارئ مبتدئ للفلسفة مسار للقراءة؛ أستطيع أن أرسم له مدرج افتراضي للقراءة الفلسفية. فلن أقترح عليه الكينونة والزمان لهايدغر قبل محاورات أفلاطون، ولا ظاهرات الروح لهيجل قبل فلسفة التاريخ لهيجل نفسه. ولن أقترح قراءة كانط قبل معرفة شكوك هيوم ولا دراسة اسبينوزا قبل ديكارت. وعند الاحتكاك بلغة فلسفية معينة كالفلسفة العربية الوسيطة فسأضطر أن أضع إلى جنبها معاجم لمصطلحات الكندي والفارابي وابن رشد.

ما الذي يمكن أن يقود للقراءة الفلسفية؟

لا أريد أن أحول هذا السؤال إلى إجابة شخصية عن أهمية الفلسفة ودورها في الحياة بقصد التشجيع على الاهتمام بها، فهذا أمر متروك للزمن وكل وفق تجربته. ولكن أحاول أن أكشف عن ما هو أبعد. بشكل عام يمكنني القول أن الجدل هو ما قادني للفلسفة؛ وخصوصا الجدل الديني. المساحات الضيقة للمناورة في سياق الجدل الديني التقليدي، تصبح فجأة أكثر رحابة عندما ندخل ساحة الفلسفة، حيث لا تعود الثوابت والمطلقات هي التي تتحكم في مسار الجدل، وفي الوقت نفسه لا يعود عنصر إثبات الذات والإنتصار على الخصوم هو الحافز الرئيسي في الجدل، وإنما تطوّر مفهوم خاص عن الحقيقة بوصفها تطابق بين الذات والموضوع؛ هذا المفهوم عن الحقيقة هو المحرّك في الجدل الفلسفي. الخطوط الحمراء في النقاشات الدينية لا تعود بتلك الحضور والأهمية عندما يتخلى الإنسان عن الانتصار لدينه ولجماعته، ويتحول النقاش في الفلسفة إلى ساحة جدل لا يضر الكثيرين، أو ربما لا يهم إلا القلة. هنا يكون الإحساس بالأمان أعلى. فأنت لا تعتدي على حدود الهوية لجماعة ستكون مضطرة بشكل طبيعي للدفاع عن نفسها.

هذه المساحة الأوسع لحرية التفكير في الفلسفة هي التي تجتذب القارئ في البداية، ومع الزمن نكتشف أن الفلسفة تفتح لنا نوافذ على  حقول معرفية أكثر في ظل المناخ التي تصنعه لمرتاديها. فأستطيع مثلا أن أتناول الأساس الجوهري لنظرية الكوانتم، أو التعامل مع أصول الرياضيات أو نظرية التعقيد أو الإهتمام بالذكاء الاصطناعي، وهذه حقول تطبيقية تستند في جوهرها إلى أسئلة فلسفية كلية. كما يمكن أن ينتقل الاهتمام الذي تستحفّزه الفلسفة إلى الحقول البينية الكثيرة في العلوم الإنسانية. وهذا ما أضاف إليّ الكثير وأنا أحاول رسم خارطة ذهنية كلية للفلسفة وللعلوم في نفس الوقت.

قد يبدو في الوهلة الأولى أن هناك تشتت ما ناتج من هذه التشعبات التي تصنعها الفلسفة بطبيعتها، ولكن الشيء المهم الذي يجدر بالملاحظة هنا هو أن الفلسفة توزعت على العلوم بحيث أصبحت الإشارة إلى فيلسوف قائم بالفلسفة وحدها أمر نادر. فالفيلسوف كثيرا ما نجده اليوم عالم اجتماع ونجده في الفيزياء النظرية ونجده عالم اقتصاد واختصاصي في التحليل النفسي كما نجده منظر لغوي أو روائي، بل وصحفي وناشر ومقدم برامج أحيانا. وهذا ما يضفي على القراءة الفلسفية طابع الشمول، فالقارئ الفلسفي كثيرا ما يكون قارئا بنظرة كلية.

