أبريل 26, 2024

براكسيس رمادي

حيث الفكرة الحرة تقود التغيير

الذات المفتوحة عند ميشيل فوكو

محمد العجمي *

يتحدث هرمان هيسه في روايته “قلب طفل” عن بعض ذكرياته كما كان يرى العالَم وهو طفل. كيف يرى الطفل عالم الكبار؟ وأي فاصلة يشعر بها عن ذلك العالم؟ يقلب في مشاعره القديمة ليحدثنا كيف كانت ذاته تتكون شيئا فشيئا وتتراكم حول ذلك الغموض والفهم البسيط جدا لتعقد عالم الكبار. يقول هيسه: “إن ما ندعوه بأفعالنا الحسنة في مسار حياتنا، التي نجد من السهل التحدث عنها تكاد تكون جميعها من ذلك النوع البسيط، أما أفعالنا الأخرى التي نجد من الصعب التحدث عنها، فلا ننساها أبدا. إنها تبدو أكثر التصاقا بنا من غيرها، إذ أنها تلقي ظلالا واسعة على طول أيام حياتنا”. الطفل الذي يتحدث عنه هيسه يتردد بين الأشياء الواضحة المفهومة لديه والتي لم يعد يتذكرها بعد أن كبر، وبين تلك العوالم الغامضة والمعقدة التي تظهر له كوحوش تحاول ابتلاعه. فعلى لسان الطفل يقول: “كل شي اجتمع ليؤلف ذلك الشعور المألوف بالخيبة والإحباط الذي يخبرنا أن الزمن لا نهائي، وبأننا سنبقى إلى الأبد صغاراً لا حول لنا تحت سطوة هذه المدرسة الغبية العفنة سنوات وسنوات وأن هذه الحياة بأكملها مقرفة لا معنى لها”.

الموضوع الكبير الذي يعالجه هرمان هيسه في هذه الرواية القصيرة؛ هو تشكل الذات لدى الطفل. تلك الذات التي لا تضم سوى ما هو غامض ويحاول الطفل أن يفهمه، ومتى ما ظن أنه يفهمه تظهر له أشياء كثيرة غير مفهومة. لا تخلو القصة من عقدة أوديب التي تتجلى لدى الطفل في علاقته المضطربة مع والده، حيث يمثل الأب الموضوع الخارجي الذي هو الموضوع الأول الذي يصطدم به الطفل ليجعله يفكر في ذاته ويسأل عن محتواها. يقول الطفل متحدثا عن تناقضات مشاعره: “في أيام مثل هذه؛ تنعكس أي خيبة واضطراب في نفوسنا على ما يحيطنا وتشوهه، ويقبض القلق والارتباك على قلوبنا، فنبحث عن السبب المفترض فنجده خارج ذواتنا، إذ أننا نرى العالم سيء التنظيم ونلاقي ما يعيقنا في كل مكان”. أنتزع هذه الصورة التي رسمها هيسه باحتراف عن الفاصلة التي تفصل الذات الغائمة للفرد وهو صغير عن العالم، وكيف يتطوّر هذا الاتصال ليصبح العالم أكثر وضوحا وتحديدا كلما نمت الفردية، أنتزع ذلك للحديث عن الطرح الذي قدمه ميشيل فوكو عن الذات المفتوحة في أكثر من كتاب من كتبه وهو يتحدث عن تَشَكُّل الفردية وكيف يكتسب الكائن البشري ذاته التي تجعله فردا في جماعة؟

المتتبع لتاريخ النظريات التي تحاول تعريف الذات؛ سيعود على الأرجح خالي اليدين من أي تعريف للذات يمكن الإمساك به، فمن نظرية العنصر المادي أو الروحي الممتدة من أفلاطون وأرسطو لغاية ديكارت، أو نظرية النفس والذاكرة انطلاقا من جون لوك، أو نظرية ديفيد هيوم أن الذات ما هي إلا مجموعة إدراكات، أو نظريات وهم الذات التي لا تبتعد كثيرا عما طرحه هيوم، وتلتقي مع بعض التصورات البوذية التي تعتبر الذات الفردية وهما، وصولا إلى الهويات السردية عند بول ريكور وغيره. كل هذه النظريات تكشف عن صعوبة إيجاد تعريف للذات، وهي عموما صعوبة طبيعية نظرا لأنها مرتبطة بالسؤال الجوهري الذي لا ينفك الإنسان يطرحه في كل مرحلة من مراحل حياته؛ ما هو الإنسان؟

