أبريل 19, 2024

براكسيس رمادي

حيث الفكرة الحرة تقود التغيير

ماذا بعد كورونا؟

محمد العجمي

توجّه الأستاذ محمد هلال من فريق مجلة مواطن بمجموعة من الأسئلة حول تبعات جائحة فيروس كوفيد ١٩، ضمن تقرير لصالح المجلة. وفيما يلي التعليقات التي شاركت بها على الأسئلة المرسلة. كامل التقرير موجود على هذا الرابط.

1- هل تعتقد أن هناك تغييرا ما في شكل العالم فيما بعد كورونا؟
أظن نعم. العالم بعد جائحة كورونا ليس هو العالم قبله. قد لا نستطيع أن نحدد نوع وعمق هذا التغيير حاليا، غير أن هناك قدر مهم من الصدمة قد وقع فعلا، والسؤال بالتالي ينتقل إلى ماهية هذا التغيير وكيف يمكن أن نتعامل معه. أول أشكال هذا التغيير كما كتب أكثر من شخص، ومنهم مثلا ميشال فوسيل؛ هو في الطلب الذي سيرتفع كثيرا على الفلسفات الروحية المختلفة، وهذا سيأتي كنتيجة طبيعية لتوغّل الحياة المادية التي يبدو أنها لا تقدم ما يكفي للإنسان المصدوم أو الانسان الذي يواجه مصيرا مجهولا. أشكال من الرواقية أو البوذية أو الصوفية أو الكونفوشيوسية أو التقليلية سيكون لها حضورا أكبر بعد كورونا. الأديان هنا تستطيع أن تقدم الكثير أيضا، ولكن هذا يعتمد على قدرة خطاباتها على مواكبة الحدث. الشكل الثاني للتغيير والذي أشار إليه ميشيل أونفري وآخرون وهو أنّ الجائحة ستبرز المزيد من عوارات الرأسمالية، والمزيد من الصراع الطبقي وعدم التضامن. أونفري هنا سيعتبر العمل عن بعد مؤشر على ذلك، فالأغنياء هم سيستطيعون العمل عن بعد لأن الرأسمالية وفّرت لهم أسباب ذلك، بينما أما الفقراء سيعدّون القوارض في أقفاصهم بحسب تعبير أونفري. سلافوي جيجك يؤكد هذا التغيير، ولكنه سيعتبر ذلك فرصة جديدة للرأسمالية لإصلاح عيوبها الهيكلية، وبالتالي الحاجة إلى الزج بالمزيد من البحوث والدراسات لشكل جديد من النظام الاقتصادي. هنري كسينجر في مقاله حول الأزمة يصفها باللحظة السريالية؛ أي ما فوق الواقع أو ما بعد المنطق، وهنا يؤكد على أن الجائحة ستؤكّد أكثر على استعادة التعاون والتضامن الدولي لتجاوز الآثار التي ستنجم عنها، فالمعركة القادمة بحسب كسينجر ستكون فكرية طاحنة بين العقول فيما بين الدول. أشكال أخرى عديدة من التغيير يمكن التفكير فيها بشكل تنبؤي على مستوى الأفراد والجماعات والمؤسسات والدول والمنظمات الدولية. الخوف يلعب هنا دورا بارزا في تسريع وإبراز هذه الأشكال؛ كونه سيتحوّل تلقائيا إلى مشاريع يستثمرها الأقوياء أو الأذكياء بغرض التحكّم وكسب أسباب القوة. أتحدث هنا بطبيعة الحال عن سياسة الخوف؛ من سيدير مسلسل الخوف؟ فأن تصحوا فجأة لتكتشف أن الدولة تطلب منك التعاون من أجل تجاوز الخوف، وأن الدول يجب أن تتعاون جميعا لتجاوز الخوف؛ يكشف عن أن موضوعات الخوف كثيرة، وأنه لا وجود لمركز حقيقي يدير هذا الخوف. وبالتالي من كان يدير سابقا سياسة الخوف ويوظّفها لخدمة مشاريعه؛ هو نفسه أصبحا موضوعا للخوف؛ الذي يعود إلى أصله الكامن داخل غريزة البقاء، وبالتالي هو ليس في حقيقته مشروعا واحدا، فالفرص متاحة للجميع لتشغيل هذا الخوف في السوق الاقتصادي والسياسي والثقافي.

