أبريل 18, 2024

براكسيس رمادي

حيث الفكرة الحرة تقود التغيير

الوطن.. من الميتافيزقيا إلى العقلانية

محمد العجمي *

في كلمة الوطن ميتافيزيقيا كامنة تتجلى في صور كثيرة يمكن أن نلاحظها في حجم التباين الشديد في التطبيقات العملية وفي التوحد العجيب على المستوى النظري. تعني كلمة ميتافيزيقيا؛ من بين ما تحمله من معانٍ كثيرة؛ أن كلمة الوطن تحتوي مع ما تحتويه من مكونات؛ الوعي. أي أن الوطن له وعي، ويمكن ملاحظة أن هذا الوعي يتجلى في تلك الفعاليات والممارسات التي تحرك الناس ليعبروا عن حبهم للوطن، وفي الوقت نفسه لتلك المشاريع المتضاربة على النهوض بالوطن. ولكن الحقيقة التي يجب أن نشعر بها ونخلقها بأنفسنا في هذا المقام هو أن الإنسان هو الوطن، وأن هذه الميتافيزيقيا هي خاصة الإنسان التي يوزعها على كل ما لا يستطيع أن يلمسه بيده أو يضمه تحت جناحه بإحدى الحواس. وبالتالي فالوعي هو وعي الإنسان. عندما تنزل مسيرة ولاء وعرفان للوطن، أو وقفة سلمية للمطالبة بإجراءات معينة في الوطن؛ ففي الحالتين هناك محرك نابع من أعماق المجهول في الإنسان يدفعه للتفاعل مع هذا المجرد اللغوي الذي يُسمى وطن. وبما أن الحديث عن مجهول وعن وعي وعن ميتافيزيقيا؛ فلا مفر من تأويل الممارسة والسباحة مع رمزيتها وعناصرها وظروفها وشعاراتها؛ تأويلا يجعل نفس فعل التفاعل مع الممارسة هو ممارسة أخرى داخل المجتمع.

كما لو أننا نريد أن نقول إن الوطن ليس بالحدود والجغرافيا، وليس بالنظام والقوانين، وليس بالبناء والمؤسسات؛ بل بمشاعر البشر المتفاعلين معه، وحركة التأويل للرمزيات الناتجة من هذا التفاعل هي تعبير عن قوة الحضور والمقاربة والاندماج مع الوطن. وأي عقلانية لاحقة أو عمليات تنظيم وتصنيف ومنطَقة للحياة في ظل الوطن ستكون مبنية على أساس متين من المفردات والرموز والتأويلات التي ستمثل التربة التي تنبت منها العقلانية. عندما نقرأ مقالا يتناول نقدا تحليليا ومنطقيا لإحدى السياسات المتبعة في الوطن؛ فنحن سنقرأه بروح متشبعة أو تكاد بميتافيزيقيا الوطن، أي بالتأويلات الكثيرة والمترابطة لمفردة وطن. وهذا سيجعل فعل القراءة ينطوي على مسارين في التفاعل مع التحليل العقلاني في المقال: مسار نندمج فيه مع البنية المنطقية للمقال، ومسار نستحضر العلاقة بين المقال وبين ميتافيزيقيا الوطن. ومن المسارين تولد قراءة أكثر فعالية ونضجا؛ تتجاوز حدود الكلمة لتمسك بالهم الذي أنتج الكلمة. بالمثل عندما نشاهد مسيرة ولاء وعرفان وتأييد؛ فهناك طبقة ظاهرة أمامنا نستطيع أن نحللها عقلا ومنطقا، ونقرأ شعاراتها وطقوسها المصاحبة، ونبدي ردة فعل ما على الممارسة، وكذلك هناك طبقة تحتية غائرة في الروح الإنسانية التي ابتكرت في يوم من الأيام مفهوم “الوطن” وأخذت تغرسه في الأجيال عبر الزمن.

تتطلب عملية الإسقاط التي يمارسها الإنسان وهو يجعل المجردات واعية؛ انفتاحا على هذه المجردات. انفتاحا يؤدي إلى تبادل التأثر والتأثير في كل لحظة من لحظات هذا التفاعل، وأي انقطاع لأسباب معينة سيدفع بالضرورة إلى سلب الوعي عن المجرد؛ ما يجعله كائنا جامدا متشيّئا يمكن بسهولة تسليعه والمقايضة به وتبادله كبضاعة في سوق التفاعلات الاجتماعية. لنتخيل هنا شخصا يتخلى عن قطعة أثرية نفيسة لديه ورثها من أبيه؛ فهي أكثر من مجرد شيء يباع ويشترى، ولكن مجرد أن تدخل هذه القطعة إلى السوق فإنها تفقد ذلك الوعي الذي كان يسقطه صاحبها عليها. يتجسد هذا الانفتاح الذي يركز عليه هذا المقال؛ في التعاطي والحوار مع المفهوم، وتقديم التضحيات له واستمداد القوة والمعنى منه. وفي حالة الوطن فإن هذه العلاقة التي يُسقط الإنسان خلالها ذاته ووعيه على المفهوم، ويتفاعل معه بأكثر من شكل؛ كأن يُشيِّد عليه مسكنه ويحرث أرضه ويصطاد من بحره ويصطاف في سهوله ويرتاد أمكنته ويشاهد قبور آبائه وأجداده ويداعب عليه أطفاله؛ كل هذه الأشكال لعلاقة الإنسان بالوطن تجعل هذا الوطن أكثر من مجرد أرض وسماء، بل يصبح كائنا حيا يتبادل الخطاب مع الإنسان. ولا يمكن فهم مثل هذه العلاقة إلا بصورتها الميتافيزيقية النابعة من عمق المجهول الذي ينزع الإنسانُ منه هذا الوعي الغامض.

