أبريل 20, 2024

براكسيس رمادي

حيث الفكرة الحرة تقود التغيير

تدجين الذات المتكلمة من منظور التحليل النفسي

محمد العجمي *

يشتبك الطفل وهو يكتشف وجوده مع الوسط المحيط به في صورة صراع من طرف واحد، إذ أن الطرف الآخر ما يزال لم يتطور في وعيه. وشيئا فشيئا يبدأ الطفل في اختزان التجربة التي يكتسب خلالها مفهوم الغير، والذي يتطوّر بالتزامن مع مفهوم الأنا، بحيث يدرك الطفل بعد حين أنه لاكتشاف وجوده يحتاج إلى الغير، وأن هذا الوجود؛ الذي سيُسمى فيما بعد “ذاتا”؛ هو مزيج من الأنا والغير، ولكي يحصل على هذا الدعم من الغير يحتاج أن يعطي جزء من الأنا له. يتطوّر مفهوم الغيرية مع الطفل انطلاقا من الحاجة، فلأن لديه حاجات لا يستطيع أن يشبعها بنفسه؛ فهو يحتاج أن يدمج الغير ضمن أناه، ونفس هذا التطوّر للمفهوم يتم عبر طريقة مهمة ووحيدة وهي اللغة. فيبدأ في اكتساب المصطلحات التي ستمثل في نهاية المطاف التعبيرات التي تصف محتوى الغيرية الذي أصبح جزءً منه. وهكذا لا يعي أنه موجود، وأن له ذات؛ إلا في ظل وجود الغير وأن لهؤلاء الغير ذوات. هذه التعبيرات هي مصطلحات من قبيل: الإيثار والتبادل والتنازل والأخذ والعطاء. وهذه الغيرية هي التي ستكون لاحقا نواة الإجتماع لدى الأفراد.

من الممكن أن تتطور هذه الغيرية في بيئة سلسة وانسيابية؛ ستكون اللغة حاضرة فيها بقوة عبر الحوار والتفاوض والترجيح، كما يمكن أن تتطور في بيئة مليئة بالمهددات والنقوصات والقلق، وهنا ستكون الخبرات السلبية هي الأكثر حضورا وتمثيلا لهوية الأنا المرتبكة في محاولتها لدمج الغير فيها. ومن هذا الارتباك يولد الإستبداد في الذات؛ من الأنا غير القادرة على الكلام، أي الأنا التي لم تكتسب اللغة التي تدمج عن طريقها الغير في هويتها، وما لم يتحقق في الطفولة؛ سيكون تحقيقه أصعب بعد البلوغ والرشد. وسيكون الإستبداد هو الثقافة التي يحتك فيها الفرد مع الوسط؛ استبداد يبدأ من الذات تجاه الواقع، ومن الواقع باتجاه الذات. ويتحول مع الزمن إلى قضية لاواعية ضمن نسيج المجتمع الذي لن يع أفراده إلا هذا النوع من الغيرية؛ الغيرية المتسلطة والإنتهازية التي تروم استعباد كل شيء حولها.

إن فهم بنية الإستبداد في الثقافة تتطلب الإستعانة بأحدث النقاشات العلمية في حقول التحليل النفسي وعلم الاجتماع، إذ أن مجرد الحديث عن تدجين المجتمع لأفراده حكم استباقي يحتاج إلى مبرر أخلاقي، لأن العملية؛ وإن كانت تتم وتشاهد بشكل يومي حتى على مستوى الأسرة؛ غير أنها لا تتم وفق خطة ممنهجة ومُعدّ لها سلفا ولها كادرها الخاص، وإنما كل شيء يجري بشكل طبيعي جدا، وفق انسيابية عفوية قادمة من ثقافة المجتمع وطبيعته وخصائصه النفسية وخصوصيته الحضارية، فعندما نقول المجتمع يدجن أبناءه فهذا يعني أن من طبيعته أن يقوم بذلك، وهذا ديدنه ووضعه الطبيعي، وإن لم يفعل ذلك فهناك خطأ ما يقع في مكان ما. وربما كل المجتمعات البشرية تقوم بهذا التدجين الطبيعي؛ غاية الأمر أن حجم التداخل بين الفرد والجماعة يختلف من مجتمع ﻵخر في النسبة فقط، فالكلمة الأخيرة للمجموع، وعلى الفرد الانصياع أو التكيف أو الهجرة.