لأضرب مثالا هنا من واقع الاهتمامات الفلسفية الرائجة اليوم وخصوصا في منطقتنا العربية وهو مشكلة الهوية. وهي موضوع شائك يصعب الإحاطة به من زاوية حقل علمي معين واحد، فالتوصل إلى مقاربة ذات أهمية وقيمة عملية يتطلب الإقتراب من جملة علوم كالتاريخ وعلم النفس وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا والنقد الثقافي والأدبي وتفرعات هذه العلوم. قضية الهوية شائكة بسبب الإلحاح عليها وخصوصا منذ تشكل الدول القومية منذ القرن التاسع عشر، فأصبحت لها جوانب سياسية واجتماعية وتاريخية ونفسية. تولُّد وحضور المشكلة في الذهن مرتبط بشكل كبير بالحساسية في الروح تجاه مشاكل المجتمع والتحديات التي يواجهها. مثال بسيط يمكن أن أضربه هنا مرتبط بموضوع الهوية وهو نظام “الكفيل” بدول الخليج. أية مراجعة ودراسة قانونية لهذا النظام ستحتاج إلى حفر فلسفي وتاريخي وثقافي لتعريف من هو هذا الذي تنطبق عليه كلمة “خليجي” ومن هو هذا الآخر غير الخليجي. سنكتشف بعد مدة أن الموضوع له أبعاد كثيرة يجب الوعي بها. وكل هذه الجوانب قادتنا إليها الفلسفة منذ اللحظة التي نحاول فيها معالجة موضوع الكفيل.

الإشتغال بمشكلة الهوية قادني للمزيد من القراءة حول المفهوم ومن زوايا كثيرة، وفي كل مرة أنا أبتعد وأقترب من الفلسفة بالقدر الذي أحتاج فيه إلى فتح نوافذ أو إيجاد روابط بين كل هذه المتغيرات التي أكتشفها. الفكرة هنا أن الوعي بما حولنا وبالكليات الحاكمة للواقع؛ يعزز قدرة وملكة الشخص في ملاحظة العلاقات بين المفاهيم والأفكار في محيطه، وهذا يحفزه لبذل المزيد للكشف عن الروابط والمشتركات والاختلافات وتجارب الآخرين، ليكتشف في نهاية المطاف أنه منغمس حتى النخاع في القراءة الفلسفية.

مشكلة أخرى يمكن أن أذكرها هنا وقد قادتني للمزيد من التعمق في القراءات الفلسفية، وهي العلاقة بين الفرد والجماعة، وهي أيضا مشكلة يمكن أن نتحدث حولها طويلا لكثرة ما كتب حولها، وتعقيدات النظريات الكثيرة التي تحاول التنظير لعلاقة الفرد بالجماعة. لا تنفصل هذه المشكلة عن القضية السابقة وهي قضية الهوية، وقد عزز الاهتمام بهكذا قضية أحداث العنف التي تشهدها منطقتنا العربية. الاهتمام بموضوع العلاقة بين الفرد والجماعة يتطلب اطّلاعا مكثفا وملاحظة لأنماط التفاعل داخل المجتمعات، ولا يوجد مثل القراءة الفلسفية من يفتح الأبواب والنوافذ على المغلقات لإضافة ولو قدر بسيط إلى المعرفة المتوافرة أصلا حول الموضوع.

قد يبدو هنا أن موضوع علاقة الفرد والجماعة متصل بعلم الاجتماع أو علم النفس أو ضمن دائرة الفكر السياسي، وهذا صحيح. ولكن الفلسفة وهي الوعاء الحر الذي يمكن للجميع أن يعملوا في إطاره؛ تكسب الإنسان أدوات ومصادر للبحث، لأنها تعلّم التفكير المنطقي وتزيد من الخيارات البحثية الممكنة، ولا نحتاج هنا إلى اعتراف اجتماعي بقدراتنا؛ إذ أن ما يحدد جودة الأفكار وقوة الأطروحات تأثيرها وقدرتها على الإقناع. هذا لا يغفل عن أن هناك لحظات يحتاج الإنسان أن لا يعتدي على اختصاصات غيره، ولكن في إطار الفلسفة تكون القدرة أعلى للوصول إلى مختصين في مجالات البحث، كما أنها تخلق فرصا متنوعة لتوفير مصادر معلومات مناسبة.