يحدث الانقطاع عندما لا يعود الإنسان قادرا على مخاطبة هذا المجرد، ولا الإضافة إليه أو الاستمداد منه. يحدث ذلك في ظروف معينة يكون فيها هذا الإنسان قد استَنزف وعيه وروحه في قضايا ومفاهيم ومجردات أخرى. إنه لا يعود قادرا على الاستمرار في صنع الأحداث التي يترجم بها وعيه تجاه الوطن. في ظروف معينة مثل وجود تهديدات مزعجة أو وقوع صدمات نفسية أو مرور بتجارب قاسية ومنعطفات فارقة؛ في هكذا تغيرات يقلّ التفات الإنسان إلى المجرد السابق، وهكذا يتشيّء هذا المجرد ويتصنّم تحت ضغط حاجة الإنسان الماسة إلى اختصار الزمن الطويل الذي كان متاحا في مخاطبة هذا المفهوم ومحاورته، وأحيانا تحت ضغط اليأس من الحصول على أجوبة أو من اكتشاف أو تحقيق غاية تعزز التضحية والبذل والاستمرار. وما أن يحدث الانقطاع حتى يظن الإنسان أنه اكتشف كم كان غارقا في أوهام زائفة، وأن هذه الميتافيزيقيا هي معروفة لديه تمام المعرفة وليست غامضة مطلقا، وأن هذا الوطن ما هو سوى مجموعة من المكونات المادية التي يمكن التعامل معها بمنطق الربح والخسارة، فيمكن شراؤها وبيعها شأنها شأن أية سلعة أو بضاعة. وهكذا يصبح الإنسان حدي المزاج وقطعيا في تفاعله مع الممارسات التي ترفع اسم الوطن رفضا أو تأييدا.

يترتب على ذلك أن العقلانية التي تدفع للبناء بالوطن ستكون منبتّة من أية جذور لها تجعلها مرنة بما يكفي لاحتواء الاختلافات التي تنجم من تضارب الآراء واختلاف المشارب. تسهم ميتافيزيقيا الوطن في توفير تلك المرونة التي تتشكل في صورة إحتمالات وتأويلات مفتوحة للممارسات العقلانية داخل الوطن، فلا يضيق مفهوم الوطن الممتلئ من وعي الإنسان عن استيعاب كافة المشاريع التي تعمل باسمه ولأجله، على العكس من ذلك المفهوم الجامد والحاد؛ الذي يختزل كل ذلك الزمن الطويل الذي ظهر وتطور فيه مفهوم هذا الوطن؛ في لحظة تاريخية مكثفة جدا، قد تكون لحظة ولادة حزب أو تدشين مشروع أو تشكيل حكومة أو فعالية فئوية خاصة. في تلك اللحظة تصبح كل مدلولات الوطن مادية، وأول ما يتحرك الشعور؛ يتحرك للتأكد من أن الكعكة التي تُقسَّم أو المزرعة التي تحصد سينال منها الجميع بالسواسية أو تقترب. وهكذا تختفي تلك الروح التي تجعل الوطن كبيرا متسعا. ليس مجموع الأجزاء فحسب؛ إذ يشتمل أيضا على ذلك النظام الخفي الضمني الذي يؤلف بين هذه الأجزاء.

إن ممارسة فعالية التأويل في جوهرها هي اعتراف بدور الآخر في تشكّل الوعي، ولما كانت ميتافيزيقيا الوطن معادِلة لكون هذا الوطن يحمل وعيا قادما من الإنسان؛ فإن هذا الوعي المشترك الذي ينصب في الوطن يتطلب انفتاحا ومرونة من قبل البشر الذين لا بد وأن يختلفوا، وممارسة التأويل هنا هي الوسيلة والتقنية التي تحقق هذا الانفتاح والمرونة المطلوبة. فلو دُشِّن على ظهر الوطن مشروع ما ثم فشل أو لم يحقق النجاح المأمول، فسوف تشكل هذه الميتافيزيقيا الأرضية الأمثل لأية تداولات ومناقشات ستترتب على عدم نجاح هذا المشروع. بمعنى آخر، إن العقلانية الظاهرة في السطح لن تقود الوطن إلى الخراب في ظل تلك الميتافيزيقيا الكامنة فيه. فعل التأويل هو فعل ثقافي بالدرجة الأولى وله تقنيات وأساليب كثيرة، قد تكون جزءا من دراما تلفزيونية أو عمل مسرحي أو سينمائي أو قصيدة شعرية أو رواية أو نص تاريخي أو رقصة شعبية. والسؤال المهم بعد كل ذلك: هل يمكن الفصل بين فعالية تراثية ثقافية وبين اعتصام حقوقي للمطالبة بحقوق عمال أو لإطلاق سراح معتقل رأي؟ في ظل ميتافيزيقيا الوطن لا يوجد فصل مطلقا، ووحده المفهوم المتصخّر والمتصلّب للوطن هو الذي يجعل هاتين الفعاليتين على طرفي نقيض.

*نشر المقال بموقع مجلة مواطن في إبريل 2015

Visits: 0