أبريل 24, 2024

براكسيس رمادي

حيث الفكرة الحرة تقود التغيير

جياني فاتيمو

محمد العجمي*

عندما يُذكر جاني فاتيمو؛ الفيلسوف والسياسي الإيطالي؛ تذكر معه مباشرة فكرة نهاية الحداثة، ذلك لأن كتابه الذي نشره تحت هذا العنوان “نهاية الحداثة” بالإيطالية في 1985 وترجم إلى الإنجليزية في 1991 يعتبر واحد من أهم كتبه والذي نبه العالم إلى هذا الفيلسوف، وواحد من أهم الإضافات الفلسفية لموضوع ما بعد الحداثة الذي ظل يشغل العقل الأوروبي بعيد وفاة نيتشه بقليل، بل ويعد فاتيمو أبرز قارئ وشارح لفلسفة كل من نيتشه وفكرته عن العدمية المتممة Accomplished Nihilism وفلسفة هايدغر وفكرته عن التعافي Verwindung وهاتان الفكرتان هما اللتان شغلتا فاتيمو فدخل من خلالها إلى فكرة ما بعد الحداثة؛ لا كمرحلة تاريخية تعتمد فكرة التجاوز؛ بل كمشروع استفاقة من إغماءات الحداثة وإعادة بناء لأسس جديدة للحضارة مستفيدا من نقد كل من نيتشه وهايدغر للميتافيزيقيا الغربية.

اهتمام فاتيمو المولود في 1936 بالفلسفة الألمانية جاء مبكرا وذلك عندما حصل على زمالة دراسية لمدة سنتين في هايدلبرغ حيث درس هناك فلسفة هايدغر، ليعود في 1964 ليصبح استاذا مساعدا للجماليات في جامعة تورينو؛ مدينته التي ولد وترعرع فيها، وفي هذه السنة أعلن توقفه عن كونه كاثوليكيا بعد عودته من ألمانيا. وهو وإن كان أصبح مرحِّبا بفكرة موت الإله غير أنه ظل داعيا لاحترام كاثوليكية أكثر تسامحا ومحبة وخصوصا مع حقوق الأقليات والمهاجرين والمثليين، وهذه صفحة أخرى من حياته جاني فاتيمو التي لم يكن يخفيها وهو كونه من أنصار حقوق المثليين، ولعل هذا ما دفع أحد الكتاب الأمريكيين أن يستغرب كيف يمكن لفيلسوف ملحد ومثلي أن ينتخب عضوا في البرلمان الأوروبي الموحد في 1999، ويعاد انتخابه في 2009؛ عائبا على المجتمع الأمريكي المتدين انغلاقه.

في 1978 بدأت تخرج مثليّة فاتيمو إلى وسائل الإعلام بإيطاليا، وذلك على يد منظمة الألوية الحمراء والتي استهدفت جياني فاتيمو بسبب انضمام حزبه اليساري إلى صف الحكومة التي تحارب هذه المنظمة المتطرفة، وفي نفس السنة أدين بعض طلابه في حوادث متصلة بالإرهاب الذي تمارسه الألوية الحمراء، وقد خاطبه أحدهم من السجن برسالة جعلته يقفز قفزة مهمة في اهتماماته الفلسفية باتجاه موضوع ما بعد الحداثة، ففي خضم تلك الأحداث والعنف الضاغط على إيطاليا؛ أدخل فاتيمو مفهوم التفكّر الضعيف الذي لاحظه في التبريرات الميتافيزيقية التي يقدمها المتطرفون؛ ومنهم يساريون من طلابه كانوا يدافعون عن أنفسهم أمامه؛ ومن هذا المفهوم (ضعف التفكر) دخل على تحليل الميتافيزيقيا الغربية كتاريخ متراكم من الضعف في بنى معرفية وقيمية قوية، وليتبنى من خلال ذلك موت الميتافيزيقيا وإعادة بناء القيم الأوروبية، وبشكل عام دخل عالم التنظير لما بعد الحداثة من خلال مفهوم الانعتاق النيتشوي Emancipation من عنف الميتافيزيقيا عبر تأصيل الاختلاف التأويلي الهيدجري للتاريخ؛ بما يؤسس لفلسفة متجددة تمثل عمدة تصوره لنهاية الحداثة.