من المواضيع الأخرى التي اجتذبتني باتجاه القراءة الفلسفية أيضا، هو موضوع الفلسفة المعاصرة. فلو أردنا أن نرسم صورة كلية لمشهد الفلسفة المعاصرة وتياراتها الكبرى؛ فكيف سيكون ذلك ممكنا؟ ما الذي تبقى من مباحث الفلسفة اليوم؟ أين تنتشر الفلسفة التحليلية أكثر وأين تنتشر الفلسفة القارية أكثر؟ هل لهذا التمايز الجغرافي لتيارات الفلسفة انعكاس على المواقف السياسية للدول تجاه القضايا العالمية؟ بطبيعة الحال هذا يتطلب اطلاعا واسعا قد يكون متعذرا على الشخص غير المتخصص. ولكن مرة أخرى، العائد من كل ذلك سيكون فرديا سيتجلى في الأطروحات والرؤى التي نقدمها لمستجدات الواقع.

ومن الموضوعات النشطة أيضا في ساحة الفلسفة اليوم موضوع التطور التقني المذهل اليوم. العالم يتحدث اليوم عن استيطان الكواكب، وعن اكتشاف المادة المظلمة وعن البايوتكنولوجي والنانوتكنولوجي، وعن العلاج بالخلايا الجذعية ومحاربة الشيخوخة والأبحاث الجينية المتقدمة، وعن الروبوتات الذكية. كل هذه الأبحاث والاكتشافات تقود إلى سؤال مهم: ما هو هذا الذي نسميه إنسان وإلى أين يسير؟ محاولة استشراف المستقبل ولو على الصعيد الشخصي؛ يعني التفكير جديا بضرورة الإضافة إلى المعرفة البشرية حول هذه المواضيع. وهو عموما ساحة مغرية للقراءة الفلسفية عن العلاقة بين الإنسان والتقنية وقضايا المستقبليات وماهية الوعي ومدى أن تكون روبوتات المستقبل واعية.

كيف تغيرنا الفلسفة؟

فعل التغيير الذي أتحدث عنه هنا يتخطى بعيدا فعل التجاوز للاختلال الذي قد يصيب الإنسان لأسباب كثيرة. فالاختلالات غالبا ما تستدعي تدخل معالج معين يصف الدواء وما به ينتقل الإنسان من حالة غير مستقرة إلى حالة أكثر استقرار. وفي ظني؛ ليست هذه وظيفة الفلسفة. التغيير الذي تحدثه الفلسفة أشبه ما يكون بسعي الإنسان لامتلاك أداة جديدة تساعده على إنجاز أشياء جديدة أو قديمة ولكن بأداء أفضل. الفلسفة كنشاط ذهني تكون ممارستها خطابية تأملية وجدلية عبر اللغة، والتغيير المتوقع من هكذا نشاط سيكون بطيئا جدا وذاتيا في الغالب، يصعب ملاحظته موضوعيا. التغيير الذي يمكن ملاحظته موضوعيا غالبا ما يأتي عن طريق آخر غير الفلسفة.

لا يتناقض هذا التصور مع مناخ التفكر الحر داخل الإنسان والذي تصنعه الفلسفة. كون أن هذا المناخ هو الهدف الأسمى للفلسفة من كل من الشك واليقين اللذين يقعا على طرفي الطريق الفلسفي. هذا لا ينفي وجود جهود تنظيرية لجعل الفلسفة علما قياسيا موضوعيا منذ ديكارت وكانط وصولا إلى هوسرل وهايدغر، ولكن ما يقع دائما هو أن علما جديدا ينشأ وينفصل عن الأم الفلسفة التي ستبقى بيئة التفكير الحر المباح لكل الناس، وليبقى التغيير قضية شخصية يشعر بها الإنسان على فترات متباعدة. وقد لا يشعر بذلك.

أول ما يمكن ملاحظته على ما تصنعه القراءة الفلسفية المستمرة والمتراكمة؛ هو إكساب القارئ حاسة الفصل بين الأفكار والأشخاص. وأسميها حاسة؛ لأنها قابلية واستعداد لدى الإنسان يحتاج إلى صقل وتدريب وتعويد على نمط من الحوارات والنقاشات تكون رائجة أكثر في ساحة الجدال الفلسفي. النص الفلسفي؛ على العكس من النص الأدبي؛ يغيب فيه المؤلف بدرجة كبيرة؛ ويكون على درجة عالية من التجريد، وهذا يدرب الدارس للنص والقارئ له على التعامل مع كل ذلك التجريد بعيدا عن الظروف النفسية والاجتماعية لمؤلف النص. ففي أغلب نصوص هيجل على سبيل المثال لا نلاحظ بشكل مباشر موقفه الشخصي تجاه نابليون وتجاه الدولة البروسية.