عودا إلى رواية “قلب طفل”؛ فإننا يمكن أن نكشف عن أن الخوف من الأب، والغيرة من الأقران، وكره سلطة المعلم، والرغبات البسيطة في الأطعمة الحلوة والألعاب التافهة، والفزع من الشيطان المتجسد في هذه الرغبات؛ كل هذه المشاعر تمثل التشكلات الأولى للفردية كما يرسمها هيسه في روايته تلك. وهذه الرؤية تقودنا إلى أبحاث ميشيل فوكو عن الذات والفردية وعلاقة كل من السلطة والمعرفة بتشكيل الذات وتحديدها. درس فوكو الفردية في سياق محاولاته لتحليل المجتمع وهو يصنع الفرد؛ وفهم آليات عمله منطلقا من المرحلة اليونانية مارا بالمسيحية وصولا إلى العصور الحديثة. تحت عنوان “ثقافة الذات” [1] يلاحق فوكو تطوّر مسألة العناية بالذات عبر التاريخ حيث ابتدأت الفردية عند اليونان بمسألة العناية بالنفس وضبط رغبات الجسد عبر الاعتدال والتوازن؛ ليحوز الإنسان على المكانة الأبرز في المدينة، فهي ليست فردية بالمعنى الذي يكون للإنسان كيانه الخاص المستقل؛ بل بالمعنى الذي يعتبره عضوا في جماعة يجب أن يكون متفوقا فيها، والتفوق يقتضي السيطرة على الذات وقيادتها حتى يمكن السيطرة على الآخرين وقيادتهم.

تطورت هذه النظرة عند الرواقيين والأبيقوريين لتتحول إلى العناية بالنفس انطلاقا من مركزية الفرد نفسه وليس المدينة، بمعنى العناية بالنفس لتبلغ السعادة عن طريق اتباع نظام الطبيعة وقوانينها ومقاومة الانفعالات الطارئة التي تحجب معرفة الطبيعة عن النفس. الإلتفات إلى الذات من أجل الخارج كما عند سقراط وأفلاطون وأرسطو يتطور ليصبح إلتفاتا إلى الذات من أجل بلوغ لذة معرفتها عند الرواقيين، وفي الحالتين يجب السيطرة على الرغبات واعتبار الفلسفة وسيلة الوصول للمعرفة. ثم تأتي مرحلة الأخلاق المسيحية التي تضيف فكرة تحويل الرغبة إلى خطاب كمرحلة في تشكيل الذات لدى الأفراد. المسيحية وعبر طقس الإعتراف أضافت إلى الأخلاق الوثنية التي تطالب النفس بالتحلي بالفضائل عبر التدريب والتفلسف لمقاومة الرغبات الزائدة عن الحد؛ أضافت تصورا جديدا لهذه الرغبات باعتبارها قوة غريبة عن الإنسان [2] يجب التخلص منها عبر أشكال الخطاب الطقوسية. فعلاقة الذات بذاتها في الإطار المسيحي هي علاقة تشكيك وحذر يتم تجاوزه بالضبط الأخلاقي، فالفردية تشكلت كضرورة أخلاقية لضمان الإنخراط في غايات الجماعة. والخطاب هو التقنية المسيحية لاكتشاف الفرد لذاته وسبر أغوارها.

يشير فوكو إلى أن الفرد بعد أن كان في حلٍّ من أي خضوع لنظام مؤسساتي واجتماعي إلى ما قبل العصر اليوناني؛ فإنه سيسقط بعد ذلك في شراك علاقات السلطة وعلاقات المعرفة، وسيتعرف على ذاته بضغط من السلطة والمعرفة عبر الانبساط المتماهي مع الخارج والإنطواء الذي يغذي مقاومة السلطة، فلا يكتشف أن له ذات إلا بعد أن يستجيب لنداءات السلطة والمعرفة بضرورة أن يوجه مقاومته ورفضه لرغباته عوضا عن العالم الخارجي؛ وذلك ليحقق أفضل اندماج مع هذا العالم الخارجي، فيتقبل أن تكون هذه الذات موضوعا تشتغل عليه السلطة. يقول جيل دولوز متحدثا عن فكرة فوكو هذه: “تحول تولد ذات الإنسان الحر إلى انقياد وإذعان وخضوع للغير عن طريق التحكم في أفعاله والارتباط بالآخرين مع كل اجراءات التفريد والتمييز التي تقيمها السلطة والتي يكون موضوعها الحياة اليومية لأولئك الذين ستنعتهم بأنها ذواتها وجوانيتها”[3].

