يونيو 18, 2025

براكسيس رمادي

حيث الفكرة الحرة تقود التغيير

الإشارات الإلهية من حرب غزة.. ما الذي يجري؟

هذه إشارات وعلامات تم تسجيلها على صفحتي بالفيسبوك خلال الحرب المفروضة على غزّة، وتبدأ بالأحدث فالأقدم.

 

(1)

لا تحب أمريكا التكتلات والتجمّعات الاقتصادية والسياسية، وتفضل التعامل مع كل دولة أو جماعة بشكل منفرد. وهذه عقلية انجليزية قديمة، بل وربما هي عقيدة كل قوي يشعر بأنه منفرد بالقوة. لهذا هي تحارب أي محاور وتحالفات إقليمية أو عالمية. يجب فك مثل هذه التحالفات التي تستطيع تحدي هيمنتها، وهذه هي أهمية القواعد الأمريكية المنتشرة في جميع أنحاء الكوكب، وغاية العقوبات التي تهدد بها العالم، ووظيفة الأدوات التي تزرعها هنا وهناك على شكل أنظمة أو شركات أو جمعيات حقوق وخلافه.
أمريكا ستحبك عندما تتعامل معها أنت بمفردك، ولكن إذا قررت أن تأتيها بصفتك محور أو تكتّل سياسي أو اقتصادي؛ هي لا تعرفك. ثمّة شيء في سلوك القوي المتفرّد بالقوة، وهو أنه يعتبر نفسه طرف محايد خارج التحالفات، لأنه لا يحتاجها باعتبار فارق القوة الهائل. هذا الشعور غير حقيقي وهو وهم، ولكنه يظل حاضر في الممارسة. هو يعاقب وهو يكون الملجأ عندما يتألّم الطرف الذي تمّت معاقبته. الآن كل هذا الكلام عن السياسة الأمريكية؛ صار ينطبق أيضا على دولة الاحتلال بالنسبة لمنطقتنا، وهذا ما كشفته الأحداث الأخيرة.
لا يجب أن ينصر أحد ما الفلسطينيين، والذين يجب أن يحلوا مشكلتهم منفردين مع إسرائيل. فارق القوة يفرض مثل هذه المعادلة الظالمة. وعموما التاريخ لا يخلو من مثل هؤلاء الأقوياء الذين هم في الأصل يعيشون وهما وجوديا خطيرا، لأن القوة طاقة متدفّقة كالريح، لا يمكن حبسها في مكان. يجب توزيعها قبل أن تفكك صاحبها من داخله. نحن نراقب وننتظر حتميات التاريخ أن تشتغل وتنهي الظلم الذي يقع على هذا الشعب الذي انقطعت عنه أسباب الأرض، ولم تبق له غير أسباب السماء.
(2)
ينتمي العدل الإلهي بحسب الشهيد مرتضى مطهري إلى الكليّات، فهو متوسّط تاريخي عام لا يتحقق في فترات جزئية. ما يرهق النفس البشرية هو أن العقل كقابلية وقدرة وملكة؛ لا يستطيع أن يتعامل مع الكليّات، ويحتاج إلى مِران وتهذيب طويلين لكي يستوعب قيمة كبرى كالعدل الإلهي. المكاسب القصيرة أسهل في التداول والإقناع، ومن هنا تنشأ الظلامات، ويتم تجاوز المواثيق الوضعية بطريقة فجّة وفاضحة تفوق قدرة العقل البشري على إجراء حسابات الربح والخسارة، ما يضطره للسؤال: أين هو العدل الإلهي؟!