هذا الفصل بين الأفكار والأشخاص يؤدي إلى قيمة اجتماعية عالية وهي قبول الآخر المختلف. وهذه حسنة أخرى من حسنات القراءة الفلسفية الحرة. وهي رفع قابلية التعايش بين المختلفين ضمن مناخ مدني واحد لا يقسم فيه الناس إلى أكثرية وأقلية. يتمثل قبول الآخر هنا في أن هذا الآخر لا يشكل مصدر تهديد لنا حتى بالرغم من اختلاف الأطروحات والأفكار والآراء معه، لأننا نعلم مقدما أنه ملتزم تجاه حرية التعبير عن الرأي. ما تفعله القراءة الفلسفية هنا على سبيل الدقة؛ هو تعزيز قيم التنوع داخل الفرد، والتي ستتحول تلقائيا إلى سلوك عملي يسقط فيه الإنسان تنوعه الداخلي على الواقع، فيلاحظ التعدد في الخارج وفي نفس الوقت يدرك أهمية هذا التعدد.

الملاحظة الثالثة هنا؛ وهي عن تطور وتحسن طرق التفكير ومحاكمة القضايا وتقييم المواقف. فما ينتج عن القراءة الفلسفية هو اكتساب أدوات وآليات في نقد الآراء والأطروحات، وملاحظة جوانب الضعف والخلل في السلوكيات والصياغات التي تمر علينا بشكل يومي. يصبح الإنسان أكثر قدرة على التفكير النقدي وأكثر قدرة على تشذيب وتهذيب أفكاره وتعديل قيمه الأخلاقية العملية. وفي الحقيقة هذه الملاحظة هي نتيجة طبيعية للاحتكاك بين العقول. فعندما أقرأ مثلا كتاب فصل المقال للعلامة ابن رشد، أو كتاب مقال في المنهج لديكارت؛ أحتك مع هذين العقلين المهمين، وفي نفس الوقت أقترب من طريقتهما في النقاش والاستدلال ومناهجهما في دحض الأفكار التي يرونها غير صائبة وتأييد الأفكار التي يرونها صحيحة. وفي مرحلة لاحقة مع مزيد من الانغماس في كتبهما أتعلم مناهجهم وأحاول تقليدها بما يشبه عملية نقل المعرفة وإعادة تطبيقها في مواقف أخرى.

الأمر الرابع في القراءة الفلسفية تكمن في قضية مهمة جدا والتي تمثل خلاصة الفلسفة؛ وهي الحكمة. الحكمة هنا هي التطبيق السلوكي للمعرفة، وهي بلا شك الأعلى شأنا والأكثر قيمة وأهمية. فمثلا خلق كريم كخلق التواضع؛ هذا يجب أن يأتي في قمة الحصيلة من القراءة الفلسفية. القدرة على نقد الذات وملاحظة جوانب الضعف فيها وفي معتقداتها مع القابلية للتخلي عن المعتقد الذي يثبت بطلانه؛ أيضا هذه نتيجة طبيعية للقراءة الفلسفية. هنا يصبح الإنسان أكثر استقلالا وقدرة على التأثير في الواقع بما أصبح يمتلكه من حسن في التفكير والتدبير. فالعبرة هنا ليس بعدد الكتب التي نقرأها والمعلومات التي نختزنها. ولكن بما نستطيع فعلا أن نجسده في واقعنا العملي. قدرة الإنسان على تغيير نفسه في النهاية تعني قدرته على تغيير واقعه. ولا يستطيع الإنسان الجامد المنغلق عند كلياته أن يغير شيئا في الواقع حتى لو تراءى لنا ذلك.

ماذا يعني الاهتمام بالفلسفة؟

ربما يكون أبسط شكل من أشكال الاهتمام الفلسفي هو اقتناء كتابات الفلاسفة أو الكتب عنهم، وإن كانت هذه هي مشكلة في حد ذاتها. إذا أن التصنيف “كتاب فلسفي” مربكة إلى حد ما؛ على اعتبار أن الفلسفة كنشاط نظري لا يوجد تعريف قياسي لها. فمن هو هذا الذي نطلق عليه “فيلسوف”؟ هنا الدائرة تضيق وتتسع تبعا لاهتمامات الإنسان أو لمنهجه في البحث.

