يونيو 18, 2025

براكسيس رمادي

حيث الفكرة الحرة تقود التغيير

خيارات المقاومة والتفوّق المضاد

القدر الذي بات مؤكدا خلال هذه الحرب المؤجّلة أن صراع المنطقة ليس مع الكيان المسعور، وإنما مع أمريكا الصهيونية. الأمر لم يكن خفيا في السابق، ولكن الحرب الحالية كشفته تماما. محور المقاومة يحارب أمريكا، وهذا الكيان هو وكيل حصري لا أكثر، وأمريكا هي التي تريد أن تعيد تشكيل الشرق الأوسط بما يضمن استمرار مصالحها لعدة عقود قادمة. وهذه الحرب موجهة لتصفية آخر ما تبقى من رفض ومقاومة لدى شعوب المنطقة، وكانت لتقع في أي لحظة، وما فعله الطوفان هو أنه عجّل بها.

الاستراتيجية التي باتت واضحة هي سعي استعماري لتركيع الإسلام المناهض للغرب، وترويضه وإدخاله في فلك التبعية للغرب؛ تارة بفكرة الإبراهيمية والترفيه، وتارة بالعنف والإيقاع السريع وتنفيذ أكبر كمية قتل ممكنة لإحداث الصدمة. وخصوصا أن هناك مجاميع كبيرة من العرب بالمنطقة قبلوا بالمعادلة الأمريكية، ودخلوا في فلك الغرب، ويرفضون هذا الاسلام المقاوم، ولهذا تستثمر أمريكا كثيرا في هذه الحرب، لضمان استمرارية تفوق وكيلها، ومعه بقاء حلفائها العرب في صفها، فلا ينسحبوا إلى التيار المقاوم المناوئ المستعد لحمل السلاح في وجه وكلاء الغرب بالمنطقة. ومن هنا يمكن أن نخمّن لماذا الإصرار على فتح الجبهات، ورفع السقف دائما، وتفجير أكبر قدر من العنف في المنطقة.

ثمّة مكوّن في الثقافة الأمريكية مرتبط بالمخاطرة والذهاب إلى أبعد الحدود. ويبدو أن ذلك مرتبط بروح الرأسمالية البروتستانتية الساعية دوما لمراكمة التقدّم وتعظيم المكاسب. المخاطرة مفهوم حسابي؛ تقف خلفه رياضيات اقتصادية مركّبة، وهو يتجلى بالإضافة إلى الاقتصاد؛ في مجالات أخرى كثيرة؛، كالبحوث العلمية، والدفاع، والإدارة، وعالم الأعمال. يرتفع معدل المخاطرة مع وجود خطوط رجعة تعوّض الخسائر المحتملة، وبالنسبة للسياسة الأمريكية؛ خطوط الرجعة هذه هي القوة العسكرية والتفوّق التقني والدولار. إذ من خلال هذه الخطوط تستطيع أن تمسح أي هزيمة أو فشل ينالها. لهذا لا مشكلة كبيرة لديها في الذهاب إلى أبعد الحدود في تحطيم كل من يقف في وجه تفوّقها، دون أن تبالي كثيرا باحتمالات الفشل، على اعتبار أن مساحات المناورة دائما لديها أعلى بكثير من غيرها.

ومن هنا يمكن أن نفهم لماذا رئيس الكيان مصرّ في كل مرة على توسيع الجبهات والذهاب إلى أبعد الحدود، حتى مع فشله المتكرر في تحقيق أهدافه. هو من البداية رفع السقف إلى أبعد حد ممكن. هذه هي السياسة الأمريكية. لا توجد مشكلة كبيرة لدى الحكومة الامريكية في أن يفتتح وكيلها المسعور جبهات جديدة فوق الجبهات التي هو أصلا فاشل فيها. شركات السلاح تصنع، واستخبارات الدنيا في خدمتها، والدولار يطبع. الخسائر يمكن تعويضها خلال فترة قصيرة. بينما المكاسب في حال الانتصار ستستمر لعقود أطول. ولكن السؤال المهم هنا: هل هذا التفوّق سيستمر للأبدّ؟ بمعنى هل فارق القوة بين ما تتخيله الدولة العميقة بأمريكا وبين باقي دول العالم هو فعلا يسمح بالمغامرات الأمريكية وهي تشعل وتدير الصراعات حول العالم؟ وترفع سقفها بلا حدود؟