تطوّر اهتمامات فاتيمو الفلسفية مع الزمن؛ فاتيمو حاليا ومنذ بضعة سنوات مهتم بالشيوعية والدين؛ يعود بشكل أساسي إلى هذه الروح المتوقّدة لديه، والتي تخلصت من دوغمائيتها في وقت مبكر بفضل تأثره بنيتشه وبهيدجر كما يعترف، فأصبحت سيالة منفتحة على المتغيرات. مفهوم الحقيقة لدى فاتيمو لا ينفصل عن الفلسفة التأويلية، فهي لا تعطى دفعة واحدة ومرة واحدة في العمر، بل تتراكم عبر الممارسة التأويلية التي نطل من خلالها على العالم؛ أي من خلال إعادة قراءة وتحليل اللغة التي تمثل مجمل وعينا بالعالم. ومع هكذا مفهوم للحقيقة يكون الإنسان أقدر على التخلص من قبضة الميتافيزقيات الكثيرة من حوله، وهذا هو جوهر تصوره لنهاية الحداثة؛ مزج عدمية نيتشه المتممة بتأويلية هيدجر التي تتجاوز الميتافيزيقيا.

لفهم فلسفة فاتيمو يلزم بالضرورة إدراكا بالسياق التاريخي لأوروبا ما بعد الحرب؛ والصراع بين المعسكرين الشرقي الشيوعي والغربي الرأسمالي، كما يجب فهم التطورات المخيفة التي أحدثتها التكنولوجيا في المجتمعات الأوروبية من حيث تمكينها المجتمع من السيطرة الهائلة على الفرد، والتغيرات غير المسبوقة في القيم الأوروبية والتي تتوجت بمظاهرات الطلاب في 1968 للمطالبة بإصلاح النظام الرأسمالي، وصعود التيارات اليسارية في السبعينات. كل ذلك في ظل نمو غير مسبوق للأصوليات وعودة للدين كلاعب جوهري في رسم السياسات الدولية تجلى بشكل أوضح بعد سقوط جدار برلين وانتهاء حقبة الحرب الباردة، وفي ظل تشكيك حقيقي في قدرة العلم التجريبي على الإجابة على التساؤلات الملحة، وفشل مشروعات الحداثة في اجتثاث الميتافيزيقا القديمة القادمة من القرون الوسطى؛ بل واستبدالها بميتافيزيقا لا تقل سوءا في إبعاد الإنسان عن ذاته.

وكذلك يجب ربط هذا السياق التاريخي بالظروف الاجتماعية والشخصية والضغوطات التي كان يواجهها فاتيمو نتيجة انخراطه في السياسة كيساري غير ثوري وثم كشيوعي ليبرالي، وتعرضه لتهديدات عديدة أبرزها في 1978عندما اضطر لترك مدينته تورينو بسبب تهديدات بالقتل من قبل منظمة الألوية الحمراء التي كانت تحاول إشعال ثورة في إيطاليا. وبسبب يساريته المعتدلة ووقوفه إلى جانب حقوق الشعب الفلسطيني ودعمه لحركة حماس وضغطه في فترة عضويته بالبرلمان الأوروبي لصالح شطب حركة حماس من قائمة الحركات الإرهابية، وتصريحاته ضد إسرائيل والتي جعلته أمام فوهة مدافع معاداة السامية وقوتها الإعلامية الهائلة في أوروبا. كل هذه المواقف السياسية والإنسانية المتشابكة والحياة غير المستقرة لفاتيمو يجب أن تترابط مع رؤاه ومشاريعه المدنية والأكاديمية لفهم فلسفته، وبدون ذلك فإن أي قراءة لفاتيمو ستكون قراءة مرتبكة إلى حد كبير.

