يونيو 18, 2025

براكسيس رمادي

حيث الفكرة الحرة تقود التغيير

عن العمالة والعملاء

أحاول في هذا التعليق وضع فكرة العمالة أو الأنظمة العميلة للمستعمر القديم في سياق تاريخي معيّن. وخصوصا في ظل كل هذا الخبال العربي الذي لم يعرف له التاريخ المعاصر مثيلا.

تبدو فكرة العملاء جزء من صلب الرأسمالية والإلحاق الاقتصادي بالمركز. الأمر يشبه وكلاء الشركات حول العالم والذين هم عملاء لدى الشركات الأم. الحكومات المختلفة ستصبح الضامنة لهذه التبعية الاقتصادية للنظام الرأسمالي. وهذا لا يحدث في منطقتنا فقط. بل هو شأن عالمي، والدول التي ترفض هذا الإلحاق ستكون دول مارقة يجب محاصرتها بالعقوبات أو بالتدخل لإسقاط النظام. الاستفادة من مزايا النظام الاقتصادي العالمي يتطلب القبول بقواعده التي يتحكم فيها الغرب بطبيعة الحال. هذا يمكن أن يكون مقبولا لدى الكثير من الثقافات، ولكن في الحالة الاسلامية هذا يؤثر على العقيدة نفسها. الاسلام في جوهره يرفض هذه التبعية.

الاسلام عصي على التحديث بالمقاييس الغربية، وهو دين عنيد؛ يستند إلى إرث حضاري ممتدّ، ولكنه في الوقت نفسه لم يتمكن من صنع بديل موازي للحداثة يقنع أتباعه بضرورة التوحّد خلف هذا البديل. المشروع الذي تتصدّره الحركات الاسلامية المقاومة اليوم ما يزال في إطار التحرير والاستقلال، وهنا لا صوت يعلو على صوت المعركة. لا يوجد أي مشروع آخر للحديث عنه سوى مشروع التنمية، وهو مشروع تنازل عن فكرة ريادة الاسلام للحضارة، وقبل بقواعد التبعية الاقتصادية للمركز في الغرب. المعركة الحالية تأتي في هذا السياق. محور مقاومة يتعاطف معه معظم المسلمين، ولكنه مشغول بإنجاز التحرير، وعرب قبلوا بقواعد اللعب الغربية التي تشترط التطبيع مع وكيلهم الرئيسي بالمنطقة.

العمالة بهذه المعنى هي فكرة خيارات. ما الخيار الأقرب لتحقيق التقدم والدخول في التاريخ؟ العميل هنا لا يقرأ نفسه كعميل ينفّذ أجندة خارجية على حساب مصالحه، ولكنه كنظام وكحكومة يحاول أن يجد لنفسه موطأ قدم في ملعب يُدار من الألف إلى الياء من قبل شركات وبنوك ومنظمات وأجهزة استخبارات؛ معظمها في الغرب، وإذا لم تعرف كيف تلعب معها فستظل خارج التاريخ. تبقى المشكلة هنا أن النموذج الاقتصادي الدولي (الغربي) هو نموذج استعماري قائم على المصلحة الفردية وليس المصلحة الجماعية، وقائم على نوع من الهرمية يشبه هذا الذي نجده في الشركات العابرة للقارات. وهكذا فالمنخرط في اللعبة سيجد نفسه لا إراديا يفكر بعقلية استعمارية هو الآخر؛ يتعامل مع الآخرين بمنطق التفوّق، مع إبقاء بعض أسباب الحياة للضعيف باعتباره سوقا استهلاكية، وإلا فيتم سحقه عندما لا تعود من وجوده مصلحة.

الانتقال من خانة “المفعول به” باصطلاح أبو عبيدة؛ إلى خانة الفاعل؛ في رأيي مرتبط بشدة بقدرة الإسلام المقاوم على تقديم مشروع حضاري للمنطقة. ولا أرى أي بديل محتمل آخر. وأفضل هنا أن أستخدم مصطلح الإسلام المقاوم بدلا من مرادفه المتمثل بالاسلام السياسي الذي أظن أنها مفهوم حوصر ونُمّط كثيرا من قبل دوائر الغرب البحثية. الإسلام في الأصل هو دين سياسي، بمعنى ولد والسياسة مكوّن في جوهره. وفصل السياسة عنه هو مؤثر خارجي عليه؛ جاء تقليدا لما حصل في الغرب في مطلع القرن الثامن عشر. تبقى المشكلة مع الإسلام المقاوم أنه سيدخلنا بالضرورة في صراع غير متكافئ مع الغرب، وهذا ما يرفضه الكثيرون بيننا.

شخصيا مقتنع قناعة تامة بأن الإسلام المقاوم قادر على تقديم الكثير للحضارة المعاصرة. قد لا يستطيع تقديم بديلا مكتملا لاعتبارات كثيرة، ولكن بمقدوره أن يسهم في تطوير الكثير من الحلول لمشاكل العالم التي أفرزها النموذج الغربي الذي تنكشف قباحاته الكثيرة يوما بعد يوم. و حتى عوامل الفساد التي بداخل حواضن الإسلام حاليا؛ كصناعة الجهل، والطائفية، والتطرّف؛ هي لا تأتي من التراث والتاريخ كما يمكن أن نتخيّل، بل هي ظرف تاريخي مؤقت ناتج أصلا من منافسة الغرب الشرسة. الإسلام طوّر في السابق أدوات كثيرة تضمن مواكبته للمتغيرات من حوله، بل وتكيف مع الجغرافيات الكثيرة التي وصل إليها. ومن المؤكّد أنه قادر على ذلك الآن؛ فلا يوجد في جوهر الإسلام ما يمنع العقل من الاشتغال.

لقد تطوّرت التجربة السياسية للحركات الإسلامية المقاومة اليوم بشكل كبير وواضح، فتطوّرت أدواتها وخطابها، وهي من النضج والمرونة الذي يتظافر مع التنظيم العملي والتضحيات والثبات؛ بحيث لا يشكّ الواحد أنها ستقدم الكثير للمنطقة فيما لو حققت انتصارها التاريخي المرتقب. وخصوصا لو لاحظنا قدرة الإسلام المذهلة على استيعاب نظم العصر والانخراط فيها وتحديثها بما يعيد الجانب الإلهي الذي غيّبته عقلانية الغرب الجافّة. وهنا تحديدا؛ تتشخّص العمالة والموالاة للغرب، وتصبح جليّة؛ بسبب معاداتها للحل الذي يقدّمه الإسلام المقاوم، أو سيقدّمه. فالعمالة كمراهنة على صواب الخيارات الغربية، ومخاولة التأثير عليها باعتبار الوكيل المحلي جزء من هرمية النظام الأكبر؛ هي في النهاية فكرة من بين أفكار، ومواجهتها يأتي بإيجاد الفكرة البديلة الأكثر إقناعا، وهو ما يحاول محور المقاومة أن يثبته.

Views: 4