هذا الربط الفوكولدي بين الذات من جهة وبين مركب السلطة والمعرفة؛ هو الذي يجعل فوكو ينطلق من المرحلة اليونانية في تحليل الذات الفردية وتشكّلها الأقدم في مسلسل الحضارات البشرية القديمة، ما يجعل تصوّره لا يصطدم بالعقبة الأنثروبولوجية التي تجلّت بوضوح في أعمال جوليان جينس الذي أرّخ للفرد كوعي بالذات بما لا يتجاوز في أحسن الظروف الألف الأولى قبل الميلاد، في وقت تثبت المعطيات الأنثروبولوجية والأركيولوجية أن الذات أقدم بذلك بكثير؛ منذ اللحظات الأولى لإدراك الإنسان القديم بحواره مع الآلهة [4]. ما حصل في المرحلة اليونانية حسب فوكو هو ذلك التعالق بين السلطة والمعرفة والمفضي إلى انثناءات وانكشافات متتالية للمجتمع على الفرد.

يصف دولوز ذلك فيقول: “إذا كان قوام المعرفة ربط ما يرى بما يعبّر عنه، فإنّ السلطة هي العلّة المفترضة لذلك، غير أنّ السلطة تستلزم بدورها المعرفة، كتشعّب وتفرّع، بدونها لن تخرج إلى الفعل، لا وجود لعلاقة سلطة، لا ترتبط بنشأة حقل المعرفة، ولا وجود لمعرفة لا تفترض علاقات سلطة، وتنشئها في الوقت ذاته” [5]. فالذات العارفة هي ممارسة لسلطة، وفي نفس الوقت الذي تمارس فيه السلطة هي تصنع معرفة، والمركب من السلطة والمعرفة هو الذي يخترق الذات دخولا أو خروجا لتصبح عقدة ضمن نسيج الجماعة؛ في نمط لا يتمايز فيه التفرّد عن الاجتماع إلا بمقدار ما يتكلّم الفرد فيستمع إليه المجموع، والعكس.

يرفض فوكو التصوّر الماركسي عن السلطة الذي يمنحها جوهرا قابلا للامتلاك والانتقال من طرف لآخر، ويستعيض عن ذلك بتصوره الخاص الذي يعتبر السلطة جملة التفاعلات المعقدة داخل المجتمع. فيقول: “السلطة ليست مؤسسة، وليست بنية، كما أنها ليست قوة أكيدة فنحن نتوهم ذلك، وإنما هي ذاتٌ تتسم لحالة استراتيجية معقدة في مجتمع معين.”[6] يدعو فوكو هنا للتمييز بين عقلانية السلطة المتجسدة في تكتيكاتها الضيقة ذات الأهداف قصيرة المدى، وبين الإستراتيجيات شبه الصامتة للمجتمع الكبير والتي تدير وتنسّق تلك التكتيكات، فالسلطة لدى فوكو تولد من رحم تعقيدات الواقع، وليس من البنية الفوقية التي تنتجها فلسفة التاريخ أو أية نظرية سياسية.

يمكن مقاربة مفهوم فوكو عن علاقة الذات بمركب السلطة والمعرفة من خلال فيلم الدراما “الناب” 2009 للمخرج اليوناني يورغوس لانثيموس والذي يحكي قصة أبوين ربيا أبنائهم الثلاثة تربية صارمة لم يسمحا لهما بالخروج للعالم الخارجي مطلقا فلا يعرفون شيئا عنه إلا من خلال الأبوين. فنشأوا في ظل فهم للعالم لا يتجاوز حدود سور المزرعة، مع مفاهيم مشوهة جدا عن الخارج مارسها عليهم الأب والأم. فظلت الذات لدى الأبناء بدائية؛ لا تتجاوز سن الطفولة المبكرة، مع عدم وجود ملامح تفرد وتشخص للإرادة المستقلة؛ على الرغم من بلوغهم سن الرشد. وهذا ما جسده المخرج في مفهوم الأبناء عن الألم والدهشة واللذة والجسد والفضول والخطأ والصواب، مع مشاعر بسيطة للغاية لا تستدعي الإهتمام ولا تكشف عن أي معنى مهم. كلما انكشف الخارج على الداخل كلما افتتح الداخل قناة مع هذا الخارج. قناة قوامها المعرفة والسلطة ووسيلتها الكلام. ومتى ما امتنع هذا الاحتكاك؛ غار اللاوعي في الوعي واكتفى بالداخل، ولم ينمو لديه ذلك الاهتمام بالخارج، فلا تتكون تجربة حقيقية تصنع الذات.