التغيير الذي يحصل في مساحة الخصوصية الفردية بالمجتمع تغيير هو الآخر يأتي منسابا وتلقائيا وفق الظروف والمتغيرات المحيطة، ويكون بطيئا ولا يمكن ملاحظته بسهولة إلا عندما نقارن بين جيلين متباعدين من حيث أنماط التفكير واختلاف الحاجات وأساليب التعبير عن الذات. عوامل كثيرة تدفع بتسارع التغيير ربما أهمها التعليم والاحتكاك بتجارب الآخرين والرخاء الاقتصادي وحسن الإدارة السياسية. ومن هنا جاء التحدي الذي فرضته الظروف المتغيرة نتيجة هذه العوامل، وهو تحدي التدجين.

التدجين هو الترويض والإخضاع، والاستخدام المجازي هنا ربما مستفز نوعا ما؛ ولكنه ضروري لوصف الحالة الملتبسة بين أفراد يمتلكون رؤى وتصورات راكموها طيلة سنوات حتى أصبحت جاهزة للتداول مع الوسط الخارجي، وبين إرادة جمعية غير واضحة يتصاعد فيها صوت الرفض لهذه الرؤى وترى فيها خطورة على الجماعة، وبالتالي يجب ترويضها لجعلها في خدمة الأهداف الكلية الكبرى للجماعة وليس العكس. فالجماعة تحافظ على نفسها بهذا الترويض الذي يأتي في صورة تعليم تارة وفي صورة تأديب تارة أخرى، وربما يشط فيصل إلى مستوى العقاب النفسي والبدني؛ ليس رغبة في العقاب نفسه بقدر ما هو المحافظة على الكل عبر التضحية بالبعض. وتشتبك مسألة التدجين بالتضحية بشكل كبير، فمن يستعصي على التدجين يتم التضحية به. إن هذا التدجين والترويض يتحوّل مع انتشار فعالياته وشبكاته إلى بنية استبداد تبرر نفسها وفي نفس الوقت ترفض أي نوع من التفاهم والتبادل مع أشكال عمل إجتماعي يشكك في مشروعيتها وفي أخلاقية سلوكها العام في تمثيل الإرادة الكلية. وهذا ما يجعل الذات المتكلمة أمام تحد هائل وهي تحاول اختبار وتجربة حريتها.

الحرية بطبيعة الحال ليست وسيطا، ولا طبقة إضافية توضع وتنزع؛ بل هي شعور عميق داخل النفس باستقلاليتها، وهذا الشعور هو جوهر هذه الإرادة التي تدفع بالإنسان ليفعل. العمل الإبداعي هو نتيجة هذا الفعل الإنساني المؤسس على هذا الشعور الداخلي بالاستقلال، وكلما كان هذا الشعور عميق كلما كانت فرص ولادة العمل الابداعي كبيرة، ولعل هذا يفسر لماذا بعض المجتمعات تتفوق في إبداعاتها. ليس من السهل لعمل ابداعي أن يولد في ظل قهر وترهيب يعيش في ظله الإنسان، لهذا كلما استطاع أن يجد مساحات حرية أفضل نجده ينسحب إليها. وربما يضحي بأشياء كثيرة في مقابل أن يتخلص من عوامل الغلبة والإلزام التي تريد إخضاعه. العمل الإبداعي يحتاج إلى تقدير واهتمام لينمو وينافس؛ يحتاج لبيئة حاضنة تجعله يتطور ويتحول إلى منتج قابل للتداول المحلي والدولي، فيتحول إلى قيمة مضافة تضاف إلى رصيد المجتمع، فالأمة المبدعة هي التي تتجاوز إبداعاتها حدودها فتصدر منتجاتها، ومع المنتجات تصدر لغتها وثقافتها، وكل ذلك يصب لصالح المجتمع.

