أبريل 20, 2024

براكسيس رمادي

حيث الفكرة الحرة تقود التغيير

من نقض المعتقد الديني إلى بناء الرؤية الكونية

*محمد العجمي

في ذكرى ولادة المهدي المنتظر التي تصادف منتصف شعبان من كل عام وفق التقليد الشيعي؛ من العام 1424 هجرية؛ أي قبل عشر سنوات. في تلك الذكرى أقيمت احتفالية دينية بأحد المآتم بولاية السويق شاركت فيها بقصيدة عبرت فيها عن احتفائي بتلك المناسبة في ظل تفاعل وإعجاب من الجمهور بالقصيدة. في ذلك الوقت كنت بالكاد قد بدأت رحلة البحث وراء المهدي، والتي توجتها لاحقا برؤية أقرب إلى الروح، ثم ما لبثت أن نسفت كل شيء بعد أن عانيت زمنا من تزاحم الأسئلة التي لا أجوبة لها، وقد تعلمت أن الأسئلة التي تبقى بلا أجوبة تحمل إجابتها فيها. يقال في أدبيات الوعظ الديني أنه لا بأس في الشك، بل هو محمود بشرط ألا يستمر وأن ينتهي إلى اليقين. وما أراه اليوم أن الشك الذي يقصدونه يختلف عن الشك الذي عشته، فهم يقصدون الشك الديني المرحلي الذي يجب أن ينتهي ويحل محله الإيمان اليقيني قبل أن يتحول إلى حالة مرَضية، وأنا أقصد الشك العلمي الذي تحدث عنه ديكارت والذي لا يمكن التنبؤ بنتائجه، وأي نتيجة يؤدي إليها هي خير لصاحبها كونها جاءت بعد رحلة معرفية متأنية.

يحرص البعض أن يعرف ما هي معتقداتك الآن، ويتمنى لو تفصح عن كل ما تعتقده في الحياة والدين، فالفضول يكاد يخطفه ليعرف إيمانك. يتجلى ذلك في صورة أسئلة تأتيك من هنا وهناك عن رأيك في المعتقد الفلاني أو العلاني، وفي أحيان كثيرة تأتي الأسئلة في صورة عيون تنتظر منك الاعتراف لإدانتك ومن ثم تبث رسائلها السلبية عنك. ليس من السهل على الإنسان أن يكتم شكّه، وليس من السهل على بعض من حوله أن يستريبوا بخصوصه، إذ لا بد في النهاية من حشرك في زاوية معينة من الوجود ومن ثم الإشارة إليك؛ هذا فلان وهذا ما يعتقده فتجنبوه لأنه فيروس أو سرطان. وهنا من المفيد أن تتقن الصمت، فذلك الفضول من الأفضل أن يستمر عند تلك القلوب التي لا تضمر لك الخير.

اليوم بت أكثر وعيا فيما يتعلق بأي معتقد ديني. من حق الناس أن تؤمن بالمهدي كمخلص موعود ينتظره البعض فيما يعرف بأدبياتهم بآخر الزمان. معتقدهم هذا لا يضيرني شيء. هم يحتاجون لهذا الإيمان، فلماذا يجب أن أحرمهم منه لمجرد أني ما عدت أتبناه؟ ومن حقهم أيضا أن يدافعوا عن معتقدهم في وجه من ينتقص منه ما دام هذا الدفاع من جنس النقد الموجه، أي الكلمة بالكلمة والفكرة بالفكرة. ليس بالضروري أن يتركوا معتقدهم ليكون صالحين تماما مثلما ليس بالضرورة أن أكون طالحا بمجرد تركي لمعتقدهم. فالصلاح ليس له صلة بالمعتقد مطلقا، بل يتصل بالروح الإنسانية التي تجعل صاحبها فردا صالحا نافعا لنفسه وأسرته ومجتمعه ووطنه، وما المعتقد إلا مّذكّر بذلك، فليبقى كل إنسان على عقيدته ولا يحتاج أن يغيرها ما دامت لا تمنعه من أن يكون خيّرا محبا للآخرين، وإن كان ثمة حاجة لتهذيب فسيتجه إلى العنف الذي قد يترتب على المعتقد.

