أبريل 20, 2024

براكسيس رمادي

حيث الفكرة الحرة تقود التغيير

كيف سيغيرنا كورونا؟

*محمد العجمي

أشياء كثيرة مرّت في السابق على المجتمعات البشرية عمّقت فكرة أن “العالم قرية صغيرة”. جميعها تقريبا مما يمكن تلمّسه أو التعامل معه. من قبيل الاحتباس الحراري والتغير المناخي وثقب الأوزون والكوارث البيئية. وإلى حد ما فيروس الإيدز والأمراض الموسمية التي تظهر من فترة لأخرى وتستدعي تضامنا دوليا. أحداث أخرى من قبيل استكشافات الفضاء أو انقاذ عمّال منجم منهار أو البحث عن طائرة مفقودة، أو طلاب محتجزين في كهف عميق؛ وغيرها من قضايا أخبارية تشغل العالم أجمع، وتكشف في نفس الوقت عن تضامن النوع البشري أمام عدو أو تهديد معلوم يمكن تحديده والتعامل معه. مع فيروس كورونا الذي بات يهدّد كامل البشرية؛ نحن أمام عدو مجهول لا نعرف بعد كيف نتعامل معه. فإذا أضفنا ما غيّرته ثورة الاتصالات في العشرين سنة الأخيرة؛ فسنكتشف أننا أمام حدثين يتفاعلان ربما للمرة الأولى في تاريخ الانسان: تهديد يطال كامل البشرية؛ في ظل وسائل اتصال تجعل كمّا هائلا من تفاصيل هذا التهديد في متناول اليد لدى معظم سكان الكوكب، وبالصوت والصورة، بل وبشكل مباشر في كثير من الأحيان؛ كل ذلك في تفاعل حي مع الاجراءات الاحترازية التي هي تعبير وشكل للمعركة التي بدأنا نخوضها لمواجهة هذا الفيروس القاتل. لا أظن هذا تكرر في الماضي. ولكن ماذا يعني ذلك؟

أمام العدو المعلوم أستطيع أن أرسم أفقا معينا لحجم التفاعل المطلوب مني كفرد تجاه الجماعة، وأقيس هذا التفاعل على حجم العائد الذي سأناله من تعاطفي وتضامني معهم، ولكن مع العدو المجهول هذا غير وارد تقريبا. فما دمتُ لا أعرف إلى أي مدى الوضع خطير، وبالتالي هناك عدد كبير جدا من الاحتمالات، فإن أكثر ردود الأفعال ستكون مرتكزة على الفردية؛ عناية وحماية الفرد لنفسه قبل كل شيء. عندما نضيف إلى ذلك أننا نميل إلى إسناد ما هو مجهول إلى ما هو معلوم؛ بحيث نقلل من ضغط ما نجهله علينا، كأن نعبر عن الفيروس بأنه من جند الله، أو جزء من مؤامرة كونية أو حرب بيولوجية؛ فنحن سنكون أمام اضطراب وتشتت عاطفي حقيقي. يزداد هذا الاضطراب في ظل تلقّي الأخبار الكارثية والمزيد من اجراءات تقييد الحركة بشكل لحظي أو دوري. سأسأل نفسي: ماذا سأفعل؟ أو سأفكّر أنني لست سوى فرد من مجموع هائل يضم كل البشر، أو سأردد في نفسي: لا بدّ أن أحدهم يعمل الآن لاكتشاف العلاج، أو ربما سأظنّ أنه يجب أن أحتاط لنفسي حاليا بأقلّ تقدير، أو أنني لا أستطيع أن أقدّم شيئا ذو قيمة للجماعة. وبالتالي لا تتطور مسؤولية أخلاقية واضحة في ظلّ هكذا تشتت ذهني ونفسي، ما يدفع دفعا للارتماء في حضن وعي أكبر أو عقل أشمل؛ وهو هنا وعي أو عقل الدولة أو المنظمات الدولية، بحيث أعفي نفسي من اتّخاذ موقف سلوكي فاعل، لصالح الانتظار السلبي لإرشادات وتوجيهات الحكومة أو الجماعة البشرية ككل.

إذن نحن أمام فردية تتكسّر بسبب الضعف والخوف من المجهول، ولكنّه تكسّر لا يخدم الجماعة. بمعنى أنه ليس تفضيلا لقيم الجماعة على قيم الفرد. بل لا يعدو أن يكون تكتيكا لحظيا حتى تجاوز مرحلة الخطر. السؤال التالي هنا: هل سنخرج من التجربة كما دخلناها؛ بدون تغيّر أو تغيير يذكر؟ أظن الأمر يعتمد على حجم الصدمة التي ستقع. الشعوب الأكثر شعورا بالصدمة هي التي ستتعلم أكثر من هذا الوضع الاستثنائي. هنا ثلاثة عوامل يمكن ذكرها لمعرفة كيف سيغيّرنا كورونا:

أولا: إلى أي مدى نجحت الدولة في انقاذنا؟ هذا يعني مزيدا من الثقة في الدولة، وبالتالي كيفما تبرمجنا فنحن نستجيب بأقل مقاومة. الدولة حاليا؛ أي دولة؛ تعتمد في تثبيت قوّتها على تعميق وتغذية فردانية الأفراد، وبالتالي الاشتغال بأنفسهم عن الاهتمام بالشأن العام، والتركيز على إذكاء المفهوم الاستهلاكي للخصوصية، والعناية بالشأن العام ستكون من بوابة الفرد المستقل الذي يشعر بوجود قيمة ذاتية منفصلة. يعني أننا سنرتكس في مزيد من الفقاعات الفردية. في حالة فشلت الدولة، وكانت النتائج كارثية؛ ستتبدّد تلك الفردية التي غذّتها الدولة الرأسمالية، وسيكون هناك فاقد كبير في الشعور بالفردية كقيمة مستقلة. وبالتالي سنلجأ إلى تطوير أشكال أخرى للعمل الجماعي؛ أكثر تذويبا للأفراد، داخل النسيج الذي سيحتضن ما تبقى من يأس وخوف وحزن. سنزجّ لاحقا بهذه الاشكال داخل جسد الدولة لنصلحها، ولنضمن بذلك عقلانية أعلى للدولة. مثلا: الدولة الحارسة للقيم بدلا من الدولة الحارسة لخصوصيّة الأفراد.