أغلب تعاملاتنا اليومية تنطلق من نوايا حسنة اتجاه بعضنا البعض، ومع ذلك فما أكثر مشاكلنا الإجتماعية، والتي هي في معظمها نتاج النوايا السيئة! النوايا هنا تشير إلى الدوافع الخفية للمواقف والأفعال. هناك خط فاصل تتحول عنده النية الحسنة إلى سيئة، وهذا الخط لا يشعر الإنسان بأنه يجتازه وأن دوافعه التي تحركه أصبحت سلبية وتنحو إلى تدمير الواقع والإساءة بشكل من الأشكال إلى الآخر، فيتحول العمل الأخلاقي إلى عمل لا أخلاقي. هذا الخط الإفتراضي هو تلك الرغبة الجامحة للكشف الدقيق عن الآخر وتعريفه تعريفا جامعا مانعا وتحديد ماهيته ومحتواه بشكل قطعي بحيث لا توجد أي مساحة محتملة للغموض في العلاقة معه. إن هذه الرغبة قد تجعل حتى من عمل المحقق الجنائي وهو يحاول سبر أغوار المتهم؛ عمل لا أخلاقي. يجب أن أن نقبل بذلك الغموض في البشر لكي تكون لدينا فعلا نوايا حسنة تجاههم، ويجب أن نحترم إرادة الآخر في عدم الكشف عن دوافعه الكامنة، والتي قد يكون بنفسه لا يعرفها ولا يدركها. وخصوصا أننا نعلم أن اللاوعي في البشر هو الذي يحرك أغلب مواقفهم وممارساتهم الاعتيادية اليومية. هذا لا يعني أن مجمل محاولات الوصول إلى دوافع الشخص والكشف عنها خاطئة ولا أخلاقية؛ بل القصد أن لا تخرج عن نطاق اللغة والتأويل. بمعنى أن تكون في صورة احتمالات وترجيحات وتفضيلات، وليس تعريفات جازمة.

يحلل المفكر المصري الفرنسي مصطفى صفوان بنية الذات المتكلمة في كتابه “الكلام أو الموت”، من خلال مدخل لاكاني (جاك لاكان) يعتمد على محورية اللغة في التحليل النفسي الحديث. فعبر الإحالة إلى الثلاثية اللاكانية في وصف اللاوعي: الرمزي والخيالي والواقعي؛ ينطلق صفوان في البرهنة على أن أسبقية المجتمع للفرد؛ هي أسبقية لغوية. يتجسد ذلك سواء في المعنى المعطى من المجتمع للفرد (الرمزي)، أو في أنثروبولوجيا التأسيس للمجتمعات (الخيالي)، أو في القانون المنظم لعلاقة الأفراد داخل المجتمع (الواقعي). هذا التجسيد لأسبقية اللغة والذي تحدث عنه صفوان؛ هو إنما بقصد بيان كيف تتكون الذات الإنسانية. الفردية عند صفوان تتجلى في حضور الذات في الكلام. فالكلام هو الشكل الأجلى للفردية، وهو مادة الشبكة التي تصنع نسيج المجتمع. ويلفت النظر هنا إلى نقطتين محوريتين في تشكل الجماعة: التوصل إلى الطرف الثالث الذي يمتص حالة الحرب عبر القانون الذي يعطي الدولة السلطة لفض النزاعات؛ حيث يمثل الكلام (أو مختلف أنواع الخطاب) محتوى هذا القانون. والنقطة الثانية هي الرغبة المنطلقة من اللاوعي والتي تشكل مادة المعتقد الصانع للإلتزام في الكلام. صفوان يرى أن المجتمع يتشكل من هذين البعدين الأساسيين: الإتفاق الكلامي للأفراد والرغبة التي تعطي للكلام القوة، ومن ثم القانون المتولد عن الإتفاق والرغبة. والبعدان معا هما قوام الفردية المتشكلة ضمن نسيج المجتمع. فلاوعي الأفراد هو نقاط التشابك، وكلامهم هو الخيوط الممتدة.

يتحدث صفوان في كتاب آخر (أربعة دروس في التحليل النفسي) عن الرغبة كعبور باتجاه الآخر يجعل الذات لا تطابق الواقع، أو ليست كما تكشف عن ذاتها في الكلام، بل تنزاح إلى حيث يتواجد الآخر، فتتلبسه بين الحين والآخر. ويضرب صفوان هنا مثالا بالفتاة التي ترى فتاة أخرى تأكل شوكلاتة فتضربها، ثم تدّعي أن الأخيرة هي التي ضربتها. يقول صفوان: “إن موضوع الرغبة في العادة يخبر على الدوام بوصفه الشيء الآخر… فالأنا يخطئ ذاته، إذ يجد ذاته حينما تغيب في مكانين في نفس الآن”. فعل المقاومة للواقع التي تقوم به الأنا أثناء الكلام يعبّر عن ذلك العبور للآخر، فيصبح عدم الترابط سمة واضحة في الكلام، ولكنه ليس بالضرورة مناقض للحقيقة، فالمقاومة كما يقول صفوان هي اقتراب من الحقيقة. هذه المقاومة في التحليل النفسي مرتبطة بالمقاومة التي يشير إليها ميشيل فوكو وهو يتحدث عن علاقة السلطة بالذات الفردية، فهناك فوكو كشف عن مقاومة الذات للسلطة وفي نفس الوقت؛ تلك المقاومة هي في نفس الوقت جزء من السلطة أو فرضية من فرضياتها، وهنا؛ مقاومة الأنا لذاتها هو أيضا جزء من الأنا أو فرضية من فرضياتها. وفي الحالتين لا يوجد صدام وتناقض مع الواقع؛ وإنما محاولة للإقتراب من الحقيقة. وكل من مقاومة الذات للسلطة كموضوع خارجي، ومقاومة الأنا الملتبسة بالخارج لذاتها؛ يفصحان عن أن الأنسان المتكلم يؤمن أن الحقيقة كاحتياج لاواعي موجودة بالداخل ولكن الجزء الأعظم منها موجود لدى الآخر الكبير (المجتمع). وجود الذات هنا سيأخذ طابع الدخول العرضي على الوجود الذي يحاول جاهدا أن يوقف الحركة وفي نفس الوقت يساير الحركة حتى لا يُطحن. ولا يخفى هنا أن الحقيقة التي يتحدث عنها صفوان ليست هي المعرفة المطابقة للواقع؛ بل هي حقيقة الرغبة اللاشعورية.