(3)
التناقضات سمة موجودة عند كل الشعوب، ولا حل لها سوى قبول التعايش والتساكن معها، فقط لأن البديل مكلف. ولكن التعايش يتطلب ثقافة خاصة تمتزج فيها عقلانية الواقع مع الرصيد الروحي لهذا الشعب أو ذاك. هذا التصالح هو ما ينقص منطقتنا، ومن ذلك يولد الطغيان الذي يدمر الدول والمجتمعات كما يقول ابن خلدون. ليست الطوائف ولا المذاهب ما يمنع التعايش؛ بل انعدام التفاهم بين العقل المصلحي الواقعي مع التراث الروحي الأخلاقي. هذا يتطلب حوارا داخليا طويلا يتمخّض عنه دستور يضمن استمرار هذا الإرث الروحي للشعب، وفي الوقت نفسه؛ لا يتعامل مع هذا التراث بمثالية تخرجه عن ضرورات الواقع المتغير. هذا يذكرني بكتاب “أنطولوجيا الذات” للمفكر السوري الفلسطيني البروفيسور أحمد برقاوي الذي شرّح الذات العربية بشكل عميق ومبتكر. ثقافة الإلغاء بحسب برقاوي تأتي من انقطاع الروابط بين الأرض والسماء؛ لو جاز لي التمثيل. هذا الإلغاء يضخّم التناقضات، ويكسّر الذات، ويحوّل حتى أبسط اختلاف إلى كتلة صلبة مستعصية من المشاعر السلبية المتراكمة، والتي لا يمكن حلّها إلا بالتدمير. الحوار ثم الحوار ثم الحوار؛ هو الطريق الوحيد لتحقيق هذا التساكن والتجاور. بارك الله للسوريين في ثورتهم، ولكن كما قال الحكيم محمود درويش عن الوطن يوما: “خبئي الدمع للعيد فلن نبكي سوى من فرح”.
(4)
في معارك العقل والعاطفة تنتصر العاطفة. من ينظر لعقلانية الصهاينة ويقارنها بعواطف اللبنانيين؛ يعرف أين المنتصر؛ من عاد إلى دياره المهدمة مبتهجا وسعيدا رغم كل الجراح، ومن يريد تعويضات وضمانات الحكومة لكي يعود. من يطالب المقاومة بالتفكير العقلاني؛ في واقع الأمر يطالبها بأن لا تعمل أي حساب للعاطفة. يعني ما كان يجب للطوفان أن يحدث وما كان يجب على جبهات المقاومة الأخرى أن تشارك، وأن الموقف العربي الرسمي هو الأصح لأنه الأعقل. هذا بطبيعة الحال إذا استثنينا القدرة العجيبة للعاطفة على تفجير طاقات العقل، وإذا استثنينا الألعاب اللغوية التي يمارسها العقل وهو يحاول أن يخفي العواطف خلفه. والحقيقة التي أجدها أننا نعيش في هذه الحرب صراعا لغويا بامتياز. والمعيار الأصدق للاصطفاف هنا: ما الذي يصل إلى القلب؟
(5)
الإنتصار ليس حقيقة موضوعية بقدر ما هو شعور داخلي بأنك منتصر. قد تكون موضوعيا بالخارج أنت خاسر ولكن ما تشعر به هو شيء آخر. لاحقا ستجتهد لتفرض هذا الشعور بالخارج؛ بحيث تحافظ على قواعدك ومساحاتك وثقافتك لتبقى فاعلة ونشطة؛ بغض النظر عن الخسائر والانكسارات التي تلقيتها. الانتصار له ثقافته الخاصة. هذا يعني أن له أدبياته وخطابه وعناوينه وفعالياته الخاصة. وله جمهوره الخاص كذلك. قد تنتصر ولكن جمهورك لا يؤمن معك بذلك، وقد تكون مهزوما، ولكن جمهورك يرفعك. هنا نكتشف أهمية الجمهور في صناعة النصر. قد تخسر الساحة وتكسب الجمهور، فكيف إذا كسبت الاثنين. لهذا لا يجوز لنا أن نقلل من قيمة التفاعل الداعم لثبات هذه المقاومة وتأكيد انتصاراتها، ورفض خذلانها، والدفاع عنها.
(6)
هناك كلمة قالها سماحة الشيخ نعيم قاسم في خطابه الأول لا أعرف إن كانت نالت ما يكفي من الاهتمام، وهو أنه لا يوجد في المنطقة سوى المشروع الفلسطيني، في مقابل المشروع الصهيوني، ونحن (محور المقاومة) نعمل لتعضيد ودعم هذا المشروع. يعني لا مشروع إيراني ولا شيعي ولا عربي ولا غيره. هذا يذكرني بخطاب شهير قديم للشهيد السيد حسن نصر الله عندما خاطب حركة حماس؛ بأن يعتبروا قيادة ومنتسبي ومقدرات وبيئة الحزب؛ كلهم أعضاء في حركة حماس. الفلسطينيون يملكون مشروعا للتحرير، وهو ما يجب أن يكون عنوان كل الفعاليات المقاومة والمتعاطفة والمؤيدة. وبما أن القوى الاستعمارية الكبرى هم أعداء هذا الشعب المظلوم؛ فلن يكون بمقدوره تحقيق هذا المشروع بمفرده، ومن هنا لا يفترض أن يكون حاضرا في المنطقة سوى المشروع الفلسطيني الذي نلاحظ قدرته غير الطبيعية على تحريك إنسانية شعوب الأرض كلها، بحيث لم تبق عاصمة حول العالم ولم يرتفع فيها العلم الفلسطيني.
(7)
مع كل الآلام.. هذه واحدة من أكثر الحروب عدالة واستحقاقا في العصر الحالي. وبالقدر التي تكون النوايا غامضة والمحرّكات ملتبسة؛ ما يسمح بتسرّب فكرة العبثية إلى الحروب؛ لا يوجد أي شيء من ذلك في هذه الحرب. من خصائص الحروب العادلة أن لا أحد يستطيع أن يتعامل معها بلا اكتراث؛ وكأنها لا تعنيه، تماما كما لا يحق لأحد إلا أن يقف مع المظلوم؛ وإلا خسر إنسانيته؛ أغلى ما لديه. الحروب العادلة مفصلية؛ ما بعدها ليس كما قبلها. وفيها تشتغل مفاعيل التاريخ لإصلاح أخطاء متراكمة.
(8)
من أخطر الأسئلة التي لم تعد تُسأل على مستوى الأنظمة العربية منذ عقود، ويفسر سبب غياب المشروع السياسي العربي؛ هو هذا السؤال: من هو عدو العرب؟ وجود العدو مهم جدا في الشعور بالذات، إذ يزداد تكنل وتمركز ووضوح هذه الذات مع وجود العدو. تعريف العدو يعني تعريف الصديق أيضا. ونحن نكتشف أنفسنا في هذه المسافة بين الأعداء والأصدقاء. الآن لو طلبنا من أبو الغيط مثلا أن يعرف لنا من هو عدو العرب؛ فهل سيستطيع؟! العدو موجود بالتأكيد، ولكن لأننا غير قادرين على تعريفه؛ فنحن نعيش هذه الحالة السائلة من الميوعة والتحلّل الحضاري. هل سيصلح لنا طوفان الأقصى هذا الخبال منقطع النظير أم لا؟ هذا ما أرجوه بعد كل هذه التضحيات الهائلة.
(9)
لا أعرف عدد المرات التي كنت مضطرا أن أشيح بوجهي أو أرمي الهاتف جانبا، أو أغلق كل شيء وأتوقف لحظة عن متابعة ما يجري على هذا الشعب المظلوم في غزة. الإنسانية نسب بين البشر، والعدل معادلة إلهية خارجة من حسابات البشر، ولهذا لا نجد أي سياق يفسّر هذا التنكيل والإجرام بالعزّل في غزة. إنّه ظلم تاريخي مركّب؛ كثّف كل القسوة التي يمكن أن تمارس في مئة عام بحيث تقع في سنة واحدة على شعب محاصر انقطعت عنه كل الأسباب إلا أسباب السماء. وهو ظلم مركّب لأن العالم بأجمعه شريك فيه. ثمّة سرقة تاريخية جرت في غفلة من الزمان كان ضحيّتها هؤلاء الأبرياء. وكان علينا أن نكون شهودا على هذه الجريمة الكبرى. شهودا صامتين.. يتجرّعون مرارة أن تشاهد عشرات المرّات ألم طفل لا يفهم لماذا هو يتألم! إنها شهادة تجلب الخزي على صاحبها، فيضطر للتنفيس عنها بدعاء هنا، ودمعة هناك. وقليل من كلمات ترفع العتب، وتهدئ الضمير المجروح.