إن الحاجة للبناء في الحياة أهم من الحاجة أن نهدم ما يبنيه آخرون. أستطيع أن أقول في عقيدة المهدي ما أشاء؛ فكرة؛ ذاكرة شعبية؛ أسطورة؛ كذبة؛ أي تعبير أشاء، ولكن أي من هذه التعبيرات تستبطن وراءها إرادة معينة لتغيير الواقع، فهل هذه الإرادة نابعة من هوس داخلي بالرفض والعناد وإثبات الحضور وردّ الاعتبار؟ أم أنها إرادة نابعة من عمق إنساني في جعل الحياة أفضل للحاضر والمستقبل؟ في الحالتين سيختلف الأسلوب، فنقل الواقع إلى الأفضل إذا كان لا يتأتى إلا بالهدم والتكسير فهذا يعني أن المستقبل غامض جدا للدرجة التي يكون الخوف قرين هذا الحاضر. الخوف مما يبنيه الآخر هو ما يحرك هذا العنف الذي يتم ترجمته على شكل قصف حاد على المعتقد الديني، وهذا الخوف لن يسمح بولادة إرادة حرة تنطلق من جذورها الوجودية الراسخة بأن الحياة أهم من الموت والسلام أفضل من الحرب والحب أجمل من الكراهية. من هنا فلا أجد في تلك التعبيرات إلا إسقاطات النفس الخائفة المرتكسة في أنانيتها. أتحدث هنا عن أجواء يومية مُعاشة وتفاعلات مستمرة واحتكاك متواصل بين الناس والأفكار، وليس عن بيئة علمية أكاديمية لها شروطها ومناهجها التي تتناول المعتقدات بطريقة علمية منهجية صرفة هدفها خدمة العلم والمعرفة.

والسؤال الذي ينطرح هنا: من يتحمل مسؤولية التغيير إذا كان المعتقد خاطئا ويزيّف الوعي؟ ومن يتحمل مسؤولية التكفير المتبادل بسبب المعتقدات؟ والجواب يكمن في البناء. بناءٌ بجوار بناء. والبناء الأصلب والأكثر جاذبية هو من سيستقطب الأفئدة. بعض الناس سيتخلون عن معتقدهم بأنفسهم عندما يكتشفون عدم جدواه وعدم تحقيقه لطموحاتهم وما يصبون إليه. آخرون سيحافظون عليه. كل ذلك وهم يشاهدون نتائج الأفكار بل ويجربونها عمليا، حيث يكون الخوف القديم في أدنى مستوياته. فكرة المؤامرة لن تجد ما يغذيها، وستكون محدودة التأثير في صناعة العنف المتبادل. كذلك مفهوم النخبة لن يكون هو ما يصنع الحدث ولن تكون حاضرة بتلك القوة، وهذا ما يستدعي أن تتضاءل الشخوصات أمام الأفكار؛ ما يجعل أرضية الحوار والتدافع أقل سلبية. فالجمهور هو بطل المشهد، فهو الذي يتحرك وهو الذي يتحمل مسؤولية التغيير، لأنه يصنع تجربته بنفسه ويبني وعيه منطلقا من مسؤولية الأسئلة التي يطرحها عليه الواقع الحي الذي يشهد تدافع أفكار متواصل.