يتحول الاهتمام الفلسفي في مرحلة لاحقة إلى اعتبار فيلسوف معين أقرب إلينا من آخر. وإلى الاستئناس بفلسفة معينة أكثر من غيرها، وربما يتطور ليتحول إلى مشروع تبشيري أو إلى أيديولوجيا حزبية. الفلسفات هنا تتحول إلى أنوية لاصطفافات تتعدى دائرة التفلسف الحر، إذ تدخل السلطة على الخط. وهذا بطبيعة الحال يقع خارج دائرة القراءة الفلسفية التي نتحدث عنها هنا. وفي نفس الوقت لا ينفي أننا نميل حسب تطورنا الفكري إلى فلسفة معينة دون أخرى؛ ويقنعنا فيلسوف ما أكثر من غيره، وهو شكل من أشكال الاهتمام الفلسفي. يتحول هذا الفيلسوف أو ذاك إلى محطة مهمة جدا في حياة القارئ الواعي، وعلامة تترك بصمتها على مسيرته الفكرية.

أستطيع أن أقول هنا بأنني تأثرت بفيلسوفين مهمين، وما يزالان هم الأقرب إلي. على مستوى الحضارة العربية يبقى فيلسوف العرب أبو يوسف يعقوب الكندي اسما مهما يشكل في رأيي انعطافة مهمة في الحضارة العربية الوليدة. وعلى مستوى الفلسفة المعاصرة يبقى اسم الفيلسوف الدنماركي سورين كيركيغارد هو الأهم كونه يقع في المنتصف بين المثالية الألمانية والتحليلية الأنجلوساكسونية.

هذا يقودني إلى الإشارة إلى موضوع آخر أعتبره مظهرا للاهتمام الفلسفي بالنسبة لي، وهو موضوع موقع الفلسفة العربية المعاصرة ضمن المشهد العالمي للفلسفة؛ أين موقعنا منها؟ وهذا الموضوع عموما متصل بفكرة المواطنة الكونية التي أصبحت رائجة مع قوة العولمة واختراق أدواتها الهائلة الاقتصادية والتقنية والثقافية لكل مجتمعات الأرض تقريبا. الدافع هنا هو أننا نحتاج دائما لنعرف ماذا لدينا قبل أن ندخل في المجتمع البشري الكبير، وذلك حتى لا نندثر ونتلاشى فيه. الفلسفة العربية هنا ستشكل محتوى مهم للهوية العربية؛ فحضورها في الوعي الفردي يجعل للإنسان مرتكزا ينطلق منه وهو يتخاطب ويتحاور ويتفاعل مع الشعوب الأخرى ويستخدم أدوات العولمة المختلفة. يعني أقرأ الآخرين ولدي وعي وإدراك ولو نسبي بما أمتلكه من إرث حضاري.

تحديات وهموم القراءة الفلسفية

الحديث عن التحديات في أي موضوع يعني أن المتحدث هنا يحب أن يغرس بذورا للتفكير، وعادة ما يكون هكذا إنسان مهتم أو يحاول أن يضغط على الواقع ليغيره وفق مقاييسه التي اختبرها فيما سبق ويظن أنها صحيحة. وهو يمتلك الحق في ذلك كون ما يفعله لا يعدو أن يكون خطابا من بين خطابات كثيرة تنغمس في هذا الواقع. غير أن ما أريد استعراضه هنا ليس هو من قبيل رسم خارطة طريق معينة لمن لم يفكر بعد أو في بداية طريقه الفلسفي؛ فهكذا نية تبدوا لي مزعجة نوعا ما. والطرح هنا إنما هو من قبيل التفكير بصوت مسموع.

النقطة الأولى هنا متصلة بما قلته سابقا بأن القراءة الفلسفية تعزز استقلالية الإنسان وإمكانية اكتفاءه بذكائه عن وصاية أحد ما عليه. ولكن هذا ينقلنا إلى تحد كبير، وهو: هل يستطيع الإنسان أن يصنع قيمه بنفسه؟ الإستقلالية تعني ضمن ما تعنيه أن الإنسان أصبح قادرا؛ أو أنه يحاول؛ أن يستمد القيم الأخلاقية العليا من ذاته لا من موضوع خارجي. بطبيعة الحال هنا سننقسم ونتوزع في تيارات فلسفية متنوعة، لا يكاد يجمعها جامع. لأن موضوع مصدر الأخلاق العملية موضوع يمس واحدة من أهم كليات مجتمعاتنا الإسلامية؛ وهو أن الإنسان المسلم يولد في ظل غائية محسومة وخطة عامة متمثلة في الشريعة. وهنا لا أستطيع أن أتنبأ بما سينتج عن القراءة الفلسفية. لأن مناخ التفكر الحر الذي يطبع الفلسفة لا يكترث بأي خطوط حمراء مستمدة من خارج الإنسان. فهذه قضية غير محسومة بعد في دولنا الإسلامية وتثير جدلا يتسم بالعنف في أغلب الأحيان. وأحسب أيضا أن الفلسفة لوحدها لا تستطيع أن تقدم لنا شيئا كونها خطابية لا تهتم بفكرة الوحدة بقدر اهتمامها بفكرة التعدد.