(10)
صعود اليمين الصهيوني في الإدارات الأمريكية المتعاقبة أفقد هذه الإدارات المرونة والقدرة على المناورات السياسية. لم تعد أمريكا تلعب سياسة كالسابق. استمعت بالأمس إلى حوار مذيع الجزيرة إلى جون بولتون؛ وواضح جدا أن الصهيونية ليسوا برجال سياسة ولا حوار. يمكن ملاحظة ذلك حتى لدى الموفدين الأمريكيين إلى المنطقة الذين دائما يرجعون صفر اليدين. فيبدو أن الإرث الإنجليزي العريق في الاتصال والتفاوض وإدارة العلاقات بدأ ينتقل من الأمريكيين إلى شعوب أخرى. ما يعني أن المستقبل لن يكون أمريكيا. صعود وهبوط واستمرار الامبراطوريات لم يكن يوما مرتبطا بالعنف بقدر ما هو مرتبط بالحكمة ومدّ خطوط الاتصال هنا وهناك. مقتل الدول دائما في طريقة “ما أريكم إلا ما أرى”.
(11)
أناديكم
“أناديكم” من أقدم أغاني المقاومة التي ما تزال عالقة في ذهني. ربما كبر وعيي بفلسطين مع هذا النشيد الذي أرجّح أني سمعته للمرة الأولى على إذاعة القسم العربي من طهران في وقت ما من الثمانينات. القصيدة هي للشاعر الفلسطيني توفيق زياد كتبها في ستينات القرن الماضي، وغناها الفنان اللبناني أحمد قعبور في ١٩٧٥ مع انطلاقة شرارة الحرب الأهلية اللبنانية. ثمّة مقطع في القصيدة أستعيده بقوّة الآن أمام كمية الصهينة العربية التي فاقت كل حدود الاستلاب والهزيمة بعد أن سيطرت علينا عقيدة الترفيه، وهو عندما يقول الشاعر للمقاتلين: “وأبوس الأرض تحت نعالكم”. لم أكن وقتها لأستوعب دلالة هذا المقطع، ولكن أمام هذه الحرب الشرسة القائمة على الوعي العربي؛ أظن فعلا أن أحذية المقاومين أكثر قيمة من أي متخاذل يطعن المقاومة من الظهر.
(12)
الشعور بالعار قد يبدو فرديا نتيجة ضغط الجماعة على الفرد، ولكن في حالات كثيرة جدا عبر التاريخ؛ يمكن أن يتحول إلى شعور جماعي. فهناك جانب ثقافي في الشعور بالعار، يتولّد نتيجة خطأ جماعي متراكم. تبقى المشكلة أن هذا الشعور عندما يتعلق بالجماعة؛ لا يكون غريزيا تماما؛ بل مكتسب؛ فيجب بالتالي الاشتغال عليه لتفعيل الطاقة الثورية التي فيه. تم زرع الشعور بالعار في الألمان من قبل الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية، في اليابانيين أيضا إلى حد كبير. ما يكون اعتياديا، يتحول إلى مصدر للعار. اليوم وفي هذه المرحلة الخطيرة من موت الشعور القومي العربي؛ بحيث لا يحرّك استشهاد أكثر من أربعين ألف فلسطيني سوى مشاعر قليلة وخجولة؛ أظن من المهم الاشتغال على الشعور بالعار. يجب رفعه بصورة دائمة وعبر مناشط وفعاليات في وجه هذا الخذلان والتآمر الوقح. تقنيات تثوير الشعور بالعار كثيرة؛ حتى في الحالات التي وصلت لمستوى “ما لجرح بميت إيلام”. مع الانتباه في الوقت نفسه إلى الحركة العكسية التي يبدو أنه جرى الاشتغال عليها طويلا من قبل الاستعمار الحديث؛ الشعور العكسي بالعار تجاه الثقافة المحلية بمكوناتها من لغة ودين وتاريخ وعادات.