ثانيا: إلى أي مدى استفدنا من جماعات ما وراء الحدود؟ بماذا ساعدتنا أو ضرّتنا الشعوب الأخرى؟ هل شكّلت هذه الحدود حواجز دون انتشار الفيروس أو دون انتشار طرق مقاومته وإيقافه؟ هذا سيغيّر مفهومنا عن الحدود؛ ما الذي ينتمي إليّ/إلينا أو لا ينتمي؟ كيف تميّزنا فعلا عن غيرنا؟ بطبيعة الحال وأمام العدو المجهول؛ الخوف يشتبك بطريقة حادّة مع اللامبالاة. بحيث يكاد يكون التقلّب بين مزاج الخوف ومزاج اللامبالاة تقلّبا حادّا؛ لا تتبيّن معه حالة وسطية تسمح بولادة صورة متميّزة للذات عن الآخرين. وبالتالي نكون أكثر استعدادا لإعادة صياغة مفهوم الحدود هنا. فالفيروس القاتل عبر حدودنا النفسية بكل يسر وسهولة؛ ليفتح معركته معنا في قعر دارنا. وبما أنه جاءنا من وراء الحدود؛ فيظلّ بالنا مشغول بالترياق الذي سيأتي أيضا من وراء الحدود. لو افترضنا هنا أن لنا حظوة خاصة عند إله يعتني بنا نحن على وجه الخصوص؛ في وجه أعداء يتربصّون بنا؛ هذه الحظوة ستتعرّض لضربة قوية. نحن نستلم معظم أدويتنا من وراء الحدود. ليست الأدوية فحسب. نحن لا ننتج شيئا مما نستعمله بشكل يومي؛ إلا القليل ربما. وهكذا نحن منذ فترة طويلة. الجديد هذه المرة مع كورونا؛ هو الانكشاف التام عن ضعف حقيقي في قدرتنا على حفظ الحياة بدون الآخرين. إذن من نحن؟ أين هي حدودنا الحقيقية؟ لنتخيّل هنا الوضع الأسوأ؛ أن كل عائلة منا فقدت حبيبا وغاليا عليها أو أكثر.

ثالثا: إلى أي مدى تحمّلنا بأنفسنا المسؤولية والخسائر المترتبة على المعركة مع كورونا؟ لم ينقذنا أحد سوى أنفسنا؛ كأفراد أو كجماعات. ما التضحيّات التي قدمناها في هذه المعركة؟ الذكريات المؤلمة تبقى أعمق أثرا وأطول مدّة في ذاكرة الأفراد والجماعات. طبعا لا أحد يتمنى الأسوأ، ولكن حتى لو لم يقع هذا الأسوأ فسوف لن تمض الحياة بدون تغيّرات فارقة. الكسر الذي وقع أو سيقع في نمط الحياة المعتاد سيكون له أثر مهم على مستوى الثقافة الفردية في العناية والصحّة وبعض العادات اليومية أو الدينية. مثلا؛ نحن في نهاية المطاف اضطررنا لإغلاق الجوامع وإيقاف صلوات الجماعة، والدروس والمواعظ. بات الجميع يصلّي في بيته؟ لماذا لم يكن ذلك من البداية؟ ونحن أيضا توقفنا عن أنشطة المشاركة الجماعية وأوقفنا المدارس والجامعات، والتزمنا البيوت. هذا الكسر في نمط الحياة نحن تحمّلنا نتائجه وأضراره. هنا سيتولّد نوع من المسؤولية الفردية؛ عادة ما تظهر في الأزمات التي يجتهد الانسان في حلّها وتجاوزها، ثم لا يكون هو نفسه قبل الأزمة. كما لو أن الازمة عجنته وعركته ليخرج منها أقوى وأكثر ثقة في نفسه.

هناك نتيجة ربما أودّ أن أخلص إليها، وهي أن كل معركة جماعية مع المجهول؛ تنطوي على عمليّة هندسة لإعادة تعريف الفردية. وكورونا يفعل بنا ذلك. حتى لو خرجنا من ذلك منتصرين بخسائر لا تكاد تذكر؛ سيظلّ لصور من قبيل الحجر الصحي وتعليق الدراسة وإغلاق المساجد والحد من حرية الحركة والتفاعل مع أخبار العالم من حولنا وانتظار بيانات الدولة والبيانات الدولية؛ كل هذه ستترجم في المستقبل إلى أشكال جديدة في التفاعل مع فكرة الجماعة والحدود والخصوصية. هذا إذا لم نضطر إلى تقديم تضحيات أكبر؛ هنا كورونا سيغيّرنا على قدر الصدمة التي ستقع.


*نشر للمرة الأولى في مجلة الفلق الإلكترونية بتاريخ 17 مارس 2020

Visits: 1