أبريل 20, 2024

براكسيس رمادي

حيث الفكرة الحرة تقود التغيير

الحقيقة والنشاط الإجتماعي بين السياسي والمثقف

محمد العجمي *

في مسرحية “حياة جاليليو” [1] التي كتبها الألماني برتولت برشت في 1945، يخاطب أندريه سارتي؛ أحد تلاميذ جاليليو؛ استاذه الذي تبرء للتو أمام المحكمة من آرائه حول مركزية الشمس؛ قائلا بغضب: تعيسةٌ الأرض التي لا تلد أبطالا. فيجيبه استاذه جاليليو الحكيم: لا يا أندريه. تعيسةٌ الأرض التي تحتاج إلى أبطال. كان أندريه غاضبا لأجل الحقيقة التي يتبرأ منها جاليليو وهو يحاول أن ينفذ بجلده من العذاب وقد بلغ من السن عتيا أوشك فيه أن يفقد بصره، ولكن جاليليو الرافض لفكرة أن يكون بطلا؛ لأن الحقيقة هي البطل الذي لا بد أن ينتصر، كانت عينه على أجيال إيطاليا وهي تشاهد هذا الأستاذ العظيم غير قادر على الإعتراف بالحقيقة. ستتسائل في البداية، ومع التساؤل ستتحقق نبوءته بانتصار الحقيقة، فهي التي ستجيب على تلك الأسئلة. سُجن جاليليو بعد تلك المحاكمة ومنع من الكتابة والتدريس، وقضى أواخر حياته في عزلة ووحدة؛ ساهمت على عكس توقعات الكنيسة في انتشار أكبر لأفكاره ليس في إيطاليا فحسب؛ بل في كامل أوروبا. أكثر من ذلك؛ أن جاليليو وفي تلك العزلة؛ نشر ثلاثة كتب عرفت طريقها إلى العالم قبل أن يرحل عن الحياة، كان أندريه نفسه شاهدا على أحدها مقرّا بظلمه لأستاذه عندما ظن أنه خان الحقيقة، إلا أن جاليليو لخّص له المشهد كاملا عندما قال له: لقد علمتك العلم، غير أني أنكرت الحقيقة. وهذا ما شهده جاليليو قبل رحيله عندما أخذ العلم يكتسح ميادين فلسفة القرون الوسطى شيئا فشيئا.

كان جاليليو يريد تجنّب إرهاب محكمة التفتيش، وقد أخبر تلميذه أنهم عرضوا عليه آلات التعذيب، غير أنه في الوقت نفسه عمل عن قصد أو غير قصد على تنزيه العلم عن الصراع مع سلطة الكنيسة. الدخول في ذلك الصراع كان سيجعله يتنازل عن أهم مبدأ من مبادئ العلم؛ وهو المبدأ الذي أعلنه أندريه قبل أن يودع أستاذه الوداع الأخير قائلا: ليس للعلم سوى قانون واحد، هو الإسهام في العلم. البحث عن مساحات العمل التي تجنب الدخول في تحالفات تضيع الرسالة وتشوش الهدف؛ عملية مربكة تتطلب الدقة في ملاحظة موقع الحقيقة ضمن هذا الصراع. يجوز لي هنا أن أربط هذا التمييز عند جاليليو بين طريق الحقيقة وبين الحقيقة نفسها مع تمييز آخر في التفاعل الإجتماعي مع الحقيقة؛ تمييز أقامه ماكس فيبر[2] بين ما سمّاه “أخلاق المسؤولية” و”أخلاق الاعتقاد”. فالتفاعل الذي تحرّكه المسؤولية ينطلق من اعتبار الحقيقة كائنا صلبا متجسدا في المجتمع وبالتالي يجب حماية المجتمع ممن يحاول تدمير هذه الحقيقة، بينما ينطلق التفاعل الذي يحرّكه المعتقد من أحقية الأفراد بالحقيقة وبالتالي يجب حمايتهم ممن يحاول منعها وحجبها عنهم. الخطأ في ظل أخلاق المسؤولية سوف يُنسب إلى حماقة الأفراد، بينما في ظل أخلاق الإعتقاد فسينسب إلى حماقة النوع البشري. الأول سيستدعي عقوبة آنية والثاني سيستدعي عقوبة مؤجلة. جيرار ليكلرك سيعتبر النخب السياسية هم الأقرب لأخلاق المسؤولية، بينما النخب الثقافية هم الأقرب لأخلاق الإعتقاد [3].