(13)
لا يوجد لدى الدول العربية أي مشروع جامع ومانع للمنطقة. هذا شيء واضح منذ عقود. نعم ربما البعض يسمي الوضع بدول الخليج بمشروع التنمية. كما لو أن المشروع الوحيد لدى العرب اليوم هو مشروع اقتصادي تنموي خالص، طبعا هذا في مقابل مشاريع ثلاثة توسّعية في المنطقة؛ لدى تركيا وإيران وكيان الاحتلال. فالانخراط في الاقتصاد العالمي، وتكرار نموذج سنغافورة عربيا كاف لصنع المجد العربي المفقود، وبضعة تحالفات اقتصادية هنا وهناك، وتوسع في الدخول في سلاسل التوريد والقيمة المضافة، وبناء مشاريع ضخمة تلفت الانتباه؛ كل ذلك يغني عن الشعارات القومية الرنانة التي تم ترديدها لعقود منذ الاستقلال.
هناك ما يُفهم في هذا المشروع، وهناك ما لا يُفهم. فنحن نفهم لماذا لا تقدم الدول العربية شيئا لغزّة سوى الدعاء؛ خوفا على مشروع التنمية المرتبط أصلا بالمصالح الغربية. كما نفهم لماذا تفشل كل مشاريع الردع التي تتبناها الدول العربية لتحجيم الدور الإيراني والتركي والصhيوني في المنطقة، أيضا خوفا على العقلية التنموية وخوفا من النزول في تصنيفات المؤشرات الدولية. ولكن ما لا يُفهم هو هذا الفصل العجيب بين الاقتصاد وبين الموقع الحضاري للتاريخ. المشروع التنموي الخليجي يفترض أن العالم وردي، وأن الموقع الحضاري القديم هو العائق الذي يمنعنا من تحقيق الريادة العالمية؛ على اعتبار ان العالم اليوم يتكلم أرقام ودولارات. ثمّة رصيد ضخم عمره أربعة عشر قرن يجري شطبه من أجل اقتصاد الوفرة. لماذا مثلا لم نفكر في القيمة الاقتصادية لفلs..ين؟ لنفترض ولو جزافا أن من يسيطر على فلsط..ن سوف يسيطر على اقتصاد المنطقة مستقبلا؛ ألا يعني ذلك شيئا؟
أظن أن هناك ثمّة خيانة معينة في مشروع التنمية (فيما لو جاز لنا أن نسميه مشروعا) لم يتم تشخيصها بالشكل الكافي. خيانة اقتصادية قبل أن تكون تاريخية. يعني مثلا: هل عقود السيطرة على الموانئ هنا وهناك؛ في الصورة الكبرى لمفهوم الاقتصاد (الاقتصاد الكلي) تحقق نجاحا للمنطقة أم فشلا؟ بضربة واحدة من فصيل لم يتم استيعابه في المشروع الاقتصادي الخليجي (اليمن)؛ تم شل اقتصاد موانئ كثيرة في المنطقة. هناك أسئلة كثيرة يجب أن تطرح على هذا المشروع.
