أبريل 19, 2024

براكسيس رمادي

حيث الفكرة الحرة تقود التغيير

الفلسفة والرياضيات.. ما الضروري؟

محمد العجمي *

بين الرياضيات والفلسفة اتصال وانقطاع؛ اتصال لأن كل حقل يستمد شيئا ما من الآخر، وانقطاع لأن الرياضيّات تتمرّد دائما على الفلسفة. الفلسفة هنا هي حقل التفكير الواسع الذي يعترض كل ما يجهله الإنسان، والرياضيات هي ذلك النطاق المحدد بشكل واضح ودقيق؛ للدرجة التي بات يطرد كل فلسفة من ساحته حتى لا يتأثّر بذاتيّتها العالية. الفلسفة لا تترك شيئا على حاله كما يرى دولوز، تماما مثلما تترك كل شيء على حاله كما يقول فيتنغنشتاين، وهذا يجعلها الوحيدة القادرة على معرفة حدود الذهن البشري، أو ما لا تستطيع الرياضيات معرفته؛ وبذلك فقط هي تفتتح في كل مرة مسارا جديدا لللتفكير. ربما ذلك لأن ما يجهله الإنسان أكثر بكثير مما يعرفه. منذ ظهور المبرهنات الرياضية الأولى عند الإغريق؛ يمكن تلمّس أولى المحاولات للرياضيات لكي تنفصل عن الفلسفة. لا يمكن تفسير مثل هذه الظاهرة؛ ما الذي يجعل الإنسان ينكر فضيلة التفلسف بمجرّد الظن بأنه امتلك الحقيقة الرياضية؟ يمكن فهم ذلك كتعميم في وصف ظاهرة تتكرر، وما تكرارها إلا لوجود حقيقة ما خارجية في الأشياء. هذه الحقيقة الموضوعية هي مادة الرياضيات القادمة من التاريخ الطويل للتفكير الفلسفي في الحقيقة. كما لو العقل البشري تعب من التفكير وآن الأوان لأن يثق في شيء ما يستطيع أن يستعمله في وصف العالم. يسعى هذا المقال إلى ملاحظة بعض هذه الحقائق الرياضية؛ وكيف أنها على تماسّ شديد مع جذورها وآثارها الفلسفية، وذلك بغية تأكيد كيف أنه بالفلسفة وحدها أو بدونها لا يمكن أن نتقدم. وهكذا فنحن مطالبين بالاثنين معا؛ بالتفكير الفلسفي المتواصل، وبالمشاريع والتصوّرات المعيارية (الرياضيات والمنطق والفيزياء والأخلاق) التي ستمثل خلاصة وثمرة الفلسفة.

بداية.. يمكن القول أن الفلسفة لغة تشاغب وتُشعل وتكنس وتشحن، وقبل كل ذلك؛ تفضح الفراغ؛ ما نجهله. ما يُظن أنه عيبها؛ وهو التجريد، هو في الحقيقة مصدر قوّتها. عبر التجريد تستطيع أن تختبر كل شيء. هذا التجريد الفلسفي هو الخطوة الأولى نحو التجريد الرياضي. الفرق هنا أن الرياضيات تضيق ذرعا باللغة الفلسفية؛ واللغة اليومية من باب أولى، فتُجرّد الواقع في رموز وبُنى تطرد التشويش. الفلسفة تعشق التشويش، ولكنها تجرّده إلى الدرجة التي تجعله مادة خام يمكن للرياضيات أن تشتغل عليه لتجرده أكثر؛ حتى لا يتبقى من الواقع سوى خيال الممارسين للرياضيات. ذاتية الفلسفة وموضوعية الرياضيات؛ كلاهما انعطاف وانقلاب على الطبيعة، غير أن الفلسفة تفعل ذلك لتكشف عن ما لا تقوله الطبيعة، بينما الرياضيات تفعل ذلك لتجعل الطبيعة تكشف عمّا لا تريد. كلٌّ من الفلسفة والرياضيات أدوات بشرية لمقاومة الغموض في الطبيعة، غير أن ما تطلبه الفلسفة تحرير الإنسان من الطبيعة، بينما تطلب الرياضيات تحرير الطبيعة من الإنسان. وهذا يفسّر لماذا تسبق الرياضيات بقية العلوم بفترات. فبين البرهان الرياضي والدليل العلمي مسافة زمنية تطول وتقصر، فالرياضيات تصف الطبيعة كما هي؛ بعيدا عن الذاتيّة. هذا يعني أنها لا تهتم بتفسير الظواهر، ولهذا هي لا تعترف بالمعرفة الفلسفية التي تحاول تفسير هذه الظواهر. على اعتبار أن التفسير وفق بعض النظريات ليس أكثر من تفاعل نفسي مع الواقع الخارجي[1].