التحدي الثاني في الفلسفة هو تحدي اللغة. الفلسفة هي نشاط لغوي صرف. واللغة بطبيعتها ليست هي الواقع وإنما محاولة واجتهاد لوصف الواقع. وهذا يجعل الفلسفة على درجة عالية جدا من الذاتية كما قلت في البداية. فأي مفهوم فلسفي يخفي خلفه الظروف الخاصة بالفيلسوف الذي سك المفهوم. ويحضرني هنا كمثال مفهوم “الدازاين” عند هايدغر. فهو مفهوم من الإلتباس بحيث يحتاج القارئ الذي يحاول فهم أفكار هايدغر في تفكيك الميتافيزيقا الغربية أن يقرأ هايدغر في عيون تلاميذه ومن جاء بعده متأثرا به، وإلى جنب ذلك يقرأ عدة مقالات لكي يستطيع أن يعرف ماذا يريد أن يقول هايدغر من خلال فكرة الدازاين. ويرتبط بمشكلة اللغة أيضا قضية الترجمة. فالترجمة دائما ما يصاحبها فاقد يزيد وينقص حسب إمكانات المترجم وموهبته.

الفكرة الثالثة هنا هي مشكلة النسيان. وأنا أعرضها هنا كمشكلة للشخص الهاوي للفلسفة فقط لأنه لا يستطيع فعلا أن يعيد قراءة النصوص فلسفية مرة ومرتين وثلاث، ولا يقرأ إلا ليفهم. فسرعان ما يتبخر أغلب ما يقرأه. الأكاديمي ولأنه يقدم دروسا مستمرة ويلقي محاضرات وعنده طلبة يتدرجون ويأتي غيرهم. فإنه يداوم على مادته بشكل مستمر. وأكثر من صديق ممن يعيب علي اهتمامي بالفلسفة؛ يحدثني عن مشكلة النسيان. كيف نحتفظ بكل هذه الأفكار لهؤلاء الفلاسفة الذين قد نحتاج وقت فقط حتى ننطق أسمائهم بالشكل الصحيح؟ والحقيقة التي تسالمت معها هنا هي أن النسيان نعمة فعلا كما في الدارج الشعبي. لأن الغرض من القراءة الفلسفية ليس الاحتفاظ بأكبر قدر من المعلومات؛ وإنما كما قلت سابقا هو الحكمة العملية التي يستطيع الإنسان تطبيقها على أرض الواقع.

المشكلة الرابعة التي ربما من الجيد أن أذكرها هنا هي مشكلة الإحالات. نظرا لأن الفيلسوف لا يولد فجأة من الفراغ، فهو في النهاية كائن تاريخي يبدأ من حيث وقف غيره، فهو يتأثر بمن هم قبله، ودائما ما تكون فلسفته في صور معالجة للمشاكل التي خلّفها السابقون. فعلى سبيل المثال لكي أفهم معنى “ما بعد الحداثة” يجب أن أفهم على سبيل المثال جاك دريدا، ولكي أفهم جاك دريدا يجب أن أفهم مثلا كلود ليفي شتراوس، ولكي أفهم شتراوس يجب أن أفهم هايدغر، ولكي أفهم هايدغر يجب أن أفهم هوسرل، ولكي أفهم هوسرل يجب أن أفهم هيجل. وهكذا. فكل فيلسوف يحيل إلى من سبقه ويكمّل عليه أو ينقضه. وبطبيعة الحال الإحاطة بأفكار كل هؤلاء أمر صعب إن لم يكن مستحيلا. ولهذا نجد اليوم بقوة وبكثافة الكتب التي يشترك فيها أكثر من مؤلف. وهنا ربما نجتهد لنطبق المبدأ “معرفة شيء عن كل شيء وكل شيء عن شيء”.