(14)
كنت أفكر منذ بداية هذه الحرب القذرة على الشعب الفلسطيني؛ كيف يمكن للمثقف العربي ذو الانتماء الديني أن يتعامل مع هذا الفكر الغربي الذي يطعننا من الظهر؟ في نظري أن من يستند إلى إرث حضاري وثقافي ضخم كالإسلام؛ لا يضرّه أن يستند إلى القيم العقلانية الغربية، فهو لا يرجع إليها رجوع الفارغ من أي محتوى. بل يعود إليها عودة من يقف على أرض ثقافية صلبة، بحيث بمقدوره أن يحاكم العقل الأوروبي بقيمه، ويحاسبه على خيانة تنويره. جوهر الحضارة هو العدالة والأخلاق. بل كل جهود الحركة الإنسانية الأوروبية، وما تلاها من تنوير ورومانسية، بل وحتى الحركات العلموية الإلحادية؛ هي جهود لتحرير الإنسان من الظلم والجهل، وهكذا فعندما نرى هذا الانحراف الغربي، وازدواجيّتهم في الدفاع عن الاحتلال وغض النظر عن حقوق الفلsطينيين؛ هذا لا يجعلنا في موقف التابع. كما لو أننا نريد أن نقول: نحن أولى الناس بكانط وهيجل؛ حتى لو كان ما يقصدونه بالتنوير هو تنوير الإنسان الغربي فقط.
(15)
جزء كبير من العبقرية الفلسطينية في مقاومة غزة هو الطريقة المبتكرة في بناء المؤسسات التي تمثّل المظهر السيادي لأي شعب من الشعوب. لا يستطيع شعب ما أن يقرر مصيره بدون أن يبني المؤسسات التي تخدم الناس. تدمير المؤسسات هو تدمير المصير الذي يختاره الشعب، وهذا واضح جدا في ما يفعله الاحتلال. عبقرية المقاومة تكمن في شكل الخطاب الذي يعمل بمثابة الروح للمؤسسة. عقل المؤسسة يشتغل لغويا؛ مجموعة قواعد وقوانين تنظيمية، وتوصيف لمجموعة اجراءات؛ تفترض وجود مكان ومساحة يشترك فيها مجموعة من الناس يمتلكون مهارات معينة لأداء مهام متفق عليها مسبقا. غياب هذه المساحة تلقائيا يعني نهاية المؤسسة، ولكن في الحالة الغزاوية؛ ثمّة مساحة افتراضية ناعمة؛ صنعها الخطاب الذي تغذيه ذاكرة متماسكة تغذّيها عقيدة قوية. المؤسسة هنا لا تموت، لأنها لا تتمركز حول المكان المحسوس (مبنى، أرض)، ولا حول تسلسل قوانين وقواعد. بل تتمركز حول أشكال خطابية متغلغلة في وجدان الشعب. دولة الاحتلال تعلم هذا يقينا، وتعرف أن الغزاويين سوف يعيدون بناء أنفسهم خلال فترة وجيزة جدا، ولهذا تريد أطراف عميلة لإدارة القطاع.
(16)
منذ ٧٣ وهذا الكيان يعتمد سياسة المكاسب الصغيرة هنا وهناك. لم يحقق أي نصر استراتيجي منذ خمسة عقود، ولكن إنجازاته التكتيكية المحدودة تتراكم فتصنع ما يشبه الانتصار الضخم. هو شكل استعماري متقدم، استفاد من أخطاء الاستعمار القديمة، وربما ما يزال في جعبته الكثير، بسبب التخادم الواسع الذي اشتغل عليه طويلا مع حكومات وأجهزة ومؤسسات في المنطقة وحول العالم، ولكن هذا التخادم لا يصنع جذورا في الأرض. هو تبادل مصالح ينتهي بمجرد انتهاء المصلحة، لهذا نجده في هذا الاختبار الحالي يرافس كالذبيحة لكي يقتنع بأنه ما يزال حيا. فقط صمود الmقاوmة يكفي؛ حتى ينضج حلف أوسع يضم لاعبين كبار في المنطقة. ويبدو أننا نسير في هذا المسار. الكيان يصنع لنفسه أعداء أقوياء، وكل أشكال الtطbيع لم ولن تصنع له حلفاء استراتيجيين. ويوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم؛ كما يقول الإمام علي ع.