لو اعتبرنا العالَم مسرحا على طريقة إيرفينغ غوفمان؛ فإن تحليل الذات سيمثل الإمساك بالنصوص التي تقال في هذا المسرح لمعرفة أي أقنعة تلبسها الذات لتؤدي الدور المطلوب منها، وكيف يجري تعبئة هذه الذات بالمعنى سواء من الجمهور أو من طاقم المسرحية، وأخيرا كيف تستطيع هذه الذات أن تنفصل أو تذوب في الدور بحيث يتحدد إلى أي مدى تستطيع أن تكون واضحة ضمن الأداء الكلي. يبتكر ميشيل فوكو مفهوم الإقتصاد السياسي للجسد بالإنطلاق من مفهوم العناية بالذات للوصول إلى الفردانية التي لا تنفصل عن إدارة الدولة للجسد الممثل للذات؛ سواءً في المدرسة أو المستشفى أو الجيش أو السجن أو النادي، أو أيًّ من فضاءات الهيتروتوبيا التي يقترحها (مكالمة هاتفية، التراسل الفوري، شبكات اجتماعية)، حيث يمكن مقارنة هذه الفضاءات الموازية لعالم الذات؛ بتصوّر غوفمان عن الذات كأداء ضمن عمل مسرحي كبير. كما لو أننا نريد أن نقول أن الذات الفردية تبدأ من الإبهام الذي يستمر الكشف عنه عبر ثنائية المعرفة والسلطة التي يمارسها المجتمع على الفرد، ثم يمارسها الفرد مع ذاته ليعي تمايزها عن المجتمع، واللغة دائما تكون هي الوسيط الذي ينقل كل هذه التفاعلات.

ما أريد قوله بعد هذا التحليل؛ هو أن التدجين المفضي إلى الإستبداد يمكن فهمه كتحطيم يقع في المنتصف بين رغبة الذات الموجودة لدى الآخر والتي لا تصل إليها إلا عبر الكلام، وبين هذا الآخر الذي يعرّف جزءا كبيرا من الأنا. إن الأمر يشبه إلى حد ما توجيهات الأم لطفلها بأن يستأذنها قبل أن يأكل الشوكلاتة الموضوعة بمكان ما في المنزل. فهي تحاول إكسابه أهمية التحكم في الرغبة (الرمزي)، وتزوده بالقصص السيئة لتناول الشوكلاتة (الخيالي)، وتذكره بأهمية الإتفاق فيما بينهما (الواقعي). الطفل هنا يعلم أن رغبته اللاشعورية هي ملكه ولكنها موجودة لدى الأم، والوضع الطبيعي أن يذهب إليها ليستأذنها فتعطيه. وما يقع في لحظة التدجين التي يقع فيها الطفل ضحية للإستبداد؛ وذلك عندما تستمر الأمر دوما في الرفض ولا تستجيب له، أو تتراجع في وعدها له، أو ترفع سقف الاتفاق إلى الدرجة التي لا تشبع حاجة الطفل إلى الأم، أو تعاقبه إذا ما كرر الطلب بحرمانه من متطلب آخر أكثر تعريفا له، كأن تحبسه مثلا. الغيرية التي ستتولد في الطفل والتي يُفترض أن تجعله يستجيب طواعية للنظام من حوله؛ سوف تتشوه في مثل هذه الحالة، فربما يعمد الطفل إلى التخريب أو إلى الإستبداد بما يمثل هو الآخر له.

*نشرت بمجلة الفلق في إبريل 2017

Visits: 12