إن هذه المقابلة تكشف عن تمايز مهم بين سلطة السياسي وسلطة المثقف، فالأول عينه على الحقيقة، والثاني عينه على الطريق إلى الحقيقة. الأول يرى نفسه مسؤولا عن حماية الحقيقة، بينما الثاني يرى نفسه مسؤولا عن الطريق إليها. وإذا قلنا؛ على طريقة ميشيل فوكو؛ أن السلطة هي محصلة العلاقات الكبرى داخل المجتمع[4]، فسيكون السياسي هو شكل السلطة، بينما المثقف هو روح السلطة، وهكذا يمكن تمييز السياسي بسهولة من خلال وظيفته وأدائه، بينما يظل المثقف غامضا مختفيا خلف العبارات والرموز. المجتمع يشعر بسلطة السياسي عليه، ويتعامل معه على هذا الأساس، بينما يتعامل مع المثقف باعتباره شخصا غريبا بلا وظيفة محددة ولا هدف واضح. بطبيعة الحال هذا الغموض هو سلاح بيد المثقف؛ إذ عن طريق ذلك يستطيع أن يُسرّب رؤاه وتصوراته إلى قلب المجتمع لكي يزوّد هذا المجتمع؛ ومن حيث لا يشعر؛ بالأدوات التي سيستخدمها في مفاوضة السياسي لتحسين أداء الممارسة السياسية، ولو كان المثقف واضحا ومكشوفا لاستطاع السياسي أن يزيحه بسهولة أو يضمه تحت جناحه. إن الفرق بين شكل الشيء وبين روحه؛ هو أن مساحة الإشتغال بروح الشيء أوسع وأرحب من مساحة الإشتغال بشكله المُحدد، وهي الأعمق أثرا والأكثر خطورة على المدى البعيد.

المجتمع في هذا التصوّر ليس مفعولا به كما قد يبدو، بل على العكس؛ هو المادة الخام التي ينتج عنها كل من السياسي والمثقف، وهو الممثل الأوحد الذي يستطيع أن يعطي للحقيقة قوتها التنفيذية، وبالتالي هو الذي يستطيع أن يكشف الزيف في أداء كل من السياسي والمثقف. فباسم الحقيقة؛ يفوّض السياسي ليلعب دور التنسيق بين الإرادات حتى لا تتصادم، ويمدّ المثقف بالرموز التي تساعده على رسم الطرق الممكنة. ولا ننسى هنا أن المقارنة بين السياسي والمثقف مجازية وليست حقيقية، فهي ليست بغرض التفضيل ولا التمييز الحاد؛ بل لعرض شكل العلاقة عندما تكون بين المتشخص وغير المتشخص، حيث تظل عرضة للتأويلات والإجتهادات واقتراح النظريات التي تملأ الفراغات الكثيرة، وعبر هذه التأويلات تتسرب أفكار المثقف إلى المجتمع الذي يبدأ في الوعي بذاته الكلية من خلال ما يكتشفه من قوة في الحقيقة التي يمتلكها. هذا بالضبط ما حصل في حالة جاليليو وموقعه كطرف ثالث واقع بين السلطة السياسية والمجتمع، فالحقيقة كانت لدى المجتمع، ولكنه غير مدرك لها. رسم جاليلو الطريق إليها في نفس الوقت الذي أنكرها حماية لنفسه، وتسرّبت أفكاره من خلال الغموض الذي يلف وظيفته كمُصلح أو كمثقف أو كمفكر؛ أو حتى كفيزيائي أو فلكي أو رياضياتي يشتغل بأشياء غامضة غير متداولة ولم تثبت بعد كحقائق.

جاليليو بموقفه ذاك وضع كل المختلفين مع السلطة أمام الإحراج الذي يتسبب به عادة الرضوخ والإذعان للسلطة، بمن فيهم تلاميذه الذين آمنوا بأفكاره. فهل حقا الحقيقة لا تحتاج إلى أبطال؟ يقترح ميشيل فوكو وجود خط افتراضي فاصل داخل الحقيقة التي يتصارع عليها الجميع؛ تصبح الحقيقة بعد وقبل هذا الخط إما حقيقة تؤسسها وتديرها السلطة السياسية باسم المجتمع، أو تظل ملكية خاصة للمجتمع يتم التفاوض على أساس ذلك مع السلطة. طريقة السلطة في تجاوز ذلك الخط للاستحواذ على الحقيقة هي تلك التي عبر عنها جيل دولوز بقوله: “إن السلطة لا تتخذ من الحياة هدفا لها دون أن تكشف عن حياة تقاوم السلطة ودون أن تظهرها”[5]. فالسلطة تخفي أن مقاومتها جزء منها، وأنها تتعزز عبر هذه المقاومة. آليات هذا التعزيز ليست واضحة للفرد، إذ أنها مرتبطة بتلك الشبكات المعقدة التي تصنع نسيج السلطة داخل المجتمع. فالسلطة التي يرفض فوكو أن يكون لها جوهر؛ وبالتالي غير قابلة للتملك أو الإنتقال، تشكل لنفسها مراكز قوة تنتشر انطلاقا منها. إحدى الآليات التي يقترحها فوكو هو ذلك الربط الذي تقيمه السلطة بين الموت والآخر؛ على طريقة “الجحيم هم الآخرون”؛ العبارة التي أطلقها جان بول سارتر في مسرحيته “لا مخرج”.