2- عربيا: هل ترى أن الدول العربية تتعامل مع الأزمة باحترافية؟
لا أستطيع أن أعطي تقديرا معينا هنا لكلمة “احترافية”، ولست متأكدا إلى أي مدى يمكن أن نثق في المعلومات التي تقدمها الأنظمة بالدول العربية وهي تكاد تحتكر المعلومات التي يتم تداولها داخليا وتسويقها خارجيا. غير أن النظر إلى البيانات الحالية ربما يعكس مؤشرا إيجابيا فمجموع الاصابات في كامل الدول العربية لا يكاد يصل إلى أربعين ألف إصابة مؤكدة، وعدد وفيات لم يصل إلى الألف بعد، وهذا أقل بكثير من دول جارات لنا كإيران وتركيا. من الممكن تفسير ذلك على أكثر من نحو، ولكن ما يهم هنا ليس تأويل هذه الأرقام، بل التأكيد على أن المشكلة الاقتصادية تبدو أنها هي الأعمق من بين آثار الجائحة على بلداننا. تتربع السلطنة ومعها دول الخليج والمغرب وتونس على رأس أنظمة الرعاية الصحية عربيا مع مراكز عالمية متقدمة؛ بحسب تقرير منظمة الصحة العالمية، ولكن هذا لا يعني كثيرا عندما نعرف أن فرنسا وإيطاليا وإسبانيا ضمن أفضل عشر أنظمة صحية عالميا. ربما هنا من الأفضل أن نركز على مسائل من قبيل البدائل المتوفرة في حالات الأزمات كهذه الأزمة، والتي كشفت عن نقاط ضعف عديدة في دولنا يتعلق بمسألة التعاون البيني في مجال تبادل السلع، وقضية الاكتفاء الذاتي، وتصنيع المستلزمات الصحية، والاستفادة من الفرص الاقتصادية التي تولّدت عن الأزمة، ومجالات البحث العلمي والتقني. الأكثر ذكاءً هنا هو الذي ينجح.

3- هل تعتقد أن العالم قد يتجه إلى إجراءات أكثر شمولية أو اشتراكية مستقبلا؟ هل تعاني الرأسمالية والليبرالية تخبطا في التعامل مع أزمة كورونا؟
سيرتبط ذلك بشكل أساسي؛ في رأيي، بحجم الصدمة وحجم الخسائر والتضحيات التي سيشعر الانسان أنه قدّمها. إلى أي مدى الدولة أو المنظمات الدولية أو النظام العالمي ساعده في تجاوز الأسوأ؟ وبالتالي أي مستوى من التضامن الجماعي سيحتاج إليه لاحقا؟ البعض يطرح فكرة أن الصين تجاوزت الأزمة وهي نظام شمولي مفرط في قبضته على كافة مفاصل الحياة بالصين، في مقابل فشل الديمقراطيات الغربية العريقة؛ مع التزايد المتسارع لأعداد الاصابات والوفيات هناك. ولكن في رأيي هذا ليس سبب كاف لتفضيل الأنظمة الشمولية. هناك هشاشة حقيقية فعلا في هذه الديمقراطيات، وهم يعترفون بها، وهناك أطروحات سابقة في الفلسفة السياسية عن أشكال جديدة من الديمقراطية؛ كالديمقراطية التداولية عند هابرماس وآخرين. أزمة كورونا ستعجّل في تحويل هذه النظريات الفلسفية إلى مشاريع حقيقية على الأرض. المفكر الفرنسي مارسيل غوشيه سيعتبر أزمة كورونا فرصة للديمقراطيات الغربية للتغلب على هشاشتها الحالية عبر استعادة فكرة التلاحم الجماعي الذي تلقّى ضربات موجعة بسبب نمو الفردانية التي غذّتها الدولة الرأسمالية بشكل مفرط. كما أن الأزمة بالنسبة لغوشيه تكشف عن ثغرة كبيرة في العولمة الحالية، وبالتالي فهو يتنبأ بأنه في النهاية ليس سوى السيادة الوطنية ما يحمي الشعوب وليس الحدود المفتوحة. جورج أغامبين؛ الفيلسوف الايطالي، يطرح فكرة “حالة الاستثناء” في تحليله للجائحة. وهي أن الأنظمة السياسية ستستفيد من هذه الأزمة لتبرير أهمية العسكرة والأمننة لتجاوز الأزمة. السيطرة وتقييد الحريات ستصبح مبررة جدا في المستقبل. ولكن ذلك يتم عبر التحوّل التدريجي من الضبط الخارجي إلى الانضباط الداخلي الطوعي. طبعا أغامبين هنا يتحدث عما يُسمّى “حالة الاستثناء”. وهي فكرة يشتغل عليه فلاسفة ما بعد الحداثة بكثافة. ينطلق أغامبين في ذلك عبر طرح فكرة التمييز بين كورونا الفيروس الذي لا نعرف بعد كيف نتعالج منه وكورونا الصورة التي تتحكم فيها أنظمة سياسية واقتصادية وإعلامية، وتقدمها لتسريع عملية الانضباط الداخلي؛ استعمال الصورة كأيديولوجيا هنا. بشكل عام تبدو مسألة انهيار الليبرالية وصعود الأنظمة الاشتراكية؛ تفاؤل مستعجل لدى البعض، والأرجح هو المزيد من الاصلاحات التي ستهدف إلى تشجيع التضامن الداخلي عبر تقليل الفردية. الألماني بيتر سلوتردايك له كلام كثير من هذا القبيل في مقالاته حول الجائحة.