(17)
التحليل المنطقي العقلاني للحرب المتدحرجة في المنطقة؛ مهم ومفيد، لأنه يقدم قراء واقعية لطبيعة الصراع الوجودي بين مشروع المقاومة للتحرر ومشاريع الحركة الصهيونية العالمية بالمنطقة. غير أن الرصيد الحقيقي للقوة يكمن في العاطفة المترتبة على الانتماء. هناك قيم إنسانية واضحة في العدوان الأمريكي الإسرائيلي، ولكن يظل الإسلام القوّة الخفيّة التي تمدّ المقاومين بالروح القتالية والصمود. فمثلا.. المسجد الأقصى كشعار لهذه الحرب لا يتناقض مطلقا مع انتصار جنوب أفريقيا للمظلومين في غزّة، والمصالح الإيرانية وهي تدعم محور المقاومة لا تتناقض مع المشروعية الكونية لإرادة التحرر من الظلم والاحتلال.
(18)
اعتمدت الأمم المتحدة في ١٩٩٤ يوما دوليا للسكان الأصليين بحيث يكون في ٩ أغسطس من كل عام. اليونسكو تحتفل سنويا بهذا اليوم؛ عبر فعاليات مختلفة. مؤسسات كثيرة في ألمانيا وكندا وفرنسا وبريطانيا تحتفي بهذا اليوم. جستن ترودو لديه تصريح عريض طويل في الاحتفاء بهذا اليوم. ماكرون فرنسا هو الآخر يحرص على استقبال سكان أصليين في هذا اليوم تعبيرا عن اهتمامه بالشعوب الأصلية. أما مساهمات السياسيين في المانيا لدعم قضايا السكان الأصليين فحدث ولا حرج. يستطيع الواحد أن يحدد حجم النفاق لديهم الآن في الحرب الأمريكية على السكان الأصليين في غزة.
(19)
هذه الحرب هي أصلا حرب مؤجلة على محور المقاومة. كانت ستقع عاجلا أو آجلا. هي في الوقت صراع محاور مؤهلة للتوسّع. الاستعمار الغربي هنا لا يدافع عن دولة الاحتلال فحسب؛ بل أيضا عن الأنظمة التي تحقق مصالحه. الأنظمة العربية على الأغلب سوف ستضطر ان تقف مع المحور الأمريكي فيما لو أصبحت إيران جزءا من المعركة. الحرب يمكن أن تطول، والعامل الرئيسي الذي يحدد نهايتها هو اتفاق تبادل مصالح بين اللاعبين الكبار، وطبعا العرب ليسوا من الكبار.
(20)
إدارة الفيسبوك وخوارزمياته تحاول تخلي المنصة كيوت وعالم محبة وسلام وضحكة ومعلومات خفيفة. مع تقييد محتوى الاستقطاب والصراعات وتأجيج المشاعر وتحفيز الكراهيات. طبعا هذا مفهوم في حالات السلم، لكن في حالة حرب والناس منفعلة بسبب الظلم اللي يلحق المظلومين؛ المحتوى تلقائيا سيتّجه إلى حالة استنفار وهيجان، وخصوصا أن الحرب مهيّئة للتوسّع، طبعا مش بسبب الناس، ولكن بسبب مصالح الدول الكبرى والحكومات اللي تتبع هنا وهناك. لهذا اللي يريد يعبر عن غضبه وتعاطفه فالفيسبوك يبدو المنصة الخاطئة للتعبير عن هذي المشاعر. يروح يشوف له مكان ثاني. هذي ربما خلاصة المشكلة مع مارك.