لنأخذ هنا مثالا قديما لتوضيح هذه الفكرة، وهو عن قصّة إراتوستينس مع قياس محيط الأرض. إراتوستينس كان رياضيا وجغرافيا وعالم فلك إغريقي من القرن الثالث قبل الميلاد، عاش في الإسكندرية وكان أمين مكتبتها، وهناك قرأ مرّة أن الأشياء لا تلقي ظلالا في منطقة جنوب أسوان وقت الظهيرة من 21 يونيو، حيث يكون قرص الشمس عموديا فوق الرأس تماما. عمِد إراتوستينس إلى استخدام هذه الفكرة بقياس طول الظل في نفس هذا اليوم بالإسكندرية، وبحساب الزاوية الرأسية للظل الساقط من عمود ما استنتج أن الأرض محدّبة وليست مستوية، وأن مقدار التحدّب بين أسوان والاسكندرية هو سبع درجات، وهو ما يعادل نحو جزء من خمسين من محيط الأرض المساوي 360 درجة. استأجر إراتوستينس رجلا ليقيس المسافة من الاسكندرية إلى أسوان بالخطوات فوجدها تعادل 800 كيلومتر تقريبا، وبضرب هذه المسافة في خمسين وجد أن محيط الأرض هو 40 ألف كيلومتر، وهذا رقم دقيق جدا، حيث نعرف اليوم أن محيط الأرض (40,075) كيلومتر[2]. هذا الوصف الرياضي الدقيق للأرض لم يأت إلا بعد تأمّلات فلسفية طويلة لمحاولة فهم طبيعة الأرض وعلاقتها بالشمس، ومعرفة المسافات، وضبط المواسم الزراعية. فذاتيّة التأمّل الفلسفي تم تجاوزها مع إراتوستينس بموضوعية الرياضيات وحياديّتها.

الرياضيات تحاول أن تطرد الفلسفة من الساحة. لأن الأخيرة تظل باستمرار تطرح أسئلة اللماذا والحقيقة. الرياضيات تعرض الحقيقة كميّا لتنهي الجدل وتبدأ في تركيب حقائق جديدة. الفلسفة في المقابل تكشف عن الحدود التي تقف الرياضيات عاجزة عن اقتحامها، وفي نفس الوقت تحفّزها على ذلك. فالفلسفة تفتتح الآفاق الممكنة للبحث الرياضي. لا يعني ذلك أن الرياضيات ستنجح في تقديم الحقيقة كما تطمح، إذ أن الكثير من هذه الحدود العصيّة هي في حقيقة الأمر هي في الذهن البشري. لنتأمّل هنا مثلا ما يعرف ببرهان يوم القيامة، وهو برهان حسابي يقوم على عملية احتمالية صرفة لتحديد العمر الافتراضي المتبقي للنوع البشري وذلك بالاعتماد على موقعنا الحالي في الزمن للقيام بتنبؤ إحصائي من خلال التوزيع الاحتمالي الذي تنتجه معادلة رياضية طوّرها عالم الفيزياء الفلكية الأمريكي جون ريتشارد غوت. وليم باوندستون سيستخدم المعادلة في كتاب نشره مؤخرا ليستنتج أن البشرية أمامهم احتمال (50%) لينقرضوا خلال السنوات ال (760) القادمة[3]. يوضح هذا المثال كيف تنفصل الرياضيات عن الفلسفة بشكل فجّ، وبالرغم أن البرهان صحيح رياضيا، غير أن الجدل الفلسفي الذي أثاره شديد حول علاقة الرياضيات بالفلسفة، ويعكس إلى أي مدى يمكن أن تفقد الرياضيات المعنى بدون الفلسفة التي تبرر نتائجها.

‏الرياضيات وبسبب دقّتها ونطاقها الواضح تحقق تقدما وإنجازا، على العكس من الفلسفة التي تظل تراوح مكانها إلا ما ندر؛ تظل تطرح نفس الأسئلة وتجتهد في اختبار أي حقيقة تنتجها الرياضيات. من الممكن للرياضيات أن تحقق قفزات واختراقات علمية مهمة، ولكن من النادر في الفلسفة أن نجد ذلك. ‏الحقيقة في الرياضيات كمية، وفي الفلسفة جدلية. الفلاسفة قد يغيّرون مواقفهم وأجوبتهم خلال حياتهم، وربما يتبنون وجهات نظر معاكسة تماما لما كانوا عليه في بداياتهم، ولكن لا يوجد شيء من ذلك عند الرياضياتيين. ‏هيلاري بتنام يرى أنه كلما اكتشفت الفلسفة خطأ ما في العلوم، ويجب بالتالي أن تتغيّر، نكتشف بعد مدة أن الخطأ أصلا في الفلسفة، وهي من يجب أن تتغير، وأن الرياضيات أكثر ما تكون غنية عنه هو التفسيرات الفلسفية[4]. ولكن مع كل هذه الثقة الشديدة في نفسها فإنها لا تستغني عن الفلسفة؛ لأنها هي من تفتح لها الآفاق وبوّابتها إلى الثقافة اليومية. يمكن أن نستدلّ على ذلك بملاحظة كيف أن مفاهيم مثل الحركة والفضاء والفرصة واللانهاية؛ ظلّت إلى عهد قريب حكرا على الفلسفة؛ خارج الرياضيات، غير أن تطوّر البحث الرياضي منذ القرن السابع عشر أنتج نظريات تقدم وصفا رياضيّا لهذه المفاهيم.