عندما يرفض فاتيمو العدمية كقدر ميتافيزيقي ويقبلها كضرورة أخلاقية فإنه يختصر في ذلك خلاصة مواقفه تجاه مشاكل أوروبا التي تحاول التخلص من متناقضاتها. هو يرى أن العدمية لا يجب أن تكون مصيرا؛ بل يجب أن تكون خيارا للتخلص من قبضة التاريخ الذي يجب التوقف عنده وإعادة فهم معنى الإنسان؛ هل هو تاريخ أم لغة أم في مكان ما بينها؟ نيتشه يريد أن يخلص الإنسان من تاريخيته بأن يدعوه لأن يكون عدميا للحظة، ومن ثم يعيد بناء قيمه. ولكن نيتشه حسب فاتيمو لم يوضح أو لم يركز على كيف يعيد الإنسان بناء قيمه جديد، ومن هنا تدخل تأويلية هيدجر لتكون الأداة التي تجعل الإنسان قادرا على إعادة ترميم الحقيقة التي كانت تقتله عشرات المرات. الحقيقة لا كتاريخ؛ بل كلغة.

يمكن مقاربة فكرة فاتيمو هنا عبر فلم المخرج الأمريكي فريد زينمان “رجل لكل الفصول” الذي أخرجه في 1966 حول توماس مور الذي كان قاضي القضاة عند هنري الثامن، ولكن بسبب إيمانه التام بمبادئه فإنه يضطر أن يتنازل عن كل المجد الذي حصل عليه بل ويقبل أن يحكم عليه بالإعدام بالسيف؛ فقط لأنه رفض الإعتراف بزواج الملك من آن بولين بدون الرجوع إلى الكنيسة الكاثوليكية بروما. لم يستطع توماس مور؛ رغم كل محاولاته؛ أن ينقذ نفسه من الموت بدون أن يحتاج أن يضحي بمبادئه التي هي جوهر إنسانيته. توماس مور رفض أن يكون كائنا تاريخيا، فتمرد على كل الدعوات من زوجته وابنته والمخلصين له بأن يعطي الملك ما يريد، واختار مصيره بنفسه ليكون هو توماس مور لا شخصا آخر مستلبا لجهة ما، فنجح بذلك أن يحول عدمية الواقع الذي يسير نحو اللامعنى؛ ويجعلها عدمية لغوية مؤقتة داخل الوعي الذي يسعى إلى إعادة توليد نفسه من جديد في ظل حقيقة جديدة تحقق للإنسان السلام الذي يحتاج إليه.

فكرة ما بعد الحداثة يمكن اختصارها في تلك اللحظة التي وقف توماس مور أمام المحكمة التي ستصدر حكما بإعدامه ليعترف بما يجيش في صدره من عدم مشروعية زواج الملك، وأن كل هذه المحاكمة هي من الحداثة الموهومة التي يجب الانقضاض عليها. فكرة ما بعد الحداثة عند جياني فاتيمو هي فكرة التعافي من الحداثة. وبرغم كل الجنون الذي يمكن أن تسقطه الحداثة على من يريد أن يتخلص من سلطانها؛ فإن هذا يظل هو الخيار الأفضل، تماما كجنون نيتشه الانعتاقي والذي عاشه في سنواته الأخيرة وهو في نفس مدينة فاتيمو؛ تورينو. وربما هذه مصادفة تستحق الإشارة. تماما كما تستحق الإشارة إلى تلك الحداثة الوهمية التي أحاطت مؤتمر القيم الإنسانية المشتركة الثامن والعشرين والذي نظمته وزارة الأوقاف بالسلطنة بالتعاون مع الجامعة اللاتينية في نوفمبر الماضي 2014. فحجم الفخامة والسرية وبروتوكولات الضيافة التي صاحبت المؤتمر أفرغته تماما من أهميته كما يذكر الكاتب علي الرواحي الذي عبر عن امتعاضه من تلك الإجراءات في تغطيته التي نشرتها مجلة شرق غرب في عددها الرابع، وقد وصف الرواحي معاناة الوصول واللقاء بجياني فاتيمو نفسه الذي حل ضيفا على السلطنة في ذلك المؤتمر بدون أن يسمع الناس عنه حسيسا رغم وزنه وثقله كفيلسوف من الطراز العالمي.

*نشر في مجلة شرق غرب في يوليو 2015

Visits: 1