يبقى أن أشير أنه ليس من السهل أن تبني تجربتك الخاصة وتدعو الآخرين لزيارتك، إذ أن دائما هناك أناس مشغولة بالهدم؛ بالتشويه والتحريف والترهيب النفسي، وخصوصا عندما يكثر زبائنك ومريدوك. فالخطورة التي تشكلها ستدفع بالمنافسين لأن يعلنوا حربا غير نزيهة ضدك، وهنا سيكون أمامك إما أن تستجيب للاستفزاز وتتخلى عن رسالتك لتخوض صراعات جانبية تستهلك الوقت والجهد والمشاعر، أو أن تؤجل انتصارك قليلا وتنسحب من المواجهة وتركز على الفن الذي تتقنه والمعرفة التي تبنيها والوعي الذي تصنعه، مانحا خصمك لذة الانتصار التي يسعى إليها ليتركك. فيما ستستمر أنت بأداء رسالتك بأقل خسائر ممكنة. هذا بالتحديد ما أراه أنجع وأسلم، وإن كانت ثمة حاجة لتضحية فستكون لصالح المعرفة التي يجب أن تتراكم وتتراكم لتصنع الرؤية المتكاملة والتي تمكننا من رؤية الواقع من أكثر من زاوية وبعين فاحصة أبعد نظرا وأدق في التقاط الصور والمشاهد.

لهذا من الأفضل أن تكون هناك دائما مسافة بيني وبين المعتقد الذي أرفضه، مساحة من الحياد الإيجابي الذي يتحول إلى مشروع فكري موازي يمكن أن يستقطب العقول لتفكر فيه. تفكر في الأسئلة التي يطرحها، وفي هذا الشأن أسئلة مهمة يمكن ان تنطرح لتحرك الماء الراكد حول معتقد المهدي. أسئلة من قبيل: ما معنى أن يتم تأجيل كل المشاكل والمظالم إلى لحظة في آخر الزمان ليظهر القاضي الذي يحلها ويقضي بينها؟ وما أهمية أن تكون هناك لحظة يتوقف فيها الزمان عن العد ويبدأ في استرجاع أرشفة الماضي؟ وما الذي يمكن إصلاحه بعد كل هذي القرون من الزمان؟ وهل أهمية المصلح في أن تتحول الكرة الأرضية كلها إلى دين واحد؟ وأين نضع كل ما حققه الإنسان على وجه الأرض طيلة القرون الماضية؟ وهل الأرض بحاجة إلى سوبرمان خارق ينقذها من الظلم والجور أم إلى وعي عالمي مشترك بإيجاد آليات لحماية الحقوق والحريات وتبادل المصالح والتأثير؟ أليس هناك فعلا أنظمة وقوانين تُطبق على الصعيد العالمي وتؤتي ثمارا جيدة في إنهاء النزاعات ورفع الظلم عن الشعوب والأقليات؟ ماذا سيضيف هذا المخلص الموعود؟ أليس من السلبية أن نظن أن هناك من سيُعطى قدرات خارقة وسيُؤيد بالمعجزات ليحل مشاكل الإنسان على الأرض؟ ألا يمكن اقتراح مشروع أفضل من ذلك لتحقيق العدالة على الأرض؟ ثم هل التاريخ يسعفنا لبناء تصور متكامل عن المشروع الإصلاحي لهذا الموعود؟ وإذا كان هذا المشروع في علم الغيب فما حاجتنا إليه؟ لماذا يجب أن نحوّله إلى معتقد ينقسم الناس في ظله إلى صالح وطالح وإلى مؤمن وكافر؟

وختاما أحب أن أعترف بأن المعتقد؛ أي معتقد؛ الذي يصطدم بالوعي الكوني، ليس جديرا بالبقاء؛ بل يجب تجاوزه. والبديل ليس بالضرورة هو النقيض، بل إن المعرفة المتراكمة حول مختلف مشاكل وقضايا الإنسان والتي يجتهد في حلها هي ما يحتاج أن يهتم بها ويتبناها ويفكر فيها لأنها هي التي ستجعل الحياة أفضل وليس المعتقد المنفصل عن الوعي الإنساني الكوني، وهذا ما يجعل صاحب الإرادة الحرة يتحرك منطلقا من جذوره الوجودية من نقض المعتقد الديني إلى بناء الرؤية الكونية، فهو لا يرفض المعتقد لأنه معتقد؛ بل يبحث عما هو أبعد منه وأصلح للحياة.


*نشر في أحد المواقع في وقت ما من 2013

Visits: 2

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *