أبريل 26, 2024

براكسيس رمادي

حيث الفكرة الحرة تقود التغيير

السينما بصفتها كمقاومة: البحث عن اللحظة الفنية

*محمد العجمي

“يجذبنا الفن فقط بالمقدار الذي يكشفه عن أعمق أسرارنا” –

 جان لوك غودار

لطالما ارتبطت المقاومة في وعيّي بتلك الأسئلة التي تجعلك توقف عجلة الزمان لوهلة وتنظر للوراء. شيء ما مختزن داخل تلك الأسئلة يجعلك تتمنى لو ترى العالم بطريقة مختلفة. كما لو أني كنت أتطلّع لكسر النمط ولكن أتهيّب ذلك في ظل عدم وجود مبرر وحاجة واضحة لذلك. نقطة صغيرة في الداخل لم أجد ما يعبّر عنها أفضل من كلمة “الإمكانية” التي استعملها أرسطو ليقصد بها استعداد الشيء وامتلاكه القدرة على أن يكون في وضع مختلف؛ كالنائم الذي سيستيقظ عند أوّل منبه [1].

أتذكّر هنا بشيء من الضبابية تلك اللحظة التي غادرت فيها قاعة السينما بعد أوّل تجربة لمشاهدة فيلم سينمائي بقاعة سينما حقيقية؛ في سبتمبر من العام (2005). كانت تجربة متأخرة فعلا في عمري الذي كان يقترب وقتها بهدوء من الثلاثين، ولكنها ستظلّ فارقة بالنسبة لي وأنا أحاول أن أبني علاقة جديدة مع ما سمّاه جون ديوي بالـ “الخبرة الجمالية“؛ بما يمنحه ديوي للجمال من معنى أوسع من مجرد لحظة سيكولوجية معينة أو يختص بنزعة أرستقراطية تحاول تضييق الخناق على الفن، فجون ديوي بحسب تعبير د. زكريا إبراهيم: “يريد أن يوسّع مفهوم «الخبرة الجمالية» لكي يجعل منه ظاهرة بشرية عامة تطاول شتى خبراتنا اليومية العادية” [2].

لم يكن الفيلم نفسه ما دفعني في تلك اللحظة لإعادة بناء علاقتي مع الفنون بشكل عام؛ فالفيلم الذي أخرجه ويس كرافن في (2005) بعنوان “عين حمراء”؛ يندرج ضمن ثيمة الرعب التي دأب المخرج على الاشتغال بها في أعماله، وهو فيلم هوليودي بامتياز؛ جاء على إثر حادثة دشّنت عصرا جديدا في الغرب عموما ولدى المجتمع الأمريكي بشكل خاص؛ وهي هجمات 11 سبتمبر. ما أريد الالتفات إليه في هذا المقال هو تلك المقاومة فيما تحاول اكتشاف الإمكانيات الداخلية الكثيرة التي تحاول أن تتشخّص أمامك، وبالتالي تعطيك معنى جديدا وصورة مختلفة عن الذات.

بالتأكيد لا يوجد شكل واحد للمقاومة؛ فهي تتعدد بتعدد موضوعاتها، وإذا كان هَوَرد كيجل يصرّ على رفض أي محاولة لتعريف شيء اسمه المقاومة الخالصة؛ فإنه يعدد ما لا يقل عن ثمانية أشكال للمقاومة في كتابه “في المقاومة: فلسفة للمواجهة”؛ يمكن تصنيفها جميعاً في مجموعتين وفق الاتجاه الذي يتراءى في لحظة تعريف المقاومة: الخارج الذي يجب مواجهته (النضال، المواجهة، الرفض، التمرّد، …)، والداخل الذي يجب أن يُعرف ويكون مستقلا (الأنانية، الاستقلال، الفردانية، حرية التعبير، …). وإذا ما كان كيجل يعترف بالمفارقة الكامنة في مفهوم المقاومة، وبالتالي استحالة فصل موضوع المقاومة (سلطة، عرف، قانون، …) عن الذات المقاومة (فرد، مواطن، جماعة، …) فهو يسعى جاهدا لبناء مفهوم “يسمح بالتناسق دون أن يفرض الوحدة” [3].

 جيل دولوز في مشروعه الضخم عن السينما يلاحظ تلك العلاقة الغامضة والدقيقة بين العمل الفني والمقاومة، ويقرر أن العمل الفني في عمقه هو مقاومة للمعلومة أو الوظيفة الاتصالية التي تصنعها المعلومة [4]. فالفن ينزع بقوة نحو خلق وسيط جديد بين الانسان والموت؛ عبر جملة من الأحاسيس التي تراوغ الزمن أو الفناء بصنع ديمومة في التفاعل مع الواقع الذي يتجلى أو يحاكى ويعاد تخليقه داخل العمل الفني. تكون هذه الأحاسيس مستقلة عن الذات المتذوّقة أو المبدعة، وعن العمل الفني نفسه أيضا؛ تنتزع نفسها من الشكل أو القالب الفني الذي تلاحظه حواس الذات، لتبني لنفسها حضورا مجردا بحيث يمكن استدعائها أو استمثالها كحالة وجدانية متكررة بشكل مستقل عن الحواس وعن الأشياء [5]. هذه الأحاسيس تمثل جوهر المقاومة التي يتحدث عنها جيل دولوز، وهي التي يؤكد عليها أيضا جورجيو أغامبن  في كتابه النقدي “النار والحكاية”.

يلفت أغامبن الانتباه لحالة الخمول والسلبية في العمل الابداعي؛ ويقصد بها ما أشرت إليه بمنطق المفارقة الذي اعتمده كيجل في تعريفه للمقاومة، وهو الخمول كشكل آخر من أشكال النشاط والفعل؛ الخمول بصفته لحظة لا تنسى علاقتها الجوهرية بنقيضها؛ أي الإمكانية والقابلية للفعل في أي لحظة [6]. يضرب أغامبن هنا مثلا بالشعر وهو يروم كسر وظيفة المعلومة والاتصال.

يشتمل العمل الفني التأملي على حالة التوقف عن الفعل والزمن من أجل صنع حدث متجاوز للزمن. هنا المقاومة ليست مضادة للفعل بل هي كسر للزمن داخله لجعله مستمرا. أي أن يسلب العمل الفني الإبداعي نفسه، أو أن يرخي قبضته على الوجود ليحرر الانسان ويمنحه خيارات أكثر للحياة والحضور. يصبح هذا السلب أو التوقّف بحد ذاته فعلا، أو من الممكن أخذه في الاعتبار بصفته فعلاً؛ على أنه صانع للحدث، فلا يعود الجسد أو الشيء ينتقل خطيا من الإحساس إلى الفعل. والسؤال هنا: متى تفعل السينما هذا؟ يعني في اي لحظة تتصل السينما بمقاومة اللحظة الراهنة جاعلة من العمل الابداعي سار المفعول في كل لحظات المستقبل؟

في الحقيقة ليست السينما وحدها التي تصنع لحظات كهذه؛ فهي تفعل ذلك بالقدر الذي تستطيع فعلا أن تكون عملا فنيّا. مما يأخذنا إلى الجدل الطويل بين منظري السينما؛ إلى أي حد يمكن أن نعتبر السينما فنا؟ على اعتبار أن البعض؛ ومنهم روجر سكراتون؛ يشككون في السينما باعتبارها فنا. ومبرراتهم لذلك كثيرة؛ منها ما يتّصل باستخدام السينما لمجرد وسائل مستعارة من أشكال فنية أصيلة كالدراما، فالسينما ليست أكثر من وسيط عارض أو أداة تسجيل فقط، وليست من صلب الدراما أو الحكاية أو الأدب عموما [7].

يلفت روبرت ستيكر؛ وهو يعلّق على النزعة الشكية تجاه فنّيّة السينما، بالعودة إلى تعريف الفنّ نفسه والوظائف التي يؤديها. فمع قدرة السينما على التلاعب بالواقع وإعادة ترتيبه وتنظيمه للإعلان عن موقف تجاه موضوعه؛ يعيد ستيكر التفكير في السينما بصفتها فنا إلى ما يسميه بتنظيم الصورة في الزمن، أو جماليات الصورة وتقنيات المونتاج. كذلك عندما يشير إلى وظائف الفن كالتحريض والايحاء والتعبير والتمثيل والتجسيد؛ وهي كلها تقريبا من وظائف السينما أيضا؛ السينما كشكل فني مثله مثل العمارة والموسيقى والشعر والتصوير التشكيلي.

مما يعيدنا بدوره إلى جملة الأحاسيس التي تحدّث عنها دولوز؛ والتي تنسلّ من المزيج الذي يتسامى من مراقبة الأشياء أو المَشاهد التي سنصفها بالجميلة. في واقع الأمر هذه الأحاسيس لن تختلف كثيرا عن تلك التي قصدها إيريك سيلبين وهو يصف الدور التي تلعبه الحكايات في فعل المقاومة، من حيث قدرتها على التسامي على الزمان والمكان بحيث يجري استنساخها ومحاكاتها في كل زمان ومكان من قبل هؤلاء الذين يتطلعون لتغيير واقعهم. شيء يشبه تلك الشعارات الثورية الكبيرة: “كلّنا تشي جيفارا أو جميعنا زاباتيين” [8]. إن هذه القدرة على كسر الحدود والانتقال بين الأزمنة والأمكنة هو ما يميّز الفن، ومتى ما حقق العمل الفني ذلك؛ يصبح فنّا. مقاومة النهاية والفناء.

نستطيع أن نلاحظ ذلك في أنفسنا ونحن نقرأ عملا روائيا جميلا، أو نغادر قاعة السينما بعد مشاهدة فيلم نجح في استثارة كوامن النفس من خلال إدهاشات متتالية. كما لو أن ما يفعله المخرج أو المحرّر، وقبلهما الكاتب؛ أنهم يثبّتون لحظات معيّنة من نهر متدفّق من الصور، وما يثبتونه للمشاهد؛ هو لقطات مدروسة بعناية فائقة بحيث تضرب على أوتار رفيعة للغاية في النفس البشرية؛ ما كان بالامكان هزّها فيما لو كان التدفّق مستمرا بنفس تسارع الحياة اليومية. لحظة توقّف معينة تجعل هذه الأجزاء المقتطعة من كلٍّ مفتوح؛ كاشفة ومجسّدة ومضمّنة لهذا الكل [9]. وضع العالم في إطار على حد تعبير جيل دولوز. فاللقطة السينمائية تختصر لك في ثوان ما تريد الحياة أن تقوله لك في سنوات.

ربما أنه من المفيد أن أشير إلى خمس لحظات لرؤية المقاومة؛ يمكن أن ننظر إليها كلحظات توقّف في الزمان عبر ما تصنعه خمسة أعمال سينمائية توضّح ما أريد قوله؛ عن تعالق السينما مع المقاومة كحركة معاكسة للتقدم في الزمان. جميع هذه الأشكال تمثّل انعطافات معيّنة تتطلّب من المشاهد أن يتوقف ليلقي نظرة سديمية يمكن أن تعود إليه بأكثر تجليّات المقاومة وضوحا في الذاكرة، ثم ليسأل: ماذا لو كنت أنا في ذات الموقف؟

  • العمل الأول عن لحظة الغياب التام للمقاومة كما في فيلم Dogtooth (2009) للمخرج اليوناني يورغوس لانثيموس. وهي هنا تلك المقاومة التي تُزرع كبذرة ثم تنمو لتصنع الشخصية. فالأب في هذا الفيلم قتل أي مقاومة يمكن أن تصدر عن أطفاله وهم يعبرون عن أنفسهم؛ عبر عزلهم تماما عن العالم الخارجي. فوصلوا إلى مرحلة الرشد ولم تتشكل ذواتهم بعد.
  • العمل الثاني عن لحظة الامتلاء التام بالمقاومة كما في فيلم Sophie Scholl: The Final Days (2005) للمخرج الألماني مارك روتيموند. هذا الفيلم على العكس تماما من الفيلم السابق، فالشخصية هنا ممتلئة تماما من نفسها. مفعمة بالشعارات والمبادئ والاستعداد للتضحية من أجل تحقيق الذات.
  • العمل الثالث عن لحظة المقاومة في آخر العمر كما في فيلم قصة طوكيو Tokyo Story (1953) للمخرج الياباني ياسوجيرو أوزو. هنا حيث يستسلم الانسان لحركة الحياة التي أصبح لا يستطيع أن يحلم بتغييرها بسبب العمر وبطء الحركة. المقاومة هنا تتخذ شكلا مختلفا تماما؛ يمكن وصفها المقاومة عن طريق الكآبة والحزن والوحدة.
  • العمل الرابع عن المقاومة كتجربة رمزية سيريالية كما فيلم الحب والموت Love and Death (1975) للمخرج الأمريكي وودي آلن. وهنا يتم عرض المقاومة في صور هزلية رمزية. كيف يمكن أن نتخيّل المقاومة بشكل مختلف في لحظات الصراع بين الحب والموت، بين الحياة والعنف، بين ما هو أخلاقي ولا أخلاقي، بين الذاتي والموضوعي. أي مقاومة يمكن أن نعيد التفكير فيها مع التناقضات اليومية.
  • العمل الخامس عن المقاومة في ظل انعدام الخبرة كما في فيلم Being There (1979) للمخرج الأمريكي هال أشبي. هذا الفيلم يشبه إلى حد كبير الفيلم الأول؛ ولكن الرجل الذي تم عزله عن العالم الخارجي في هذا الفيلم؛ كان يشاهد العالم من خلال شاشة تلفاز وجهاز تحكم. المقاومة لديه تكوّنت على نحو مختلف؛ ليست معدومة تماما؛ ولكنها ليست واضحة بسبب بساطة التجربة وتفاهتها.

بطبيعة الحال هذا الأعمال الخمسة؛ كل منها صنع فاصلة في الزمان داخل وعيي؛ بحيث أستطيع أن أضع نفسي في لحظات مشابهة، ثم أبدأ في التفكير: من أين أبدأ من جديد؟ هذه القدرة هي ما يفعله الفن وهو يجعلنا نتوقّف لنتأمّل.

أخيرا أجد من المهم أن أشير إلى أن الموقف تجاه السينما بصفتها مقاومة يضعنا في قلب التحدّي الذي أثاره فلاسفة النقدية مثل ولتر بنجامين وتيودور أدورنو وهربرت مركوزه؛ والذين غالبا كانت لهم رؤية تشاؤمية ونقدية تجاه السينما باعتبارها صناعة رأسمالية لا همّ لها أكثر من إنتاج جمهور استهلاكي منخرط تماما داخل الأداتية التي تغذيها نزعة رأسمالية للمزج بين الوسائل والغايات بطريقة تبرز أهمية الوسيلة من خلال غايتها ومنفعتها وليس من خلال واقعها الفعلي [10]. لا أريد أن أخوض هنا في هذه الجدلية والتي تلفتنا فعلا إلى جانب غير مرأي، وإنما أشير إليها لكيلا ننخدع من رؤية السينما كفن مقاوم، فالصورة ليست نقية كما قد نتخيّل [11]، وهذا بالضرورة يبرز الدور النشط الذي تلعبه الذائقة الفنية المدرّبة في إبراز الوجه المقاوم في السينما.

المصادر والتعليقات:

نشر المقال في مجلة الفلق في مارس 2021

[1] https://plato.stanford.edu/entries/aristotle-metaphysics/#ActuPote

[2] زكريا إبراهيم، مشكلة الفن، ص167

[3] Howard Caygill, On Resistance: A Philosophy of Defiance, Bloomsbury Academic 2013, p7

[4], [5] Daniela Angelucci, Cinema and Resistance, Deleuze and Guattari Studies 2019 13:4, 567-579. DOI: 10.3366/dlgs.2019.0381

[6] Giorgio Agamben, The Fire and the Tale, trns. Lorenzo Chiesa, Stanford University Press 2017, p36

[7] روبرت ستيكر، السينما فنا. دليل روتليدج للسينما والفلسفة، تحرير: بيزلي ليفينجستون وكارل بلاتينيا، ترجمة: أحمد يوسف، المركز القومي للترجمة 2013، ص209

[8] إيريك سيلبين، الثورة والتمرد والمقاومة: قوّة الحكاية. ترجمة: أسامة الغزولي، المركز القومي للترجمة 2012، ص46

[9] رونالد بوج، جيل دولوز. دليل روتليدج للسينما والفلسفة. ص595

[10] محمد العجمي، داخل العقل النقدي. دار سؤال 2019، ص56

[11] يمكن الرجوع لدراسة ديانا والدمان Diane Waldman المعنونة (Critical Theory and Film: Adorno and “The Culture Industry” Revisited). مجلة النقد الألماني الجديد، العدد 12 (خريف 1977). https://doi.org/10.2307/487755

Visits: 27