ثمّة متغيّرات مهمة تحدث عالميا تجعل الخناق يضيق يوما بعد يوم على هذا العقل الحسابي البرغماتي (الأنجلوساكسوني). فمثلا توسّع البريكس وتشكّل حلف الجنوب العالمي هذا يشكل تهديدا جدّيا محتملا لمكانة الدولار؛ السلاح الأمريكي الأقوى حاليا، وربما الوحيد لخداع العالم. هذا التحالف سيقضم من حصة الدولار بالتدريج، وما تفعله أمريكا هو أنها تشعل الحروب من أجل تأخير لحظة سقوط الدولار. وأنا شخصيا أظن أن طوفان الأقصى عجّل وسرّع من حركة دول البريكس نحو تسريع التفاصيل العالقة فيما بين الاقتصادات البينية لهذه الدول. لأن النوايا الأمريكية صارت واضحة تماما. القانون الدولي والأمم المتحدة والمحاكم الدولية؛ كل ذلك وضع ليطبّق على غير الغرب. الحكومات الغربية فوق القانون!

فيما يخص بالتفوّق التقني، فثمّة عامل مهم يوجد في قلب مفهوم التقنية، قلّما يتم الالتفات إليه، وهو يجعل مقدار ما تسهم به التقنية في فارق القوة الحقيقية أقل بكثير مما تفترضه العقلية التقنية الصرفة. هذا العامل يتمثّل في الفارق الروحي الأخلاقي الذي يعطي المعنى لهذه التقنية أو تلك. هذا الفارق لا يمكن إدخاله في المعادلات والخوارزميات الحسابية، وهو بمقدوره حتى أن يقلب المعنى داخل التقنية لترتد على سلبا على صاحبها. فعوضا عن أن يكسب؛ تجده يخسر، وأمامنا غزّة خير دليل على ذلك. الإنسان كائن أخلاقي وفقط. الأداة التي في يده ستمتلئ تلقائيا بالمحتوى الأخلاقي الذي يفيض به عليها. وإذا أفرغها من ذلك؛ فقد ترتد عليه وتقضي عليه.

ثمّة عيب وجودي داخل العقل الحسابي الذي يحسب التفوّق بالمعرفة التحصيلية التجريبية فقط. وهو أن أنه لا يستطيع أن يدخل مصادر القوة المعنوية في الحسابات. الاستبصار خلاصات بقدر ما تتحقق من البيانات المجموعة، وخوارزميات الذكاء الاصطناعي؛ يتحقق بدرجة أعلى وأعمق من استشفافات النفس المتعلقة بقضيتها وحقوقها وكرامتها. الأرض ملهمة، والمتجذّر في التاريخ يلتقط ما لا يلتقطه الطارئ، وحبل الظلم منقطع بلا شك، لأن أسبابه تتوقف عند حدود ما في يده. وإذا أضفنا إلى هذا التمايز؛ إرادة القتال التي لا علاقة لها بالتفوق الاستخباري؛ فإن فارق القوة يضيق فعلا.

هذا يجعلني أؤمن بثقة أن التفوّق الأمريكي ليس مطلقا ولا دائما. ما يجعل الاستسلام العربي الرسمي للإدارات الأمريكية المتعاقبة غير مبرر مطلقا. الأمر لا يحتاج إلى عنتريات وادّعاءات، هي فقط حرب إرادات وحرب على الوعي. سياسة الذهاب إلى أبعد الحدود هي حرب نفسية أكثر مما هي معبرة عن تفوّق استراتيجي حقيقي. وسوف تصبح المعادلة مختلفة تماما إذا أضفنا إلى كل ذلك عدالة القضية، والزخم المعنوي الهائل الكامن داخل فكرة التسليم لإله مطلق القوة والعدل والعلم، وهذا هو جوهر الإسلام. ما يبقى بعد ذلك هو سؤال بسيط: هل نحن مستعدون لدفع الثمن الذي يدفعه المقاومون على الجبهات المختلفة؟

وأخير..

لدى الراحل د. المهدي المنجرة كتاب خفيف بعنوان “زمن الذلّقراطية”. الكتاب عبارة عن حوارات ومقالات متفرقة للمفكر؛ تركز إجمالا على المشكلة المزمنة لدى العرب حول المستقبل. اليوم أستعيد هذا الكتاب في ظل القصف العنيف على اليمن، وتهديدات البلطجة الامريكية غير المحدودة، كل ذلك في مقابل طلب يمني بسيط للغاية؛ يمثل أضعف الإيمان مما هو مطلوب من العرب، وهو إدخال الطعام والدواء إلى غزة. الأنظمة العربية الرسمية قبلت باللعبة الرأسمالية، وانخرطت فيها حتى النخاع، وربما تجني بعض الأنظمة قليلا من فوائد هذه الرأسمالية في جوانب معينة، ولكن حجم ما فاتها غير محدود.

Views: 2