بالإضافة إلى هذه المفاهيم الفلسفية التي أصبحت مواضيعا في الرياضيات، يمكن النظر إلى مجموعة من المبرهنات والمشكلات الرياضية التي أصبح لها تأثيرات واسعة في البحث الفلسفي، وهذه المبرهنات تمثل تشابكا مهما بين الفلسفة والرياضيات، إذ لم تأت إلا بعد جدل فلسفي عريض، كما أنها أدّت إلى إنتاج جدل فلسفي آخر، ومن الأمثلة المهمة هنا هي مبرهنات عدم الاكتمال لكورت غودل. كورت غودل منطقي وعالم رياضيات وفيلسوف نمساوي نشر في (1931) ورقته العلمية الشهيرة عن مبرهنات عدم الاكتمال والتي شغلت المناطقة وعلماء الرياضيات طيلة القرن العشرين. تنص المبرهنة الأولى على استحالة تعميم أية برهان لنظرية في الأعداد على جميع البديهيات الرياضية، ووتنصّ المبرهنة الثانية على أنه لا يمكن لأي نظام بديهيات أن يثبت انسجامه وتوافقه الداخلي[5]. لهذه المبرهنات تأثير واسع على البحث الرياضي المنطقي، فقد كان المناطقة والرياضيون منذ أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين يحاولون التوصل إلى مفهوم موحّد عن طبيعة الرياضيات. ولكن مبرهنات غودل أثبتت فيها استحالة وجود هكذا نظام مكتمل ونهائي، بل واستحالة أن يكون الدماغ البشري مثل جهاز الكمبيوتر، فأي نظام منطقي لاختزال الرياضيات في بضعة مسلّمات وبدهيّات سيكون بالضرورة غير مكتمل؛ أي لا يستطيع أن يثبت كل هذه المسلّمات.

تنطلق مبرهنات عدم الاكتمال لغودل من فكرة أوسع في الرياضيات وهي أن جوهر الرياضيات هو المنطق، بمعنى يمكن رد كل الحقائق الرياضية إلى المنطق. وهذه الفكرة بدأت بشكل أساسي مع نظرية المجموعات عند جورج كانتور في 1874، ضمن الجدل الذي كان يدور حينئذ بين من يريد أن يجعل المنطق فرعا عن الرياضيات وبين من يريد أن يجعل المنطق علما مستقلا بذاته. هذا الجدل انتهى تقريبا إلى ما بات يُعرف بالمنطق الرياضي (الرمزي)، وذلك مع نظرية المجموعات لكانتور. الثورة الفلسفية في نظرية المجموعات هو التعامل الرياضي مع مفهوم اللانهاية في أنظمة الأعداد. ليس فقط مفهوم اللانهاية، فامتزاج الرياضيات مع المنطق في نظرية المجموعات وفّر الأرضية لاختراقات واسعة لاحقا في فلسفة اللغة والحوسبة وفي تنظيم وتحليل القضايا الفلسفية بطريقة رياضية. الفلسفة المعاصرة بمحاولاتها المستميتة لإقصاء الميتافيزيقا؛ مدينة في حقيقة الأمر إلى الإنجازات التي حققها المنطق الرياضي.

إن هذا التأثير المتبادل بين الرياضيات والفلسفة سينعكس بالضرورة على علاقة الفلسفة بالعلوم الأخرى  أيضا. فإذا كانت الرياضيات مع ثقتها المفرطة في حقائقها لا تكاد تستطيع تبرير منطقها خارج الفلسفة، فإنه من باب أولى أن العلوم الأخرى ستظل على تجاذب مع الفلسفة. تتبادلان فيما بينهما الأدوات والتطبيقات والتفسيرات، حتى لو ادّعى العلم استغنائه عن الفلسفة. فنفسها فكرة النظام الرياضي المكتمل والمغلق؛ هي فكرة فلسفية؛ تستطيع الفلسفة أن تقول شيئا ما عنها.

——-

المصادر والملاحظات:

*نشرت في مجلة شرق غرب في أكتوبر 2019

[1] لويس تايسون، النظريات النقدية المعاصرة الدليل الميسر للقارئ، ترجمة: أنس مكتبي، دار جامعة الملك سعود للنشر 2014، ص181

[2] كارل ساغان، الكون، المجلس الوطني للثقافة والفنون والأدب – الكويت، عالم المعرفة – أكتوبر 1993، ص25-27

[3] William Poundstone, The Wall Street Journal – June 27, 2019. (url: https://www.wsj.com/articles/doomsday-math-says-humanity-may-have-just-760-years-left-11561655839 – date: 22/07/2019)

[4] Hilary Putnam, Mathematics without Foundations, The Journal of Philosophy, 1967 / 04 Vol. 64; Iss. 1. (DOI: 10.2307/2024603)

[5] Internet Encyclopedia of Philosophy, The Lucas-Penrose Argument about Gödel’s Theorem, (URL: https://www.iep.utm.edu/lp-argue/ – Date: 24/07/2019)

Visits: 73