الموت هنا هو ذلك المفهوم الذي يجمع تحت مظلّته مختلف أشكال الفناء والنهاية ليس للذة فقط؛ بل وللألم أيضا. فهو الوصول إلى الحد الأقصى من الحقيقة والذي لا عودة بعده. والحياة بالتالي ستكون مقاومة الموت. الموت مشكلة الأحياء لا الأموات على حد تعبير نوربرت إلياس. تكتسب السلطة جزءا من مشروعيتها من خلال التخويل الذي تمنحه لنفسها في منع ومنح هذا الموت. وتنفذ ذلك عبر أنماط كثيرة نلاحظها في التربية والأخلاق والإعلام والقانون والتعليم والفعاليات الإجتماعية؛ تربط الموت بالآخر. فالآخر الذي يمكن أن يكون العائلة أو الأصدقاء أو المعلم أو المسؤول أو التاجر أو رجل الدين أو أي صاحب مهنة يقدم خدمة ما للمجتمع؛ كل هؤلاء سوف تجمعهم كلمة “الموت” الذي يجب التفاوض معه أو مقاومته أو اللجوء إلى مراكز القوى بالسلطة لتحمينا منه؛ مع الإيمان تماما بأن هذه المراكز ما هي إلا تجليات لهذا الآخر. ما تفعله السلطة في واقع الأمر هنا هو صنع لحظات موت مرحلية يقاومها الأفراد لتخضعهم من حيث لم يحتسبوا. لحظات على شكل تصادمات مع الآخر لا تنفك أن تتحول إلى عمليات تفاوض مجهدة لئلا يستحوذ هذا الآخر على حق الحياة.

مقاومة السلطة في الاقتراح الفوكولدي هي إحدى الآليات التي تتجاوز فيه السلطة مساحة المثقف باتجاه المزيد من الاستحواذ على حقيقة المجتمع لاحتكارها وتمثيلها بشكل رسمي. على الطرف الآخر من هذا الخيط الفاصل؛ يقف المثقف متفكرا ماذا يصنع وكيف يتصرف، فهو كلما قاوم السياسي/الآخر كلما تمدد على حسابه أكثر. يطرح فوكو هنا مسألة إعادة التفكير في الموت؛ الوسيلة الرئيسية للسلطة في التحكم بالحقيقة، بحيث ينتقل الفرد من اعتبار الحياة “مجموعة وظائف مقاومة الموت” واعتبار الموت كلحظة حاسمة واحدة؛ إلى تفتيت الموت إلى ميتات جزئية ومتكررة وفردية وعيشها كحيوات مهمّشة تتجدد في كل مرة بعيدا عن إدارة السلطة لهذه الميتات[6]. هذا التصوّر سوف يكشف الواقع الحقيقي للسلطة كونها ليست مملوكة من قبل مؤسسة أو جهة معينة تصادر قرار الموت النهائي؛ بل هي شبكة علاقات تتصارع داخليا ويمكن الإنسلال والتخلص من قبضتها عبر التعامل معها كأجزءا وليس ككل. إنها تلك اللحظة في فلم روي أندرسون “أغاني من الطابق الثاني”؛ التي كان فيها أحد المشردين يفتّش عن طعام له في مكب نفايات وفي نفس الوقت يلاحظ بسخرية أولئك العالقين في زحمة شارع منذ ساعات.

كما لو أن ما قام به جاليليو؛ وما يمكن أن يقوم به المثقف؛ هو مقاومة السلطة عبر عدم التفكير فيها، بل بالإنتماء إلى تلك الفئة المهمشة جدا بالمجتمع. تلك الفئة التي تستطيع أن تفعل ما تشاء دون أن يشغلها هاجس أن تحصل على اعتراف من السلطة. مشاريع كثيرة يمكن أن يمارسها المهمشّون يتدربون خلالها على الموت البطيء ويكسرون بذلك فكرة الحقيقة الكلية المطلقة التي يتحكم في السياسي. جاليليو فعل ذلك وأحب عزلته ومارس حقه في مقاومة الموت على طريقته؛ لا على طريقة السياسي الذي في النهاية لم يعرف نفسه هل يحب أم يكره جاليليو، فسمح له؛ من حيث لا يشعر؛ بأن يكتب ثلاثة كتب كانت كلها تأكيدا ودفاعا عن نظرية مركزية الشمس، وليتحول جاليليو بذلك إلى بطل؛ ليس في حياته، بل بعد موته.

—-

تعليقات وهوامش:

* نشر هذا المقال بمجلة الفلق في يونيو 2016

[1] برتولت برشت، حياة جاليلو، ترجمة عبد الرحمن بدوي، سلسلة من المسرح العالمي، العدد 11، سبتمبر 2009

[2] ماكس فيبر، العلم والسياسة بوصفهما حرفة، ترجمة جورج كتورة، المنظمة العربية للترجمة 2011، ص352

[3] جيرار ليكلرك، سوسيولوجيا المثقفين، ترجمة جورج كتورة، دار الكتاب الجديد 2008، ص91

[4] ميشيل فوكو، إرادة المعرفة، ترجمة مطاع صفدي وجورج أبي صالح، مركز الإنماء القومي 1990، ص102

[5] جيل دولوز، المعرفة والسلطة مدخل لقراءة فوكو، ترجمة سالم يفوت، المركز الثقافي العربي 1987، ص101

[6] Michel Foucault, The birth of clinic, Trans. A.M.Sheridan, Routledge 2003, p142     

Visits: 0