4- كيف ترى التباعد الاجتماعي عاملا مؤثرا في سلوكيات البشر خاصة وإن طالت فترة الحجر المنزلي؟
في الحقيقة لا أظن أن الجميع مهيأ أو مستعد لهكذا عزلة طويلة. البعض لا يستطيع أن يبقى بضعة أيام فضلا عن عدة أشهر، لهذا من الوارد جدا أن يكتشف الكثيرون جوانب مخفيّة داخل شخصياتهم نتيجة هذه العزلة. ولكن إما أن تظهر في صورة مشاكل نفسية أو في صورة مراجعات داخلية واكتساب عادات ومهارات ومعارف جديدة. تحدثت كاثرين مالابو؛ الفيلسوفة الفرنسية، عن الوحدة داخل العزلة، وتقصد بذلك تكوّن مفهوم لإيجاد مساحة شخصية داخل العزلة المفروضة. في كل لحظة نحن نبحث عن المساحة الخاصة التي لا يشاركنا فيها أحد. الانتقال من التفكير فيما الذي أحتاجه من الآخرين، إلى ما الذي لا أحتاجه من الآخرين. هذا سيرتبط بطبيعة الحال: ما الذي يمكنني فعله في هذه العزلة؟ الكتابة؟ القراءة؟ مشاهدة الأفلام والمسلسلات؟ الزراعة المنزلية؟ تعلم لغة جديدة؟ اكتساب مهارات جديدة؟ وهكذا أركّب عالما خاصّا بي داخل العزلة المفروضة عليّ أصلا. مقاومة العزلة بمزيد من العزلة؛ بالوحدة كما تسميها الفيلسوفة الفرنسية. العزلة هنا ستكون بمثابة الفرصة لمراجعة الحدود التي ترسم معالم الهوية الفردية؛ وربما الجماعية أيضا. هذا سيرتبط بحجم التضحيات التي نقدمها في معركتنا الفردية والجماعية مع كورونا. ما الخسائر التي قدمها الفرد من راحته ومستوى رفاهيته وعاداته اليومية وربما من أحبابه وعلاقاته؟ أشير هنا إلى الكسر الذي وقع في الحياة المعتادة، والذي سيترتب عليه بالضرورة تغيرات مختلفة في الثقافة الفردية عن العناية والصحّة، والممارسات الدينية وعادات التسلية والترفيه. ماذا يعني إغلاق الجوامع وإيقاف صلوات الجماعة والدروس والمواعظ؟ بات الجميع يصلّي في بيته؛ لماذا لم يكن ذلك من البداية؟ وكيف سيتشكّل وعي أطفالنا وهم يشاهدون أن المدارس أغلقت وفي نفس الوقت عليهم أن يلزموا بيوتهم؟ وماذا عن توقفنا كافة أنشطة المشاركة الجماعية والجامعات وجزء كبير من الحياة الاقتصادية؟ هذا الكسر في نمط الحياة نحن نتحمّل نتائجه. وبالتالي فلا بدّ أن تتشكّل مفاهيم جديدة عن الفردية، وهي مفاهيم سترتبط بشكل أساسي بتشكّل فردانية جديدة تدرك أهمية مساحتها الخاصة، وفي نفس الوقت أين ومتى يمكن أن نشارك الآخرين هذه المساحات.

5- كيف يتأثر الاقتصاد بتلك الأزمة؟ هل ستتجه الدول مستقبلا نحو شكل أكثر وطنية واكتفاء ذاتيا على حساب الاقتصاد المعولم؟
بالرغم أنني لست مختصا بالاقتصاد، وربما لا أعطي هذا السؤال حقه، ولكن يمكن قراءة بعض المتغيرات داخل الدولة؛ أقصد السلطنة هنا طبعا، بما يكشف عن إدراك واقعي لوجود نقاط ضعف وثغرات حقيقية في بنية الاقتصاد الوطني؛ تجتهد الحكومة على معالجته عبر الآليات والمبادرات الجديدة التي تضخّها في السوق. هناك تعاطف معين ملحوظ بين الحكومة والشعب في هذا الشأن، والذي أرى أنه يمكن استثماره بأكثر من شكل لتعزيز إمكاناتنا في الاكتفاء الذاتي. وخصوصا أن الجائحة كشفت عن أن الجميع يكرّس الحدود في الأزمات والانعطافات الخطيرة، هكذا فلا يجب أن يعوّل الواحد إلا على الداخل. لعل أبرز ما يمكن ملاحظته هنا هو النموّ الواضح لما يسمى بالاقتصاد المعرفي، وهو ذلك المرتبط بتحوّل المعرفة نفسها إلى سلعة اقتصادية متبادلة ومستدامة، وهنا تحديدا أشير إلى تطبيقات الهاتف والعمل عن بعد والطباعة ثلاثية الابعاد وصناعة الترفيه والفيديو. هناك رأسمال محلّي يتكوّن ويتراكم فعلا في هذا الشأن. الابتكار والابداع والتعليم والذكاء الاصطناعي كل هذه ستكون العمود الفقري لهذا الاقتصاد القديم/الجديد. سنعيد التفكير كثيرا في العولمة ومنتجاتها، وسنفكر كثيرا بأن الحدود ضرورية لحماية الهويّة بما تشتمل عليه من مكونات ثقافية واقتصادية واجتماعية.

Visits: 2