ما حصل في الفيلم أنه جرى التحكم بشكل قاسٍ في المعرفة التي يكتسبها الطفل، بحيث ضبط الأبوين عبر ذلك السلطة التي ستنتج عن تلك المعرفة. وعبر عدم وجود المقاومة التي يمكن اعتبارها محتوى الإنثناءات التي يصفها فوكو؛ لا تتراكم الذات ولا تتشكل الفردية. فالتحكم في المعرفة وتشويشها بما لا يصنع رفضا لدى المتلقي سيلغي شخصيته ويضعف ذاته، ومع أن ذلك يبدو أسهل في الوهلة الأولى في إدارة المتلقين، لكن لحظة انفجار عمياء بلا معنى سوف تأتي لتكشف الوهم المتراكم في تصور السلطة ذات الجوهر التي يظن الأب أنه يمتلكها، وهي تلك اللحظة التي فيها كسرت البنت الكبرى نابها ثم ذهبت لتختبئ في مؤخرة سيارة أبيها مندمجة إلى أقصى الحدود بالكذبة القديمة للأب بأن العالم سيكون آمنا لهم فقط عندما يسقط سن الناب.

مفهوم الإنثناءات في التفكير هو ما يقترحه جيل دولوز؛ وهو يشرح فكرة فوكو عن الداخل والخارج في الذات؛ فدولوز يؤكد على عدم وجود حد فاصل بين الداخل والخارج، فهناك دائما امتدادات للخارج في الداخل، وللداخل في الخارج، وهما في حركة مستمرة على شكل تلقص وانقباض دائم. “ليس الخارج حدا ثابتا في موضوع بعينه لا يزول عنه، بل هو مادة متحركة في تقلص وانقباض دائم، وهما حركتان ينتج عنهما ظهور ثنايا وانثناءات وعضون تشكل بالنسبة للخارج داخلا أو طوية… ليس الداخل إلا الخارج ذاته، بل إنه بالضبط داخل الخارج أوثناياه.”[7] ويعالج دولوز هذا الاشباك بين الداخل والخارج باعتباره متاهة أو مجموعة متاهات تتكرر فيها الطيّات بطرق مختلفة، فهو يستبدل التمييز بين الداخل والخارج بالتمييز بين الغور والبروز في الطيات، فالمعرفة الداخلية الصامتة واقعة في غور انثناءة ما، وستخرج للفعل المادة مع حركة الطية وتحوّل الجزء الغائر إلى جزء بارز ومنثن للأعلى.[8] يمثّل دولوز هذه الإنثناءات في الذات بفن الورق الياباني “الأوريغامي”، حيث ما يحدد الداخل والخارج هو الفراغات المحشورة داخل لفات الورق وطياته. ونفس هذه الإنثناءات هي التي يعنيها ميشيل فوكو عندما يتحدث عن تولد الذات كخطوط تكاملية مع السلطة تتشوه نتيجة خطوط اعتراضية لمقاومة السلطة ما يجعل هذه الذات دائما مفتوحة ومتحركة كورق الأوريغامي.

تعليقات وهوامش:

*نشرت في مجلة شرق غرب في فبراير 2017

[1] ميشيل فوكو، تاريخ الجنسانية 3: العناية بالذات، ترجمة محمد هشام، أفريقيا الشرق، ص42

[2] حسين موسى، ميشال فوكو الفرد والمجتمع، دار التنوير، ص52

[3] جيل دولوز، المعرفة والسلطة مدخل لقراءة فوكو، ترجمة سالم يفوت 1987 ص111.

[4] Frank Robinson, How old is the self? Philosophy Now, issue 97.

[5] جيل دولوز، المعرفة والسلطة مدخل لقراءة فوكو، ص 45-46

[6] ميشيل فوكو، إرادة المعرفة، ترجمة مطاع صفدي وجورج أبي صالح ص 102

[7] جيل دلوز، المعرفة والسلطة، ص104

[8] Gilles Deleuze, The Fold, Trans. Jonathan Strauss, Yale French Studies, No. 80, 1991, p228

Visits: 48