القراءة الفلسفية والمستقبل

عندما نفكر ونسأل: هل يوجد مستقبل في القراءة الفلسفية؟ يتبادر إلى الذهن أمر في غاية الأهمية، وهي فكرة أن من يستطيع أن يمتلك أدق التنبؤات عن المستقبل يهيمن أكثر ويكون هو الأقوى. ولا يخفى مدى خطورة ذلك على الثقافات التي لا تستطيع أن تضيف شيئا لأصحابها. فأمام هذا السير الحثيث لامتلاك ناصية المستقبل سوف يكون على بعض الثقافات أن تستعد للاحتضار. مثلا تطوير روبوبوتات واعية وتمتلك مشاعر. أيضا موضوع استعمار الفضاء والبحث عن فرص للحياة على الكواكب الأخرى. في الطب مثلا؛ تقنيات العلاج بالهندسة الوراثية؛ وهو حقل تنشط أبحاثه بشكل مذهل. من المؤكد أن الشعوب التي تشتغل بهذه الأبحاث هي التي سوف تكون أول من يستفيد منها. شركات التقنية اليوم تتسابق اليوم لوضع لبنات المستقبل. مشاريع جوجل ومايكروسوفت وأبل وفيسبوك وأوراكل ومعها مراكز البحث بالجامعات الكبرى؛ هذه المشاريع هي التي تحدد من سيمتلك المستقبل. فإذا أضفنا إلى كل ذلك حقيقة أن المهندسين والمبرمجين اليوم هم الأكثر أهمية وطلبا من قبل الشركات والحكومات القوية. أسماء مثل مارك زوكربيرغ (فيسبوك) وإلون موسك (تسلا) وجيف بزوس (أمازون) ولاري إيليسون (أوراكل) ولاري بيج (جوجل) أكثر أهمية وحضورا من أشهر الفلاسفة المعاصرين. كل ذلك يجعل السؤال: هل يوجد مستقبل في القراءة الفلسفية؟ سؤالا مهما.

يمكن أن نلاحظ بسهولة أن أغلب الجهود الفلسفية تنظر دائما إلى المستقبل، فالسؤال الذي تسعى إليه هو: ما الذي يصلح لهذا الإنسان؟ وهذا سؤال عن المستقبل، فالفلسفة تحاول أن ترسم تصورا وطريقا ورؤية للمستقبل ضمن حقل الدراسة. بل أكثر من ذلك؛ السؤال مثلا عن مستقبل الفيزياء هو سؤال فلسفي، كذلك السؤال عن مستقبل الذكاء الاصطناعي وأين يمكن أن يصل؛ هذا سؤال فلسفي. هذا يدفعني للقول أن القراءة الفلسفية ليست عادة منفصلة عن الواقع ولا عزوفا عن المستقبل؛ بل أستطيع أن أقول أن الدافع الأول لها هو محاولة اكتشاف أفضل طريق للمستقبل.

موضوع آخر هنا أيضا؛ وهو: هل يمكن اعتبار القراءة الفلسفية مرحلة في عمر الإنسان ثم يتجاوزها؟ وهذا في الحقيقة تصور يرد بقوة في البال، لأن القراءة الحرة مرتبطة بمزاج الإنسان وتقلباته. وهي كعادة عرضة للانقطاع في فترات معينة، أو ربما الانقطاع النهائي، وخصوصا مع كثرة مشاغل الإنسان ومستجدات حياته. ويمكن هنا أتحدث على طريقة مدربي التنمية البشرية وجماعة الخمس دقائق، ولكن ليس هذا ما أنظر إليه هنا. فالقراءة الفلسفية إن لم يصاحبها همٌّ معين ورسالة ما في الحياة فالأفضل فعلا أن تنقطع. وفي رأيي هذا ليس فقط في القراءة فحسب. الممارسة السياسية مثلا إذا كانت فارغة من نظرية سياسية تأخذ في الاعتبار القيم الإنسانية العليا؛ سوف لن يكون لها مستقبل. الهم والرسالة يخلق ديمومة في العطاء، على طريقة الآية الكريمة: {فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}. والقول السائر: “من لم يزد شيئا على الحياة فهو زائد عليها”.

* نشرت بمجلة الفلق في ديسمبر 2016

Visits: 3