(21)
انتصارات المقاومة وانجازاتها لا تعلق في الذاكرة الجمعية كما يعلق مشاهد الألم والدمار في الجانب الفلسطيني. يمكن فهم ذلك على اعتبار أن المشاعر تتحرك بسرعة جدا مع أوجاع الناس والظلم الذي يقع عليهم. وخصوصا أنه في حالة فلسطين؛ يمكن بسهول تصوير مشاهد الدمار ونشرها في مقابل تصوير ما يقع على الجانب الآخر يتم انتقاء الصور والفيديوهات بعناية شديدة. المطلوب هو خلق إحباط وقتل الروح المعنوية لدى الناس حتى لا يقاومون الظلم.
(22)
فلسطين بالنسبة لي ليست مجرد قضية إنسانية فحسب، بل قضية دينية أيضا. أي نعم مفهوم الإنسانية أوسع، ولكن يمكن أن يكون فضفاضا ومائعا لدرجة أن الاختلاف سهل في تأويل المع والضد. لهذا يجب أن تكون قضية دينية إسلامية؛ كطبقة إضافية تحول دون التسييل الدولي الممنهج الذي يجتهد منذ سبعين سنة لقتل القضية. لا يمكن أن أقابل العقيدة الصهيونية بفكرة إنسانية عائمة، بل بجدار ديني إسلامي صلب. وحده الدين هنا يمنح هذه القضية مثل هذا الاحتشاد والقوّة، أما العاطفة الإنسانية فما أسرع ما تمضي مع تدفّق الحياة. لا توجد قضية سياسية منذ الحرب العالمية الثانية واضحة كوضوح القضية الفلسطينية. لهذا هي ضمير العالم الحرّ. اكتشاف الموقف الظالم من الموقف العادل أمر في غاية البساطة. آلة الدمار الهائل التي تمارس ضد الفلسطيني منذ سبعين عاما هو بسبب بساطة القضية. الإسرائيلي الصهيوني مضطر لأن يرفع السقف في كل مرة لأنه قضيته دائما مخذولة ومفضوحة.
(23)
التفكير المعياري هو نوع من محاولة اكتشاف القواعد والتعميمات في الحياة. يقابل ذلك التفكير البرّي. بعض الصراعات في العالم يمكن فهمها على هذا الأساس. لأن التفكير المعياري راديكالي بطبعه. بمجرد أن يكتشف المعيار حتى لا يلبث أن يبذل ما يستطيع ليفرضه على التفكير البري الذي يكترث فقط للبساطة والحاجات المعاشية اليومية. الأوروبيون شاطرين في التفكير المعياري، وهو الدافع لحروبهم القديمة والحديثة ضد الشعوب التي ترفض مقاييسهم للحقيقة. هذه زاوية لرؤية الموضوع. والتعقيد والتبسيط عموما ظواهر متلازمة. الراديكالية باعتبار أن التفكير المعياري يحفر في الجذور ليفهم الأشياء، ومن ثم يسعى لتغييرها عبر القوانين والقواعد التي ينتجها. وهو عقل تخصصي منطقي حسابي وأداني. والبساطة في التفكير البري لا تعني السذاجة، فهو ينطلق من رؤى إجمالية للكون والحكمة العملية مباشرة لا تحتاج لمزيد تفصيل وتنقيب. لا توجد مفاضلة هنا، فقط محاولة لفهم الأمزجة المتباينة بين الشعوب. ربما.
(24)
إسرائيل دولة طارئة. جبهة أخيرة من الاستعمار الأوروبي القديم. خطاب نتنياهو الأخير يثبت ذلك. لو تصالحت مع أصحاب الارض الحقيقيين؛ كان يمكن أن تستمر، ولكن سياسيّوها مصرون على ارتكاب نفس الخطأ القاتل بعدم الاعتراف بأصحاب الأرض الحقيقيين. الأرض مع من هو مستعد أن يسقيها بدمه. التاريخ يعلّمنا أن لصوص الأرض لا يستمرون. إما أن يذوبوا في الشعوب التي سرقوها أو يحزموا حقائبهم ويعودوا من حيث أتوا.

Views: 6